ضد التأجيج العنصري في السودان
المنصور جعفر
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يعرض هذا النص بعض أسس وأشكال التكوين والتأجيج العنصري للنزاعات في السودان ومفاقمة بداياتها الضيقة وطبيعة تحويلها إلى حرب أهلية في الغرب بين عرب إقليم دارفور وزرقته وحرب أهلية كبيرة في عموم السودان بين مجموعة الوسط النيلي وكل أو بعض المجموعات الاثنية الأخرى. مع اوضاح لأساليب تأجيج وإمكانات خفض النزاعات وتأجيجاتها وتريقة سمومها.
1- البداية الإقتصادية الإجتماعية:
لعل من أهم أسباب النزاعات في بلاد السودان المتعددة المجتمعات السبب المواشج لطغيان نخب تنتسب إلى مجتمع معين من هذه المجتمعات وتحكمها النسبي الكبير في كثير من مقومات معيشة بقية المجتمعات المتعايشة معها. فغالباً ما تسيطر المجموعة النخبوية على مقومات مهمة لفاعلية حياة المجتمعات المستضعفة بأساليب تجارية وحكومية لإدارة الموارد العامة معيقة تنمية ومعيشة كل المجتمعات وبالذات معيشة غالبية الفئات الكادحة في كل مجتمع، ومكانات تحسين مستقبله.
كثيراً ما توصف هذه الأساليب بأنها “خلل في إدارة موارد الدولة”، ألا إنها فجوة بين نصيب نخب المركز (أقل من 1% من عدد السكان) ونصيب غالبية السكان في الثروة العامة. أي إن نصيب 1% يناهز نصيب 99% في قسمة ثروات البلاد على حوالى 45 مليون إنسان.
“خلل الموارد” وصف فقد بالانفعال السياسي حسابه الموضوعي فالنسبة المئوية العظمى من ثروة البلاد التي يتقاسمها كبراء الدولة وزعماء المجتمع وهم أقل من 1% من السكان صارت تنسب إلى العاصمة ومنطقة الوسط النيلي بكل ما فيها من مناطق مهمشة وقرى بائسة ومدن خربة كلها عامرة بالفقراء! ثم بنفس الانفعال احيل هذا النصيب إلى كل المجموعة الإثنية للوسط النيلي بشكل حولها كلها بصغارها وكبارها ومتوسطيها وفقراءها إلى مجموعة ظالمة.
غالبية سكان الوسط كادحون يعانون في معيشتهم في العاصمة واخواتها رغما عن ما فيها من مظاهر رفاه محتكر للنخب. ومدن الوسط مثل المدن مزدحمة بالسيطرة النخبوية والاستغلال التجاري والرأسمالي مع كثافة سكانية عالية نزحت غالبيتها خلال عشرات الأعوام من بؤس المعيشة في الريف إلى المدن الكبرى والعاصمة، ذلك البؤس الذي كرسه النظام الليبرالي وتحكمه التجاري والرأسمالي في مدخلات ومخرجات معيشة أرياف السودان.
مع قيام الاحالات العاطفية بنقل مسؤولية الظلم الاجتماعي وصناعة شره من النخبة الى كل منطقة العاصمة والمدن الكبرى ثم تعميم هذا الظلم على كل المجموعة الاثنية للوسط النيلي بل الى عموم متكلمي العربية صار كثير من الناس بحالات معيشته غريباً عن فكرة الوطن بل شاع فيهم إن وسط السودان هو عدوهم وملجأهم في نفس الآن.
زادت الامور غرابة بسيرورة غالبية حركات التحرير والمساواة إذ نشأت في الريف ثم إنتهت نخبها إلى تولي مناصب في الدولة دون تغيير حقيقي في طبيعة الحكم والتنظيم المالي والاقتصادي الضروري لمعيشة الناس أو في شكل التسيير الاداري!
2- كسر أساس النزاعات:
لخفض مثل هذا الطغيان النخبوي والنزاعات المواشجة له تبدو أهمية تحكم المجتمعات تحكماً ديموقراطيا شعبياً في موارد ووسائل معيشتها وخدمات حقوقها وضرورة اشتراكها الأفقي والرأسي في ترتيب أمورها وتنميتها إشتراكية علمية الضبط والنشاط والتجديد.
