جدل “الخواء الاستراتيجي” العربي

محمد قواص

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_استعاد وزير الخارجية المغربي الأسبق محمد بن عيسى تعبيرا لوزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، في ملاحظة “خواء استراتيجي” عربي. قال الأمير الراحل الكلام في ظروف أخرى تنتمي إلى عام 2010 وما قبله. تغيّرت ظروف تلك المرحلة كثيراً مذاك، لكنها لم تؤثّر على طبيعة هذا “الخواء” الذي وجب للعقل أن يقاربه.

ينتمي بن عيسى إلى جيل شغوف بالبحث عن معنى للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وما يخترق هذه المنطقة من ثقافة سياسية عربية شهدت فتاوى وتأويلات واجتهادات خلال العقود الأخيرة. وجد الرجل، الذي كان وزيرا للثقافة والخارجية وسفيرا لبلاده في الخارج، في مسقط رأسه، مدينة أصيلة على ضفاف الأطلسي، إطلالة على مشروعه الثقافي الفكري منذ عام 1978. ومذاك تتوالى مواسم أصيلة الثقافية الدولية محتضنة نخب السياسة والفكر والأدب والفنون.

تسأل أصيلة ضيوفها عن “الخواء الاستراتيجي” العربي في موسمها الـ 44 في هذا العام. وتكشف في ردود فعل ضيوفها تعقّد هذا السؤال وتنافر الأجوبة بشأنه. خُيّل للمتحدثين أن بن عيسى استحضر الأمير سعود الفيصل ليعيد تسليط المجهر ربما على تشتت عقل المنطقة في معالجه خواء استراتيجياتها.

ناقشت ثلاث ندوات على مدى يومين (17-18 أكتوبر الجاري) بوجل وارتباك وحيرة مسائل “الخواء” وكيفية التعامل مع التحوّلات الدولية كما مستقبل العلاقة مع الجوار والشراكة معه. ولئن خطط بن عيسى عمدة المدينة (وهو أقدم عمدة في المغرب) وفريقه في “مؤسسة منتدى أصيلة” بأن يخوض المتحدثون النقاش برؤوس باردة تُعمل لغة العقل لا غرائز العواطف، فإن “حدث غزة” داهم الجميع.

كانت الندوات مثيره للاهتمام في ما قيل وما تسرّب من بين السطور . أماطت أصيلة اللثام عن تباعد في الرؤى وتناقض في وصف العلاجات. بعض الآراء نهلت من ماضٍ لطالما حفل بالايديولوجيات القومية العابرة للحدود المبشّرة بـ “الأمة الواحدة”. حتى أن هذا الفريق لم يحتمل كثيراً آراء توصف بالحداثية الليبرالية تعلن وفاة ما فشل وتدعو إلى مقاربة كل المنطقة بواقعية تعترف لها بخصوصياتها وتعدّدها وتناقض مصالحها وتباين سرعات رؤاها وأهدافها وتطلعاتها.

حتى أن فكرة “المصير المشترك” تعرّضت لانتقادات لإغفالها ما يربط مصائر المنطقة مع الراهن وقواعده لا مع المتخيّل وأوهامه، وما يربط بلداننا من مصائر مع العالم البعيد وخصوصا مع ذلك اللصيق. بدا أن إطلالة أصيلة على جنوب أوروبا حيث إسبانيا في الواجهة تجعل لهذا النقاش وجاهةً. بدا أيضا أن إطلالة المغرب على أفريقيا حيث باتت استثماراته في قطاعات حيوية في القارة السمراء هي الثانية بعد جنوب أفريقيا تمنح الجغرافيا مساحات لـ “مصير مشترك” آخر.

في الجدل أيضا مسألة “الخواء” ذلك أنها على لسان الأمير سعود الفيصل تعبّر عن فشل “جامعة الدول العربية” واللغط حول أشكال اتحاد العرب. لكن في استعادتها من قبل بن عيسى وأصيلة فيها تأكيد لحالة واقعية لا يحتكر العرب حقيقتها. فيجوز هنا السؤال حول “خواء” أوروبي في عدم امتلاك “الاتحاد” استراتيجية واحدة واضحة تكرّس سيادةً واستقلالا عن الفضاء الأميركي العام، وهو أمر ناقشته أصيلة في ندوات سابقة في هذا الموسم. وفي السؤال أيضا: ألا تفتقد الولايات المتحدة نفسها إلى “امتلاء” استراتيجي وهي التي تستهلك الزمن والجهد والإمكانات في الدفاع عن موقعها وتتحصّن بيأس من صعود صيني مقلق؟

