اهتم بالمظاهر ونسي تغيير المنظومة نفسها.. هل أخطأ عمر بن عبد العزيز في حكمه؟
لكحل رابح
شبكةالمدارالإعلامية الأوروبية…_من العادات التي أظنها طيبة عندنا في الجزائر ربط فريضة الزكاة بشهر محرم من كل سنة، حيث يتم تكثيف دعوة الناس وتذكيرهم بأهمية وشروط هذه الشعيرة الربانية، ويضاعف الأئمة والوعاظ الدروس الشارحة لمختلف جوانبها، كما يشرع المشرفون على الصندوق الوطني للزكاة في حملتهم لجمعها وتوزيعها.
ومما لاحظت تكراره كل سنة تقريباً تركيز الغالبية من أئمتنا على ذكر الملك الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز كمثال للرشد في توظيف أموال الزكاة، والأثر الطيب لذلك على واقع الناس، والحقيقة أن عمر بن عبد العزيز أخد شهرة كبيرة في تاريخنا، بحيث يقدمه بعضهم على أنه خامس الخلفاء الراشدين لما عُرف من تقواه وما حققه من إنجازات عادت بالخير على حياة الناس، واهتمامي هنا ليس بشخص “ابن عبد العزيز”، إنما قصدت بهذه المقدمة طرح قضية مهمة تناقش حدود وأهمية تقوى الفرد في منظومة الحكم القائمة على الاستبداد والظلم، ومنه مبدأ وحدود المشاركة فيها.
أولاً: تجربة عمر بن عبد العزيز: بلمحة تاريخية سريعة ومختصرة نجد أن ذكره يُقرن دوماً بأخلاقه العالية، فيضرب به المثل، خاصة في الزهد والأمانة، والتواضع، وشدة الخوف من الله، والعدل، كما يقدمه المؤرخون على أنه رجل دولة تدرج وتمرّس على الحكم والياً، فكان قريباً من صانعي القرار، فلما وُلي الخلافة كان يملك من الخبرة والتجربة ما سمح له بمباشرة مهام الملك، وحقق نجاحات على عدة مجالات، وتميزت تجربته القصيرة (سنتان و5 أشهر، من 99هـ إلى 101هـ) بـ:
1- في سياسته الداخلية: حرصه على الابتعاد عن مظاهر أبهة الحكم، وتشدده في التدقيق في اختيار الولاة وأعوان الدولة، كما اشتهر بحرصه على إشاعة العدل بين الناس.
2- في سياسته المالية: انطلاقاً من زهده وأمانته أولى المال أهميةً خاصة، في محاولة لتغيير نظرة منظومة الحكم للمال العام، فكانت نظريته تنطلق من كون المال مال المسلمين وليس مالاً خاصاً للملك أو واليه وحاشيتهما، ولهذا شدد في ضبط عمليتي جمعه وتوزيعه، ومنع ما كان يقوم به أسلافه من صرف بدون ضابط ولا رقيب للمال العام، وحرص على إنفاقه فيما يفيد الناس ويعود بالنفع على الأمة، ونجح في ذلك إلى حد كبير، لأنه بدأ بنفسه فأعطى القدوة والمثال في حفظ مال الدولة فتبعه ولاته.
3- في سياسته الخارجية: حين تولى المُلك كانت دولة بني أمية قد بلغت أقصى اتساع لها في الشرق (محاصرة القسطنطينية)، والغرب (فتح الأندلس)، لكن يظهر أن عمر بن عبد العزيز كان له رأي آخر يقوم على:
– الأولوية لإعادة تنظيم الدولة من الداخل.
– الاهتمام بتحسين أحوال الناس، ومراعاة حقوقهم وصون دمائهم.
– عمل على ترشيد حركة الفتوحات بالاهتمام بنشر الإسلام في البلاد المفتوحة، بإرسال الدعاة والعلماء، أكثر من اهتمامه بإرسال الجيوش.
ثانياً: نتائج تجربة عمر بن عبد العزيز: بالرغم من أهمية فترة حكمه وحرص المؤرخين خاصة على ذكرها والإشادة بنجاحها، وحتى الدعوة لاعتمادها كتجربة معيارية تُدّلل على إمكانية العودة إلى قيم الإسلام الصحيحة في الحكم، وبغض النظر عن المبالغات من بعضهم (تعدت في بعض الأحيان القصص الخرافية لألف ليلة وليلة)، في تعداد نجاحاتها وما رافقها من انتشار للخيرات (إلى درجة أن تجد من يذكر أن في عهده تم القضاء على الفقر تماماً!).
لنسأل أنفسنا ماذا حدث بعد موت عمر بن عبد العزيز مباشرة، وما مصير تجربته والسياسات التي اعتمدها أثناء حكمه؟
الإجابة سهلة ومتوقعة، فمباشرة بعد اعتلاء ولي عهده يزيد بن عبد الملك عرش الملك عاد كل شيء إلى ما كان عليه قبل عمر، فلا شورى في الحكم، ولا عدل في القضاء، ولا مساواة في توزيع الأموال والثروات، وانتصر الحاكم الجديد إلى قيم السياسة التي بُني عليها مُلك عائلته، والقائم على نظرية الجبرية الأموية، أو ما ادّعوه بقولهم “نحن من قدر الله”، ويمكن تفسير ذلك بـ:
1- عمر بن العزيز اهتمّ بمظاهر الحكم ونسي قيمه، فالملك قائم على قيم القهر والاستبداد واستئثار الطبقة الحاكمة بالأموال والمزايا، وهذا ما جعلهم (الدولة العميقة) يسارعون إلى التخلص منه (المشهور أنه مات مسموماً بتدبير من أمراء بني أمية)، بعد أن توجسوا من نيته بالسعي لحرمانهم مما اعتادوه من حياة الترف والبذخ.