منطقاً يحتاج تغيير إقتصاد النزاعات المختل المعيشة والتنمية، إلى كسر الصور العنصرية التي تعيق إدراك الناس للطبيعة الاقتصادية لوجود نزاعاتهم وتبث فيهم التأجيجات الملازمة للنزاعات.
3- طبيعة الصور العنصرية:
كثير من الصور الاجتماعية التاريخية والمعاصرة المؤججة للنزاعات صور حقيقية لكنها تقدم في الوسائط منتزعة من سياقات زمانها ومن التفاعلات الموجية التي تكونت في التاريخ المعاصر والزمان الحاضر ضد المظالم القديمة.
واقعياً تقدم إمدادات ثقافية شتى إلى هيئات المعرفة ووسائل الاعلام/التضليل صوراً يستعمل بعضها في تأجيج عنصري بأسلوب “ظالم ومظلوم” لا متسع فيه لثقافة عصره وأوانه أو لفهم قرار معين من جماعة إزاء جماعة الأخرى.
نوع التقديم الجزاف للصور القديمة للصراع الطبقي في بلاد مملكة أو ممالك قديمة تقديم يغذي الشعور الإثني بخيره وشره ويخفض إمكانات معرفة السيرورة التاريخية للأمور، وعندما تنخفض بعض أجزاء المعرفة تنخفض معها بعض إمكانات فهم الأمور وتنسد بعض طرق عقلنتها.
4- أسلوب العنصرة:
تبدأ حالة دغدغة المشاعر الاثنية وتحويلها بنعومة إلى عصبية قومية ثم إلى عنصرية بكلام موضوعي موجب عميم عن مجد تليد لكل تاريخ مجموعة اثنية وحضارتها المتميزة! -رغم ان كل الحضارات متميزة- ثم بشكل صادم تراجيدي يروي نفس الكلام قصة عن مصرع هذه الحضارة (والمجد المنسوب لها) بيد إثنية أخرى تنتسب لها نخبة الدولة الحاضرة.
الاثنية القاتلة لا توصف بانها من نفس المكان أو بانها مصاهرة أو كجنود لحكام الدولة بل تقدم كدخيلة إما من الجيران أو من لدن مهاجرين متوطنين (دخلاء). وبهذا الأسلوب التراجيدي والإفظاعي لجريمة دخيل على أصيل يثور غضب بعض الإثنيات على بعضها بمنطق “إثنية كلها ظالمة وإثنية كلها مظلومة”! (لاحظ خلل التعميم).
5. استغلال التعصب لصور أكاديمية:
تزيد أو تنخفض بعض حالات التعصب القومي والعنصرية و تأجيجها بتأثير بعض الأعمال التعليمية والتثقيفية في هيئات المعرفة والإعلام/التضليل. ففي الدول والمنظومات الليبرالية المحترمة حرية تملك بعض الأفراد لموارد المجتمع ومتاجرتهم فيها تقدم ضمن علم إناسة الثقافة (الانثربولوجي غير الاقتصادي) صوراً إثنية اختزالية وتعميمية تهمش طبقية التاريخ وتعمم أمجاده على كل الإثنية.
يغذي هذا النوع من التصوير غير الطبقي بل غير الجدلي تصورات تعصبية أساسها غرس صورة بسيطة مثالية لحال مجيد كانت تعيشه الاثنية والمجتمعات التي كانت تحكمها نخبة هذه الإثنية ثم بعد قدر من التفاصيل الزاهية تحكى قصة ختامية عن هدم هذا المجد بفعل إثنية أخرى.
أي ان المعالم الطبقية لوجود وتطور وموات دولة الحضارة/الاثنية تستبعد من التحليل الثقافي لوجود تلك الدولة النخبوية الاثنية وتستبعد مع هذه المعالم التناقضات الداخلية للمجتمع الطبقي ودولته ويستبعد معهم عامل تدهور قوة تلك الدولة وسط عالم صراعات وبدايات تاسس دول تزيد قوة كانت في الماضي تمتد على مساحتها وتسود في زمانها دولة النخبة الآفلة!