يُحسب للصين وضوح استراتيجية قامت منذ عقود من أجل التنمية وما يواكبها من تعظيم القوة والنفوذ. يُحسب لهذه الاستراتيجية تمدّدها الدؤوب صوب العالم من خلال مشروع “طريق الحرير”. ويُحسب أنها استراتيجية ناجعة إلى درجة تستنفر لها واشنطن الجهود والهواجس منذ عهد باراك أوباما في البيت الأبيض. لصين أن تفتخر بما تخطط له وللآخرين انتقاد الأمر والتوجّس منه ومكافحته.

يُحسب لروسيا أيضاً قيام استراتيجية تراكم استرجاع نفوذ فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فتحلم بقيصرية جديدة تنظّر لها داخل فضاء أوراسياً. ضربت موسكو بقوة لبسط هيبة “الدولة” في حروبها في الشيشان ثم تأكيد نفوذها في المناطق الناطقة بالروسية في جورجيا ومولدافيا وشبه جزيرة القرم في أوكرانيا وصولا إلى الحملة التي تستهدف هذا البلد منذ 24 فبراير 2022. وهي استراتيجية لم يأخذها الغرب على محمل الجد وآثر الاعتقاد بإمكانية التعايش معها وضبط روسيا وتدجين رئيسها. فثبت فشل ذلك.

هنا يبدو العرب كما الأوروبيين والأميركيين كما جلّ مناطق العالم في حالة تعايش وتأقلم مع تحوّلات هذا العالم. ووفق ما تتيحه هذه التحوّلات من فراغات يمكن فهم حراك تركيا وإيران مثلا كما حراك دول آسيان والبريكس وغيرها. وبناءً على شروط لحظة التحوّل هذه بين نظام دولي مرتبك واحتمالات قيام نظام دولي مستجدّ، استطاعت المنطقة تجاوز “الخواء” ورسم خطوط نافرة لها داخل المشهد الدولي العام.

استعادت المنطقة أهميتها الجيوستراتيجية. سلّطت حرب أوكرانيا مجهراً على العالم العربي بسبب إعادة الاعتبار للطاقة الاحفورية وسقوط مصداقية الطاقة البديلة بعد أزمة الطاقة القادمة من روسيا. استطاعت دول الانتاج مقاومة ضغوط واشنطن والتمرّد على وصايتها المزعومة على سوق الطاقة. واستطاعت كل دول المنطقة أن تنزع العالم العربي من النفوذ الأميركي المفترض والتموضع في موقع وسطي يتمتع برشاقة وبراغماتية في مراعاة مصالحها مع الشرق، روسيا والصين أساسا، والمحافظة على المصالح مع الغرب، أوروبا والولايات المتحدة خصوصا.

تلاحظ أصيلة هذه الحقيقة وإن كان بعض المتحدثين في ندواتها أظهروا عرضا متشائما يستند على معطيات حقيقية بشأن حصّة المنطقة في نمو العالم. وتلاحظ أصيلة في الوقت عينه أن الموقف العربي مما يجري في غزة كان صلبا واضحا واحدا وإن لم يأخذ الأشكال الاستعراضية التي راجت في قمم الستينات والسبعينات. وفي هذا التناغم في مواقف عواصم المنطقة ما يقدّم مزاجاً رسميا خلا من التصدّع والانقسام.

قامت أصيلة بالمهمة على أكمل وجه. لا يطمح محمد بن عيسى إلى أجوبة نهائية وحلول شفائية بل إلى إطلاق دينامية لاستثارة العقل وإيقاظ ما هو نائم من مسلّمات. لم يجرؤ أي متحدث على التمسّك بالرأي القاطع، ولم يستطع أي متحدث أن ُيفرط في شعبوية كانت توفّرها مناسبة غزة الدراماتيكية، ولم يبالغ دعاة العقل والتعقل والعقلنة في الدفاع عن مطالعات باردة في المغرب في ساعات تهبّ عليها حرارة النار والمأساة والدمار التي تنفخّها غزة من المشرق.. وفي ذلك الوعيً المدهش ما يفسّر سحر أصيلة في مواسم خارجة دائما عن كل الفصول.

سكاي ينوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post مهرجان”سانس إنتردي” يؤجل عرض مسرحية “وهنا أنا” الفلسطينية في باريس
Next post التداعيات الجيوسياسية للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزّة