مدينة الأحلام

 خديجة عقيل الحمروني

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_استدار ببطء وغادر المقبرة ..عيناه مليئتان بالدموع ‘وضباب أسود كثيف يغشى الدنيا حوله ،تقدم إلى السيارة وبحركة آلية أدار المفتاح وانطلق بها …

أخذ يلف الشوارع دون غاية …لقد مات الحاج “عبد الحكيم “..غادر الدنيا ..بالأمس كان بكامل حيويته ونشاطه ،ذاك النشاط الذي كان يحث على الشجاعة والصبر ويبعث في النفس الحماس ….نعم …من يصدق؟؟ غادر الدنيا …هذه الدنيا التي قضاها يتنقل بين أرفف الكتب داخل مكتبته العريقة ،التي كان يعتز بها ويحرص عليها …..ينزل كتابا ..ويضع آخر …يتحدث ،يناقش ،يشرح …ويتعامل مع الكتاب بحنو وحب وكأنه أحد أولاده ،هكذا كان يقول لإبراهيم وهو يجلس معه داخل مكتبته ‘يقرأ كتابايختاره له،أو يستشيره في بعض ما يكتب ..أو وهو يساعده أحيانا في عمله …

:-إنهاليست مصدر رزق …إنها أولادي ..عالمي الذي أحياه  ….تعلم كيف تحبها يا إبراهيم ..،فإني أرى فيك صورة شبابي  ،أنت مني بمثابة الولد ….ويطلق زفرة عميقة ..يستشعرها إبراهيم بكل حواسه ..

لقد تزوج الحاج “عبدالحكيم”  منذ  عشرين عاما ولكنه لم يرزق أولادا ،ورغم ذلك كان راضيا بقسمته وبحكمه الخالق …وقبل شهور قليلة أثمر صبره ودعاؤه وجاءته البشرى بحمل زوجته …

لم تكن الدنيا تسع فرحته وسعادته ‘وكان يومامميزا لكل معارف الحاج ومحبيه ..وغصت مكتبته بالأصدقاء ‘كما قام في ذلك اليوم بإهداء مجموعة كبيرة من الكتب التي عنده لكل الشباب ‘الذين كانوا يشكلون جماعة ثقافية متميزة ..ترتاد مكتبته ومنزله ‘وتستمع إلى أحاديثه ونقاشاته…

واليوم …ودون توقع أصيب بنوبة قلبية مفاجئة فارق على أثرها الحياة…..!! أرسل إبراهيم زفرة قوية ومرر يده على رأسه المثقل ..وهو يحاول مدافعة الدموع التي تأبى التوقف ‘منذ لحظة علمه بالخبر ….

واصل التسكع وهو يخاطب نفسه :آ ه ه ه…كيف بمقدوري أن أبدد الوقت وأهزم اللحظات ؟ كيف بمقدوري أن أمسك بين يدي ذلك الخيط الفاصل  بين الأمس بكل تفاصيل أحداثه ‘وتضاريس وقائعه ..وبين الغد الغارق في الظلمة والمتسربل بالوهم؟؟كانت الشمس تؤذن بالمغيب …والظلام يزحف على الكون ….انعطف إبراهيم بسيارته ودخل إلى شارع فرعي ،اعتاد المرور منه يوميا وهو في طريقه إلى المكتبة أو بعد عودته منها …أوقف السيارة على أقرب رصيف ‘وترجل منها مديرا عينيه في وجوه المارة مثل التائه الذي يبحث عن شيء ما ضيعه …أخذ يتفحص الوجوه …يبحث عن وجه ألفه …أسكنه حنايا القلب …رسمه في الذاكرة..يمعن النظر ‘لعله يعثر على تلك الأبتسامة الدافئة التي تمده بالقوة وتشعره باﻵمان …..فلا يرى سوى وجوه غريبة …كالحة، وضحكات صفراء باهتة ،يرمي بها أصحابها على قارعة الصمت والخواء فيتجلجل صداها مصطدما بجليد فؤاده المتعب ،فترتعش أوصاله ويتغلغل الصقيع بين حناياه …..

حول عينيه عن الوجوه وأخذ يديرهما في واجهات المحال التجارية التي أمامه….أضواء براقة ….تنسيق خلاب …بضائع شتى تبهر الأنظار …

وقف أمام إحداها ..رفع رأسه …تسمرت عيناه عليها !!!

عينان خضراوان براقتان …شعر مسترسل أشقر ،وقامة هيفاء ..مع أحدث ما ابتكرت دور الأزياء من ملابس ..لا يدري كم من الوقت أمضى وهو يتأملها ،عندما سمع صوت البائع..

:-كم عمر ابنتك يا سيدي ؟..لدينا نماذج لمختلف الأعمار .

انتبه للصوت ..فرد قائلا :-لا …لا ..أريد هذه بالذات ..لا يهم الثمن .

سأله البائع :-هل ألفها لك ؟..أتريدها هدية ؟؟!!

أجابه باقتضاب :-لا ..ناولني إياها هكذا ،ودفع ثمنها للبائع وغادر المحل وهو يحملها بين ذراعيه ….أجلسها قربه ..وأدار مفتاح السيارة ..كان يتعجل الوصول إلى البيت ،..تعمد أن يسلك طريقا غير ذاك الذي يمر بمكتبة الحاج “عبدالحكيم “وعندما وصل التفت إليها بحنان قائلا :-هانحن قد وصلنا …أنزلها من السيارة ودخل البيت ،حاول ألا يشعر أحد بمقدمه ،….ولكن أمه كانت بانتظاره .

:-ما هذا يا إبراهيم ،؟ لمن هذه ؟؟

لم يجب ..كررت السؤال ،لم يلتفت ..فألحت في سؤالها،تركها ودخل غرفته وأغلقها عليه ،صدمته العتمة ..مد يده لمفتاح النور وأضاء المكان ،وعندما التفت فوجيء بصورته تنعكس في المرآة التي بمواجهة الباب…

لم يدر إلا وهو يحمل كرسيا بجانبه ويهشم المرآة !!!

يهشم صورته المنعكسة فيها …

ارتفعت طرقات أمه على الباب ..تسأله مالذي جرى ؟؟لم يعرها اهتماما ..تقدم نحو الطاولة التي يكتب عليها ويقرأ جل وقته ،وأجلسها عليها ،وجلس في مواجهتها ..كان يتأملها ويبتسم …ومنذ ذاك الوقت …تغير “إبراهيم “..تغير كثيرا ….لم يعد أحد يستطيع الحديث معه …ولم يعد يجلس إلى أصدقائه للنقاش ،أو التباحث في الأمور الثقافية 

كما كان يفعل ..وحتى عندما كانوا ينجحون في الجلوس إليه و يحاولون معرفة ما حل به …لا يتحدث إلا عنها …كانت أمه تضرب كفا بكف وهي تبكي :-لقد جن ولدي …فقد عقله !! إنه السحر ..لا شك في ذلك …عمل عمل له !!

وعدة مرات كانت تحاول التحايل عليه لتدخل غرفته علها تنجح في أن تأخذ منه شيئا من حاجياته لتعطيها للشيخ “مصباح”فيعرف منها مصدر السحر ليبطله ..!

ولكنها تفشل في كل مرة ..فلا تملك إلا البكاء والدعاء بظهر الغيب وهي ترش الماء المقروء فيه أمام باب غرفته الموصده باستمرار ..أما أصدقاؤه فكانوا يحاولون الاستعانة بطبيب نفساني ،فلعلها حالة نفسية ،بسبب فقد صديقه الحاج عبد الحكيم “…وبدأت حالته تشتد وعزلته عمن حوله تزداد يوما عن يوم …..

وفي يوم كان يحادثها :-والآن يا عزيزتي ،! ما عساها تكون النهاية المناسبة للرواية التي اكتبها ؟؟…أجيبي 

كيف أجعل النهاية؟

:-أتعرفين ؟!الكتاب الذي أحضرته بالأمس ،لم أفهم وجهة نظر كاتبه ،ألا ترين معي أن أسلوبه غير معتاد ..؟؟

كان الصمت حوله يستفزه … والضجيج داخله يحطم جدران صدره  .. وقف صارخا بقوة:- لا جواااب …لا جوااااب …..

لقد مللت الصمت فاجيبي …دعيني استشعر وجودك معي ..إحساسك بي ..دعيني استمطر من حديثك الكلمات في زمن الجدب والقحط ..أجيبي …لم الموت …لم الغروب …لماذا العقم والسنون العجاف ؟؟؟!!أيتها الدمية أجيبي ….أيتها الدمية…..الدمية….الدمية..أخذ يرددها صارخا، وضرب الطاولة بعنف فاهتزت تحت كفيه ،وانكفأت الدمية على وجهها،حيث كانت المحبرة غير محكمة الإغلاق ،فانسكب ما بها على الأوراق المبعثرة ….

وفي هذه اللحظة سمع زغاريد تملأ الشارع ….فتح النافذة ، فغمر ضوء الشمس الغرفة ….

وعنما أطل على الشارع ،شاهد ابنة الجيران الصغيرة تعدو …رفعت بصرها إليه وهي تصرخ مهللة :-لقد ولد “عبدالحكيم” الصغير …لقد انجبت زوجة الحاج عبدالحكيم مولودا ….طلب منها الانتظار وحمل الدمية ،ورمى بها بين ذراعي الطفلة الصغيرة ‘التي ضمتها بفرح غامر ‘….واستدار يجمع أوراقه التي لوثها الحبر ‘..ولم يترك منها سوى قصاصة طارت في ركن منعزل بزاوية الغرفة   كتب في آخر سطورها ..(وفتحت مدينة الأحلام ذراعيها للفارس الشجاع ، بعد حصار طويل مرير ..وعندما وصل إلى قلب الميدان …فوجيء بجواد قد لوي  عنقه ،وفارس ملقى على الأرض والخنجر مغروس في قلبه ‘…..

فعلم ،أنه في ذات المدينة …سيكون مثواه الأخير).

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post لوحدي أجوب الديار
Next post المران يمارسه الشعراء