توكد الحقائق التاريخية لتطور الصراع الطبقي إن أمجاد الحضارات القديمة كانت مجموعة من الأعمال المادية والثقافية محتكرة للنخبة المتملكة أمور المجتمع والمسيطرة على أمور كل جماعاته الإثنية. وهي نخبة ظالمة تطفف موازين توزيع جهود وموارد المجتمع بكل اثنياته. أي إن أمجاد كل حضارة لم تكن امجادا مشاعة لكل من هب ودب في الدولة التي تنسب إليها الإثنية، وإن حالة وراثة المجد القديم حالة كرمية عتيقة في أدب التاريخ وليست حالة موضوعية لتأريخ دولة حديثة.
اسلوب عرض تاريخ مجتمع بشكل إثني ثقافي التركيز خلاصته حضور ثم مقتل أمجاد النخبة التي كانت تحكم هذا البلد أو ذاك اسلوب قديم شائع في ثقافة المجتمعات يحتكر فيه فرد أو مجتمع الخير وينسب الشر إلى الآخرين.
هذا النوع من الحكايات الذي يختزل قصة وجود وتطور بلد ومجتمعاته في فترة نشأة ومجد ثم فترة اغتيال أو قتل هذا المجد يثير اتعاطفاً قوياً في سامعيه مع الصورة النخبوية الزاهية القديمة لدولة الاثنية مثيرة في النفس ألم من مصرعها. وبتراكم و تفاعل الزهو والألم الاثني التاريخ تتكون بداية تعصب قومي يسهل تحوله أو تحويله إلى نشاط عنصري فتاك.
قد يبدأ النشاط العنصري عداواته ضد من وما ينتمي إلى الاثنية الخصم أو يشاركها بعض قسماتها ثم لا تتوقف العداوة عن الشك والضرب ضد بقية المختلفين عن قسمات أو لغة المتعنصر أو عن التاريخ الذي صوره تحريف الساسة لأمور أكاديميا الثقافة كتاريخ لاهل الدولة التي أفلت.
تفيد زيادة الاطلاع على الشق المادي من علم الاناسة المادي ودراسة الثقافة المادية للمجتمعات في إنهاء التناقض بين أسلوب الحكي المنتسب لآيديولوجيا و أنثروبولوجيا الثقافة في جهة وواقع معيشة وترتيبات حياة المجتمعات والممالك القديمة وثقافتها.
سبب فائدة الأسلوب المادي التاريخي في دراسات الاناسة والثقافة هو تبيينه المعالم المعيشية وما اليها في نشاط وتفكير حياة الناس في الماضي وفي الحاضر ويوضح طبيعة وضرورات تطور وجود المجتمعات ويفسر قدراً مهما من تغيرات معالم حياتها العملية والثقافية والسياسية.
6- بداية بديل العنصرية:
لعل أبسط بداية تخفض الاحتقان والعنصرية هي تحديد مسؤولية سياسة فئة معينة عن بؤس الوضع المعيشي والوطني الحاضر وتحديد بديل للمنظومة المعيشية/الإقتصادية الظالمة مع بيان كيفية تمكين البديل وبداية تحديد الأزمة والحل بتركيز الكلام على أمرين:
(أ) عرض وانتقاد تحكم بعض الفئات في أجزاء مهمة من معيشة وحياة غالبية الفئات الأخرى داخل وخارج منطقة أو اثنية أو ثقافة المسيطرين.
(ب) أوضاح وحفز امكانات التعايش المثمر والتعاون المعز للتنمية بين مجتمعات الإثنيات /المناطق المتنازعة واشتراكها في إدارة أمورها اشتراكية علمية التنظيم.
7- انهاء التأجيج وكيفية إطفاءه:
(أ) بعض اتجاهات التأجيجات العنصرية، ونقاط ضعفها:
اتجهت وتتجه التأجيجات العنصرية بتركيزات وأساليب شتى إلى مخاطبة الفروق المعيشية والسياسية وحتى اللسانية بين أهل بنيتي السودان الاثنيتين الكبيرتين: البنية العروبية والبنية الإفريقانية، وهما بنى نسبية ككل بنى مجتمعات العالم ليست بذات عرق واحد أو ذات نقاء عرقي.
في غالبية دول العالم الثالث وفي السودان تأجيجات عنصرية تستفيد من أفكار أكاديمية راقية وأخرى متموهة بكلام الساسة عن “المساواة” وثالثة تتكلم عن فروق وجنايات تاريخية وحضارية وتمارس هذه التأجيجات في تمازجات البنيتين النسبيتين العروبية والإفريقانية.
في دارفور يخاطب التأجيج أهل البنية العربية اللسان وكثرتهم في دارفور رعاة وأيضاً يخاطب أهل البنية آلإفروصوتية وكثرتهم في دارفور زراع أو كانت من الزراع. يبدأ التأجيج من حادثة أو حوادث المعيشة حول تغول الحيوان على الزرع أو تسبب زراعة القرية في إعاقة حركة الحيوان ورعيه، وبعد إدانة الطرف الآخر حتى لو كان مظلوماً يأخذ التأجيج في تعداد الماسي القديمة التي سببها كل طرف للآخر ومن ثم ويدين كل إثنية الطرف الآخر أو قد يبدأ في الكلام عن دولة مثالية لا اثنية التمركز لكنها تجارية/ رأسمالية التمركز!
مع تدهور المعيشة في مجتمعات البنيتين العروبية والإفريقانية بسبب تدهور البيئة والمناخ وظروف التجارة وانعدام التنمية حيث ترك الزراع حمية الدفاع عن موسم جهدهم مع انصرافهم عن الزراعة وتحولهم إلى التعيش بالتجارة الصغيرة خاصة بعد تجمعهم في امان مخيمات المنظمات التي نزحوا إلى يسر حياتها من عنف وشظف عيشهم كمفقرين في المدن وهوامشها ولجوئهم اليها من انعدام حقوق الصحة والتعليم ومن كثرة حوادث النزاعات وإحراق القرى بغزوات عدوان أصيلة أو ضمن حملات انتقام بشع. وأيضاً ترك الرعاة حياة البداوة الشاسعة الطويلة الترحال بحكم شدة أمور الحدود بين الدول وزيادة نزاعاتها وخسائرها وارتفاع التكلفة البشرية والمالية للترحال ومالوا لحصر بداوتهم وتخفيضها خاصة مع تيسر الذهب وشاحنات المياه والتجارة عابرة الصحاري. ورغم هذا الترك ورغم غلبة اللغة العربية في التعامل بين المختلفين ورغم الوحدة الاسلامية إلا ان الحوادث والضربات الانتقامية بقيت بمعدلات يومية وان قل عدد حوادثها الكبرى.
في هذا الخضم الذكوري النزاع بقيت نساء البنيتين العروبية والافريقانية في المناطق المدينية والريفية يعشن حرف شتى ذات أحوال وحالات وقصص لكن لأسباب شتى منها سياسة التمويل لا تعرض المراصد الدولية الوطنية والدراسات الجندرية شيئاً كثيراً عن حياتهن ولا عن اقتصاد الحرف في إفريقيا أو في السودان ودارفور ولا أي ملامح عامة عن الحياة الحرفية للنساء في العالم.
(ب) قوة التأجيج وضعفه:
(أ) من المألوف ان تصور التاجيجات المكونات العربية في السودان إما كمصدر لكل مدينية ونهضة وعزة له أو كمصدر لكل شر سياسي وفساد مركزي، بحكم ان غالبية نخب الحكم والمال والعسكرية والإعلام الرسمي والديبلوماسية والأمن نخب منتسبة للاثنية العربية الكلام. وفي مرات أخرى يقوم المؤجج سواء كان لايفجي أو أستاذ بتصوير وجود العرب في مختلف أنحاء السودان غير النيلي كشكل لوجود استوطاني استعماري بدأ تمكنه النيلي عام 1504.
أهم نقاط ضعف ربط ظلم طبقي أو اقاليمي بإثنية كاملة:
1- شكليته وواحديته كالدعايات التي صورت وجود اليهود في حياة أوروبا تصويراً سلبياً كأغراب لا فضيلة فيهم! أو صورت وجود اليونان والرومان في العالم كأنما هو خير مطلق! أو شر مطلق! أو كوجود العرب في الأندلس مرة هو الاستوطان ومرة هو الحضارة! وفي الأمرين ضعف: فالتصوير السلبي لطبيعة وجود ومعيشة ملايين الناس تصوير ظالم وعدواني فكل تقدم كبير في أوروبا واشج تداخل مجتمعات قارات اخرى معها وكذلك كان ولم يزل تقدم افريقيا والسودان نتيجة كم كثير من التفاعلات وليس نتيجة من تفرد إثني أو من نقاء عرقي.
2- أيضاً يؤدي بعض الكلام التعميمي والحاد عن تناقض مجموعتين إثنيتين بداية بان نخبة إحداهما الحاكمة نخبة ظالمة يعمم مسؤولية جرائمها على عشيرتها وإثنيتها يؤدي إلى عنصرية ونزاعات دموية فبجرائم الحكام ياخذ غضب المظلومين الأبرياء في اثنية النخبة المسيطرة على الدولة والمجتمع بكل اثنياته. ومن ثم فان الميل إلى تغيير الحكام بحكام من تشكيلة إثنيات دون تغيير أسلوب الحكم وتوزيعه الموارد لن يحقق عدلاً بل يجدد المظالم.
3- الضعف الثالث في ربط اثنية كاملة بممارسة مجموعة منها للظلم أن بعض نخب وقواعد المكونات الإفريقانية في دارفور، نصبت نفسها حركات تحرير تقاوم مظالم الحكم المركزي المنتسب غالبية افراده الى الإثنية العروبية لكن نفس هذه الحركات تقوم بتكرار وحماية نفس أساليب السلطة المركزية وطبيعة أعمالها الإدارية وأنشطة نخبها التجارية، وكلها أمور تستفيض جهود وموارد غالبية منتسبي القبائل الإفريقية اللغة بعيداً عن رقابتها الشعبية. تتكلم عن العدالة وتمارس الظلم!
الملحوظ قبل حرب 15 أبريل 2023 ان موالي النخبتين العروبية والافريقانية كانوا يكسبون أموالاً ضخمة لكن سجلات مشهوري الثراء منهم في مصلحة الضرائب كانت ولم تزل سجلات ضعيفة.
8- حدود التأجيج:
منذ أوائل الثمانينيات أو قبلها أصبح التوطن على جانب حدودي حق عرفي لكل مهاجري المجتمعات الافريقية الممزقة بالحدود الإستعمارية وشروط صندوق النقد الدولي. خاصة الترحال أو النزوح في مناطق أقصى غرب السودان البريطاني المتداخلة مع شرق السودان الفرنسي.
يلحظ إن كل مناطق النزاعات ليس فيها شيء كثير من مظاهر وجود الدولة وأنشطة الحكم والتنمية سوى كثرة من متزعمي العشائر المتكسبين من أوراقها وبعض جباة الأموال وباعة السلاح، منتشرين وسط كثرة خيرات زرع وضرع وموجات من الجفاف.
مع إرتباط وجود أو نزوح الناس بأحوال الأمن ونوع السيطرة العسكرية على المنطقة بقوات عشيرة أو ميليشيا قبيلية أو قوات حكومية (شرطة أو جيش مكونة من عناصر المنطقة أو مستجدة عليها من مناطق أخرى) فان وجود كل نوع قوة خلق ويخلق مشكلات وأزمات مع المجتمع المحلي أو جيرانه تفوق المشكلات التي استدعت وجود ونشاط القوة العسكرية في المنطقة.
من ثم صارت عمليات التأجيج وما يتبعها من تحشيد ونزاعات، وعمليات التهدئة وما يتبعها من أمور تلطيف ودفعيات مالية وعينية لشيوخ المجموعات صارت عمليات ذات بعد تجاري سياسي له في كل منطقة سعر ومتكلمين وكلام جاهز حول العشائرية إلى بضاعة وسياسة ليبرالية تباع وتشترى من قبل مصالح دولية وأخرى عالمية.
9- محاور التأجيج:
صار من المألوف في حكاوى النزاعات في مناطق وسط السودان وفي دارفور تقسيم الوضع الإثني والقبيلي إلى إثنية أو قبائل أصيلة مستقرة واثنية أو قبائل مهاجرة معتدية. ويسهل دحض هذا التقسيم لإن في كل مجموعة عناصر مستقرة (قديمة) وعناصر (جديدة) قدمت منذ الثمانينيات وحتى الزمان الحاضر إلى أهلها أو مناطق لهم فيها أقارب.