2- غير عمر بن عبد العزيز الأشخاص (مثل عزله للولاة المشهورين بظلمهم)، وغفل عن تغيير منظومة الحكم التي أتت به وبهم وهي الأهم.
3- زرع بذور الأمل بالخير، وترك رعايتها لمن لا يُؤمن بجدواها، فجاء اليزيد واقتلعها كلها، وثبت بدلاً عنها شجرة الخوف والجوع ليقاتت منها الناس إلى يومنا.
4- رغم أنه كان رأس النظام فإن مشروعه الإصلاحي كان الوحيد الذي يؤمن به، وغفل عن تشكيل طبقة سياسية ذات عمق شعبي، تحضن المشروع وتكمل مسيرته حتى في غيابه.
ثالثاً: تجربته في وقتنا المعاصر: منظومة الحكم في عصرنا أشد تعقيداً وأكثر قوة مما واجهه عمر بن عبد العزيز، فبالإضافة إلى ثقل القيم السياسية المجحفة المتوارثة، وسطوة الدولة العميقة (والتي تمثل الطبقة المتجذرة والمستفيدة من الوضع) المستترة والمتنفذة، يتدخل عامل ثالث لم يكن موجوداً في عهده بقوة وتأثير اليوم، ممثلاً في طغيان التدخل الخارجي.
ولهذا فالسير في مسار المشاركة في الحكم، في ظل منظومة الفساد والقهر، وفي وجود الطامع الأجنبي لم يُنتج أي شيء يفيد الشعوب، بل زاد في تيئيسها، إما بدفعها إلى أحضان المستبد ليستمتع باستعبادها أكثر فأكثر، أو بالسير في الطريق العدمي واعتماد العنف كوسيلة لتحقيق بعض المطالب، أو الانكفاء حول الذات والاستقالة من الشأن العام.
وها هي تجارب المشاركة بالتواجد في منصة الحاكم (وليس بالضرورة في الحكم) في مختلف الأقطار العربية (في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل)، ثبت فشلها وكانت نهاياتها مأساوية إما:
1- نهايات دموية بين إبادة وقتل وتشريد بيد الشريك الظالم (الدولة العميقة)، كما حدث في تجربة مصر، والسودان، وقبلهما الجزائر.
2- أو الخروج منهكاً ومثخناً بخسائر شعبية فادحة، وتضييع لرصيد جماهيري واسع كأدنى الخسائر، كما حدث في تجارب الجزائر، والمغرب، وحتى تونس… إلخ.
رابعاً: ولهذا أقول وأؤكد أن مستقبلنا الزاهي لا يكون إلا بـ:
1- تغيير جذري لقيم السياسة والحكم، تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في توزيع المناصب والثروات.
2- ولن نتمكن من ذلك إلا بتغيير منهج تفكير النخبة الخيرة الناضجة بمختلف توجهاتها، وأول مظاهر نضجها إدراكها أن التكاتف لرد المظالم يكون بالتحالف على أساس قيمي مبدئي، وليس أيديولوجي كما هو معتمد حتى اليوم ومند خروج الاستعمار العسكري المباشر عن أراضينا.
3- التخلي تماماً عن فكرة المشاركة في الحكم (تحت مظلة القهر والظلم والاستبداد)، والانخراط في مشروع تحرر وطني، فالمجتمعات الناضجة هي التي بإمكانها إقامة حكم سياسي ناضج وراشد.
4- والمجتمع الراشد هو نتاج تأطير نخبة راشدة، والنخبة الراشدة بطبعها واعية تتبنى مشروعاً ناضجاً يحميه ويدعمه عمق جماهيري يقوم على:
أ- اهتمام الناس فيه بتصحيح مبادئ الحكم وتثبيتها أكثر مما يهتمون بأشخاص الحكام.
ب- التركيز على بناء نظام عبقري يسمح بإيصال القائد العبقري إلى سدة الحكم وليس العكس، فعلى مدى قرون من حكم منظومة الاستبداد، من حرب صفين إلى يومنا، أخرجت لنا بالخطأ عبقرية واحدة ممثلة في شخص عمر بن عبد العزيز، وسارعت إلى قتله ومحو آثاره.
ج- تكريس مبادئ سياسية تضمن العدل والحرية للجميع، وتسمح بتوزيع عادل للثروة والحكم، ولا يهم بعد ذلك أي طرف فاز، فالقاضي هو الشعب، والإنجاز في الحاضر الذي يسمح بالسير نحو المستقبل هو الفيصل، ولا مجال للوصول إلى الحكم أو الاستمرار فيه باسم التاريخ أو الجغرافيا. فها هو مثلاً الرئيس الشاذلي -رحمه الله- الذي وصفه الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- أثناء إقامته بالجزائر بقوله: “إن له قلب رجل مؤمن”، رغم ذلك انتهى حكمه بما عرفته الجزائر من تقتيل، تهجير وتبديد للطاقات البشرية والمادية في صراع عدمي، فتقوى الحاكم جيدة كضمان إذا كانت منظومة الحكم تقيّة وصحيحة وراشدة.
عربي بوست