(الشعبوية) ليست قدرا
فيصل ملكاوي
كان العالم من أقصاه الى اقصاه محقا بحبس انفاسه خشية من موجة الشعبوية التي بدات بالبروز على الساحة الدولية خلال السنوات الاخيرة وتجلت بنتيجة الانتخابات الرئاسية الاميركية العام الماضي، اذ جاءت نتيجة التصويت مفاجئة وصادمة وصوت الذين اتاحوا الفوز للرئيس دونالد ترامب وفق اسس غريبة قوامها الانعزالية ورفض المؤسسات ونبذ القواعد والمبادئ السياسية والاقتصادية والقيم التي استقر عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
كما كان مكمن الحذر والخشية في ذلك الوقت وما زال بان هذه الحالة التي تمر بها القوة الاولى على الساحة العالمية انما تنذر ببداية تسونامي من ( الشعبوية) سيضرب ارجاء الارض ويهدد النظام الدولي الذي بني بعد الحربين الثانية التي كلفت البشرية اثمانا باهظة.
ومما لاشك فيه فان آثار ما يحدث في الولايات المتحدة من تحولات وما تقوم به من سياسات وخطوات وقرارات كبرى، يكون له آثار تتعداها الى المحيط الدولي، ولهذا كانت الموجة الشعبوية التي اجتاحت اميركا، بمثابة جرس الانذار الذي لم يدق في الولايات الاميركية وحسب بل تردد صداه الى العالم كله وفي اروربا على وجه الخصوص، اذ كانت تيارات الشعبوية تتصاعد على الساحة الاوروبية بل وتحاول الوصول الى السلطة في اكثر من بلد في القارة العجوز لاسيما بلدان لها اوزانها على الساحة الدولية.
وفي الوقت الذي انطلقت في الولايات المتحدة موجة مقاومة للشعبوية، من داخل المؤسسات الاميركية ذات التقاليد العريقة والطويلة والمبنية على اسس متينة، بموازاة مقاومة شعبية لافتة تقودها التيارات المناهضة للانعزالية والحمائية، وهي الانعزالية التي تهدد اسس النظام الدولي، فان الاختبار الحاسم لمدى قوة واثر موجة الشعبوية كان على الساحة الاوروبية، في ظل الصدمة الاوروبية والعالمية، وعدم اليقين على وقع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بعملية ( بريكست) ونتائج الاستفتاء الذي حسم لصالح الخروج بنسبة ضئيلة جدا بلغت نحو 51.9 بالمئة.
وفي كثير من دول العالم وصولا الى روسيا العائدة بقوة الى الساحة الدولية، تم تفسير الشعبوية المتصاعدة، بانها فرصة سانحة لالغاء قيود القوة، وتنحية القيم الديمقراطية، اذا ما تعارضت هذه القيم والمعايير مع السياسات والتوجهات والاجندات على الساحات الاقليمية والدولية، وكذلك عدم الالتفات الى المؤسسات والمنظمات الاممية، وما تمثله من اطر للشراكة والعدالة على الرغم مما شاب اعمالها خلال العقود الماضية جراء سيطرة الدول الكبرى على سياقاتها وقراراتها بانتقائية المعيار تارة وبالحكم على هذه المؤسسات بالشلل في كثير من الاحيان جراء حدة الاسقطاب على الساحة الدولية وعلى خلفية الازمات والصراعات المنتشرة في مختلف ارجاء العالم وفي الشرق الاوسط على وجه الخصوص.
اوروبا التي طالما مثلت بقيمها الرفيعة واستقرار تقاليدها وتجاربها الديمقراطية، عصر ما بعد القوة المجردة، الى تكريس القوة الخلاقة واحترام القيم العالمية والحفاظ على العلاقات الدولية وما حققته من نجاحات وتثبيت للنظام الاقتصادي الحر، واصرارها على ان لا تدفع الاثمان الباهضة مجددا التي دفعتها في حقب تاريخية سابقة، تولت مسؤولية المقاومة وطرح ( لا) كبيرة امام موجة الشعبوية في العالم عامة واوروبا خاصة.
وهنا فان التحول كان لافتا في معركة مقاومة الشعبوية اذ ان الانتخابات في عدة دول اوروبية وخاصة فرنسا كانت ضربة قوية لليمين المتطرف والشعبوية كما عبرت الانتخابات البريطانية البرلمانية الاخيرة عن ارتباك كبير للشعبوية ويعول ان تسدد المانيا الضربة القاصمة لهذه الحالة
في انتخابات ايلول المقبل فيما اذا فازت المتشارة الالمانية انيجلا ميركل بما تمثله من رمزية كبيرة لدحر الشعبوية في اوروبا والعالم واعادة طرح المانيا في مقعد القيادة الدولية برديف قوي يتمثل بفرنسا الجديدة التي يمثلها الرئيس ايمانويل ماكارون وتياره الجارف.
وفي خضم تعافي العالم تدريجيا من ارتدادات زلزال الشعبوية في الولايات المتحدة الاميركية، فانه ثبت ايضا ان الشعبوية رغم تصاعدها فانها في الوقت نفسه ليست قدرا محتما، انما موجة في وضع دولي مضطرب وربما احدى ارهاصات الانتقال الى بناء نظام دولي جديد يعتمد تعددية القطبية بعد انهارت ثنائيتها بانهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي ساد بعدها نظام الاحادي القطبية برأس واحد تمثل بالولايات المتحدة الاميركية.
مصدر الراي