ضمن النزعة الإفريقانية يروج ظن بان ترحال العرب لسقي حيواناتهم ورعيها في الصحراء والخضراء هو هجرة حديثة طارئة (دبرتها فرنسا وشركة فاغنر التي كانت روسية)! وألا حق لهم في ترحال إبلهم عبر مناطقهم الزراعية. وفي المقابل يعتقد كثير من الكلام المدافع عن بدو دارفور ان الإثنية الإفريقية اللغات المتوطنة بقرى تقطع بعض مسارات ترحالهم بين أو حول فصلي الشتاء والصيف- زرقة مهاجرون إلى دارفور من إفريقيا الوسطى وتشاد والكاميرون، إلخ يظن الاعراب ألا حق للزرقة ومسلحيهم ان يقطعوا مسارات رزقهم المعلومة في دارفور منذ قرون.
يلحظ في هذين الاعتقادين الباطلين عن اجنبية وهجرة مجموعات الرعاة ومجموعات الزراع ان فيهما أمور ظن وقتل وغضب وانهما خاليين من أي قسط ومعرفة قد تيسرا سبلاً مشتركة للمعيشة ومسالكاً لحياة هذه المجتمعات المختلفة.
هذا النوع من المفاضلات بين إنسانية مقيم وإنسانية نازح وإنسانية مهاجر ثم تلبيس عداوات وثأريات نزاعاتهم على عشائر وقبائل بأكملها ثم على مجموعة إثنية كاملة ثم مد الجرائم إلى قبائل وإثنيات أخرى متداخلة معهما هي مفاضلات ذات مبالغة ولعلها أهم المؤججات العنصرية للنزاعات ثم تحويلها من حالتها البدائية العشائرية أو النخبوية إلى نزاعات عنصرية واسعة وسياسة حربية.
بفعل تكرار كلام التضليل والتأجيج عن مكون أصيل مسالم ومكون مهاجر يملأ الأرض بؤسا وشرأ تتفاقم المبالغة التي تنقل تلبيس الحالات السلبية والجرائم من مجموعة إلى عشيرة إلى قبيلة فقبائل ثم إلى مجموعة إثنية فمتكلمي لغة المجموعة الظالمة التي لا تتعدى في بضعة احيان بضعة مراهقين أو مجرمين وتتغلغل حسب شكل الحكاوى عن الحادثة والظلم اما من الحاضر إلى الماضي أو من الماضي إلى الحاضر وتنتشر متخذة أبعادا درامية أو تراجيدية تحرق اليابس والأخضر.
بشكل عام بالامكان القول ان التاجيجات تنشط كفعل أو كرد فعل مع المبالغات وبها تتضخم الإتهامات في منطقة ثراء وموجات جفاف مزدحمة منذ مئات الأعوام بتداخلات وتباينات ونزاعات قبيلية مرفوقة بحالات نزوح وحالات تهجير، وبهجرات مجموعات تذهب ومجموعات أخرى تجيء، نأهيك عن ازدحام مناطق تداخلها ومناطق تباينها بموجات الجفاف، وخلافات بطون القبائل، وخلافات بيوت شيوخ أو سلاطين كل قبيلة، اضافة إلى خلافات تجارتها الداخلية وتجارتها (الدولية) التي صارت بعد الاستعمار الغرب أوروبي وتكوين الدول ذات الحدود القاطعة لتداخلات السكان تجارة سياسية المنحى عابرة لحدود ورشى ومشكلات وأزمات عدد من القوات والدول وما يداخل هذه الدول وقواتها من أطماع وأنشطة امبريالية منظومة أو متناقضة.
10- الدفع السياسي والثقافي لفكرة التنازع أو لفكرة التعايش:
في كل واحدة من نخبتي التصورات العروبية والتصورات الافريقانية يسود اعتقاد ان التنازع بين بعض مجموعات اثنياتهما على المياه والأرض تنازع وجودي خلاصته إما حياة الزرع أو حياة الضرع، وأمان أو تلف تجارة بضائع القرى/العشائر.
إزاء تكرار الضربات بين بعض مجموعات الاثنيتين تزدحم شبكة الانترنت بمواد تاجيج ترى ان وجودية النزاع الإقتصادي نتيجة من حساسية عنصرية! بينما توكد تأجيجات عنصرية أخرى أن التنافر والصراع شكل ثقافي لأزمة إقتصادية سببتها النخبة/الإثنية! في الحالتين يفصل كلام التأجيج نزاعات المعيشة عن الإقتصاد وعن الثقافة ويربطها بالعرق كذلك يفصل البنية الثقافية والاجتماعية عن الوضع المعيشي ويربطها بالعرق والتركيبة العنصرية!
