قصة واقعية من ” طوفان درنة “
أسماء القرقني / ليبيا((نقلا عن منبر الأدب الليبي والعالمي))
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_وقف والدي بسرعة ليرى مارأيته في (السواني)، حملق في الثعابين التي خرجت فرادى وجماعات في اتجاه الجبل ، غمغم في ذهول:
-ماشفت هالمنظر الا مرة وحدة في حياتي نهاية الخمسينات، لازم نطلعوا من البلاد، بلغ جيراننا بسرعة.
قلت بلامبالاة : عندي عمل ، توا نقوللهم لما انكمل .
شدني بعنف من ياقة قميصي ، قائلاً بحزم:
– امشي و خبرهم توا ، قالوا الاعصار يوصل الليلة ، ما يعصمنا الا الجبل.
وقفت امام بيت احد جيراني اردد بيني وبين نفسي ( الله يسامحك يا بوي ، من حيصدقني ؟)
حدق بي جاري وعدم التصديق يبدو جلياً في عينيه :
– وضعنا آمن ،الخوف في المناطق القريبة من البحر
– اضاف وهو يقهقه:
– ماناقص غير انتبعوا حدس الثعابين
– خرجت من بيته الى بيت صديقي وجاري بالجنب ، ردد نفس الكلام دون تفكير او تردد .
صعد ابي الى الجبل وعلامات الحزن والغضب تعلو وجهه بعد ان استنفد كل وسائله لاقناعي بالخروج ، كنت قد حسمت امري على البقاء أسوةً بجيراني وأصدقائي .
لم يعرف النوم سبيله لبيتنا تلك الليلة ،زمجرت الريح واشتدت ، انهمر المطر بقوة غير مسبوقة ، نباح الكلاب ومواء القطط لم يتوقف .
– ان شاء الله هالليلة تمشي على خير، ياريت طلعنا مع عمي.
قالت زوجتي و هي تفرك يديها وترتجف والخوف محفور على قسمات وجهها
قلت متبرماً:
– هي مجرد عاصفة ، الخوف عللي يسكنوا جنب البحر.
تصاعد غضب الريح الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، هطلت الامطار بقوة اكبر، ، علا نباح الكلاب ومواء القطط بصورة مريعة ، سمعت صوت قرقعة لم اعرف ماهيتها؟!، لكن قلبي انقبض بمجرد سماعها ، انقطعت الكهرباء ، تسرب الماء من تحت الباب ومن الجدران و من شقوق النوافذ ،سمعت جاري يصرخ بأعلى صوته :
– اغثنا يا الله اغثنا يا الله ، فاض الوادي .
ايقظت ابنائي على عجل ، احتضنت احدهم وحملت زوجتي الآخر ، فتحت الباب بسرعة ، هالتني كميات المياه التي تدفقت الى الداخل ، ركضنا بسرعة الى سطح بيتي المرتفع بصحبة جيراني
على ضوء البرق المتواصل رأينا الماء يرتفع في الشارع بصورة مخيفة ،السيارات تعوم ،البشر يحملهم تيار الماء وصوت صراخهم واستغاثاتهم وتكبيرهم يشق عنان السماء ، لا استطيع ان اصف الخوف والهلع الذي انتابني عندما رأيت العمارة المقابلة لنا وهي تتهاوى وتسقط وتتجه الى البحر بساكنيها ……..
تدفقت موجة ضخمة من المياه غمرتنا حتى اعناقنا ، شعرت وكأن البيت يهتز ، استبد بي الخوف والندم وانا اسمع صراخ ابنائي المذعورين ، ، ساعدنا النساء في الصعود فوق خزانات المياه ، بنت جاري الشابة لم تتوقف عن الصراخ وترديد ( ياربي وقف المطر يا ربي ) ،
بعد قليل لم اعد اسمع صوت بكاء النساء ، وكأن الجميع سلم بالأمر الواقع لا محالة، فقط اصوات تكبير وترديد الشهادة
ماهذا ؟ وكأن البيت يترنح مرة اخرى !!، جاءت موجة ثانية من المياه اقوى واعلى من الأولى اجتاحتنا وواقتلعت نصف البيت من مكانه، خلعت قلبي عندما انتزعت طفلي من يدي واخذت جيراني ، لم تصمد الا زوجتي ، كان بجانبي عمود خرساني يبرز منه سيخ حديد، تشبثت به بقوة ، وتمسكت زوجتي بنصفي الأسفل ، ضغطت عليها بقوة بين رجلي كي لا تفلت مني .
عند الرابعة والنصف صباحاً انتهى كل شيء ، انخفض الماء ولوّن الطمي كل ماحولنا باللون البني ، ارخيت رجلي المتشنجتين لاحرر زوجتي ، وجدتها تتقيء الماء الذي شربته ورأسها على الأرض، نظرت لها في ذهول عندما رفعت وجهها ، لم تكن زوجتي …بل ابنة جاري.
نزلت الى الشارع كالمجنون، انادي اولادي ورفيقتي، لم اصدق ما اراه ، الجثث وقطع الاثاث وبقايا البيوت تسبح في مستنقعات ضخمة من الماء الملوث، لم اعرف المدينة ، تشوه وجهها ، التهم البحر احياءها ومبانيها ، فاحت رائحة الموت في ارجائها
، ، بكيت بحرقة وانا اشاهدهم يكومون الجثث في السيارات ، وكأني ساعتها فقط ادركت حجم الكارثة ، ربتت يداً حانية على كتفي ، ، وجدت أبي يضمني بين ذراعيه بقوة وفي عينيه الدامعتين عتاب وسؤال ( اين البقية؟) ، وددت ان اقول له سامحني ، ان اقول له ليتني وليتني ….
شُل لساني وتحول كل الكلام الى غصة في حلقي .
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_