هذه التأجيحات -حسب موقع وعمالة مروجيها- تنسب سوء الأصل أو سوء المنقلب تارة إلى العرب وتارة إلى الأفارقة! فسطاطان! بينما الحقيقة الوسطى العيانية الظاهرة لكل ذي عينين والمتفق عليها بين كثير من قوى وشيوخ العرب والزرقة ويؤكدها الناس ان المجموعتان تتعايشيان مع بعضهما في سلام في مناطق مختلفة في مدن وقرى دارفور وفي كردفان والنيل الأبيض وأم درمان وفي تشاد وقريب إلى هذا التعايش وشبه له تعايش مماثل في مناطق السودان الحدودية الأخرى بين المكونات العروبية والمكونات غير العروبية للمجتمع السوداني.
أي ان النزاعات الدموية في دارفور والمناطق الشبيهة لتركيبة أعمالها واثنياتها ليست نزاعات عنصرية الأصل أو عرقية العظم واللحم كما تروج التأجيجات وإلا لاشتعلت حرباً اثنية في مختلف المناطق طول الوقت لكنها في الواقع نزاعات متفرقة وموقوتة تثور أو تهدأ وفق اوضاع الإقتصاد والسياسة والتعليم والتثقيف والإدارة.
مع تداخل الأوضاع العالمية والأوضاع الداخلية للدول تقوم بعض المخابرات بتاجيج الصراعات الدخلية في دولة معينة تأجيجاًٍ عنصرياًٍ يبدل أصلها الطبقي بكلام قديم يثير الشعور ويخفض العقلانية عن مجموعتين إثنيتين: مجموعة إثنية يقدمها التأجيج كمجموعة فاضلة مسالمة مقابل أو ضد مجموعة إثنية اخرى يقدمها التضليل أو التأجيج كلها او بقليل من التمييز كمجموعة ظالمة!
من ثم يؤدي هذا النوع من المصادمات الثقافية الإثنية وزكوه المتنوع في وسائط الإعلام إلى زيادة حالة التضاغن والتنازع العنصري مخفضاً بين الإثنيات المختلفة اللسان (العروبية والافريقانية) امكانات التضامن والتعاون والاتساق المعيشي والسياسي مع بعضها ومع حكم المركز وفروعه وبالتالي ينهدم أساس كبير من أسس وجود السودان ودوره في تعزيز التضامن العربي الإفريقي في المنطقة وزكوه في العالم لنضالات الشعوب لتوليد أنشطة تنمية وطنية وأممية ضد الإمبريالية وعنصرياتها الطبقية العالمية المتنوعة الأساليب والأشكال.
11- ثلاثة أمور مهمة لمقاومة التأجيج العنصري:
(أ) لا للحرب العنصرية ولا السياسة العنصرية:
تبيين خطر الحلول القائمة على التمييز القبيلي أو على الفصل العنصري حتى لو كان تمييزاً موجباً. كذلك تبيين صعوبة ودموية سياسة الفرز العنصري وكارثية إستعمال الشدة البوليسية وبعض ما فيها من عنصرية واقعية في المخبرين والضباط أو غلظتهم في كشف أصالة المواطنة والجنسية وتصنيف الانتماء غير المكاني داخل مجتمعات حرة الحركة ألفت الحكومات خلال مائة عام تداخلها وتوطنها وتحصيل كثير من معيشتها عبر الحدود الإستعمارية!
من ثم لا يسهل في القرن الواحد والعشرين مراجعة وتمييز الحال والفكر القومي لهذه المجموعات بإستعمال وسائل التحري والجبر البوليسي أو العسكري ونصب إدارات أو محاكم تفتيش ضد مئات الآلاف أو ملايين الناس تستخدم أساليب الإشتباه والضغط والعزل والإقصاء والتهجير والتطهير الثقافي والتطهير العرقي!
محاولة التصفية العنصرية لأزمات متداخلة تشمل ملايين الناس في مناطق دارفور وكردفان غرباً ومنطقة النيل الأبيض ومنطقة النيل الأزرق وشرق السودان ومناطق تماسهم مع دول الجيران وكلها مناطق تناهز مساحة أوروبا محاولة لن تحقق إلا بشكل فاشيستي مروع ذو معارك دموية وحروب جديدة، ترافقها حكمة ((ان غلبك سدها وسع قدها)).
(ب) لا لتحكم المركز ولا لتحكم الشيوخ القبيلة:
التنبيه إلى إمكان تحقيق الإتساق السياسي في دارفور وما يشبهها بنشاطين متزامنين هما:
1- رفض نظام الحكم المركزي واحتكارات نخبه المهيمنة على موارد المجتمعات وحقوقها، وهو نظام واكب قبيل عام 1899 النمط السياسي الغرب اوروبي لتشكيل الدولة وقد تكرر فشله في اقامة أي تنمية متكاملة لمدن وأرياف البلاد.
2- رفض نظام “الحاكورة” وتحكم نخبة القبيلة في منطقة تزعم ملكيتها التاريخية! فالحاكورة قطعة منعزلة تقسم المواطنين وحقوق المواطنة وفق القبيلة ووفق ترتيب النخبة لمقامات الناس داخلها إلى درجات أعلاهم هو قريب شيخ أو سلطان القبيلة وأقلهم مكانة هو الانسان الغريب عن عائلة النخبة ولو كان موطنا في المنطقة!
ولا يقف نظام الحاكورة على جريمة إهدار حق المساواة بين المواطنين بل يجمع السلطات الثلاثة في يد نخبة زعيمها أو يطلق يد نخبتها فيها مهمشاً قاعدة القبيلة حارماً إياها من كسب غير الفتات من أي نفط أو ذهب أو يورانيوم في أرض القبيلة! كذلك يؤدي إبقاء نظام الحواكير إلى استمرار توليد النزاعات الدموية بفعل إصرار أو بمصادفة تثبيت أو كسر أو تغيير حدود “الحاكورة” في منطقة كلها حواكير وتكثر فيها التداخلات والتباينات والتنازعات.
(ج) الجمعيات التعاونية مولدة للسلام والتنمية:
إمكان إزدهار التعايش العربي الإفريقي والإفريقي العربي بعدد من الأنشطة والشراكات والجمعيات التعاونية الصغيرة والمتوسطة تمتد كحزام من نيجيريا إلى إثيوبيا وبالعكس وبحكم نموء بعض المكاسب القليلة المشتركة تنمو امكانية أكبر للتعايش وتنخفض حالات الانفراد المولدة للتنازع..
بهذه النقاط الثلاث قد تتبلور مقاومة تسهل تحكم الشعب في موارد ووسائل معيشته منتصرة لحقوقه ضد سيطرة النخب خاصة التي تموه استغلالها غالبية الكادحين بزعوم تفصل التحليل الطبقي عن التحليل الثقافي وتفصل التحليل الثقافي عن التحليل الطبقي وفي يحموم الفصل وتاجه مملكة قديمة مثالية فاضلة يتكلم عنها بثلاثة أمور متناقضة الأجزاء هي:
1. حكمة وسلام وحكم الاثنية وجبروت واتساع ملكها القديم!
2. تنوع المجتمعات التي خضعت لجبروتها لكن تنفرد سلالة واحدة بحكمها!
3. انها كانت مملكة للخير والرحمة مع قوة جيوشها وشسوع فتوحاتها!
12- الختام:
هذا الكلام البسيط عن التأجيج العنصري لنزاعات السودان يزامن حرب السودان في الخرطوم المواشجة لقوى وسياسات نخبوية وعنصرية في دارفور وفي عموم حكم السودان وبعد تأشيره إلى بعض تفاصيل الأزمات والتأجيج العنصري لها نبه إلى ثلاثة نقاط تخفض التأجيج العنصري للحرب، وهي: ضرورة رفض المركزية ورفض القبيلية وتنمية الحركة التعاونية وهي نقاط بداية تفيد كل رأي مهتم بأمور العدل والسلام على قاعدة ترابط الوجود الاجتماعي والمعيشي والثقافي والسياسي في العالم والسودان، لا يستقيم فيهم ظل والعود في احدهم أعوج.
الحوار المتمدن