أيُّ مستقبل ينتظر العالم في عام 2024؟
حميد الكفائي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_احتمالات المستقبل ليست مطَمْئنة، فالتحديات كثيرة وخطيرة، والحلول بعيدة رغم وضوحها، والإرادة السياسية لاجتراح الحلول ضعيفة، بل تبدو مفقودة، خصوصا وأن قادة الدول الكبرى عجزوا حتى الآن عن الارتقاء إلى مستوى التحديات، والتعامل معها بعدالة وإنصاف.
ورغم أن العالم قد تمكن بشجاعة وصبر، بفضل جهود العلماء والأطباء والعاملين في الصحة، من درء خطر فيروس كورونا الرهيب، الذي أبقى شعوب العالم قلقة وخائفة لعامين مريرين، تجشمت خلالهما شظف العيش ومرارة القلق بسبب الخشية من الإصابة بالفيروس القاتل، والخسائر البشرية المؤلمة، والإغلاق الذي أربك الحياة.
ورغم التراجع الاقتصادي واضطرار الحكومات لإنفاق أموال طائلة في مختلف أنحاء العالم، من أجل أن تستمر الحياة ويبقى الاقتصاد متواصلا، ودرء مخاطر الركود والانكماش الاقتصادي الخطير، وما ينتج عنهما من فقر وتفتت مجتمعي وتراجع مهني، فقد وجد العالم نفسه فجأة في أزمة جديدة، بعد أن شنت روسيا هجوماً مباغتاً على جارتها أوكرانيا، متذرعةً بحجج لم تصمد أمام الدليل، بل أخذت تتغير حسب الظروف السياسية والعسكرية.
لقد أدخلت الحرب الروسية الأوكرانية العالم في أزمة جديدة، فاقت وفاقمت أزمة كورونا التي سبقتها، والتي لم يتعافَ من آثارها الاقتصادية بعد، فارتفعت تكاليف المعيشة، وشحَّت مصادر الطاقة، بعد أن فرض الغربيون، في أمريكا وأوروبا وأستراليا وآسيا، عقوباتٍ شديدةً على روسيا، وازداد القلق من اتساع الحرب، واستخدام السلاح النووي، الذي ظلت روسيا تلَّوح به كلما ضاق عليها الخناق.
وفي آسيا ازداد القلق، اقتصاديا وسياسيا، من تصاعد نبرة الخطاب الصيني المتشدد، واحتمال إقدام الصين على ضم تايوان بالقوة العسكرية، بعد 74 عاما من استقلالها الفعلي، خصوصا مع تدهور العلاقات بين الصين وباقي دول العالم الغربي، لأسباب كثيرة، منها الخشية من الهيمنة الاقتصادية الصينية، والقلق من تنامي قوة الصين العسكرية، وسعيها لتوسيع نفوذها والسيطرة على بحر الصين الجنوبي، خصوصا بعد وقوفها الفعلي إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، والتنسيق مع كوريا الشمالية وإيران، اللتين تصنِّعان سلاحا نوويا وصواريخ عابرة للقارات، شعرت دول كثيرة بالخطر منهما، خصوصا مع غياب أي تهديد لهما يبرر هذا المستوى من التسلح.
وتشير بيانات مؤشر السلام العالمي (GPI) إلى أنه في حال إقدام الصين على محاصرة تايوان، فإن الكلفة الاقتصادية التي سيتكبدها العالم ستكون بحدود 2.7 ترليون دولار خلال عام واحد، أي ضعف الخسارة التي تكبدتها دول العالم أثناء الأزمة المالية العالمية لعام 2008.
وحسب البيانات نفسها، ازداد عدد القتلى خلال عام 2023، بنسبة 96%، ليصل إلى 238 ألفا، إذ شهد 79 بلدا في العالم تصاعداً في الصراعات المسلحة، بما فيها إثيوبيا وبورما وأوكرانيا وجنوب أفريقيا وإسرائيل وفلسطين (وهذا الرقم لا يشمل قتلى غزة، الذين تجاوز عددهم العشرين ألفا). وتشير بيانات جديدة إلى أن عدد القتلى في الصراع الدائر في إثيوبيا، المنسي عالميا، يفوق الخسائر البشرية الأوكرانية، علما أن 65% من الشباب الأوكرانيين، في الفئة العمرية (20-24)، إما قتلوا في الحرب وإما غادروا البلاد.
أما الكلفة الاقتصادية للعنف فقد تصاعدت بنسبة 17% عام 2023، حسب مؤشر السلام العالمي، أو بأكثر من ترليون دولار عما كانت عليه عام 2022، لتبلغ 17.5 ترليون دولار، وهذا يعادل 13% من الناتج الكوني الإجمالي. وبسبب تصاعد أعمال العنف والتهديدات المسلحة، ازداد الإنفاق على التسلح في 92 بلدا، رغم أن 110 بلدان قلَّصت من عدد جنودها، لاعتمادها المتزايد على الأسلحة المتطورة. هناك الآن 91 بلدا تنشغل في صراعات خارجية، مقارنةً مع 58 عام 2008. أوكرانيا خسرت 450 مليار دولار منذ بدء الحرب، وهذا يعادل 64% من ناتجها المحلي الإجمالي.
وبينما كان العالم مشغولا بحرب أوكرانيا وروسيا وأزمة المناخ ومكافحة التضخم والاستعداد لمواجهة الكساد، الذي يلي انخفاض التضخم، وتدهور العلاقات بين الصين والغرب، واحتمال ضم الصين تايوان بالقوة، اندلعت الحرب المأساوية في غزة، والتي شغلت الرأي العام العالمي، حتى نسيت شعوب العالم باقي مشاكلها، ولكن، رغم كل هذا الاهتمام والتركيز على مأساة غزة، عجزت الدول الكبرى عن كبح جماح إسرائيل ودفعها لوقف إطلاق النار لحماية المدنيين العُزَّل من القتل العشوائي.
لقد كشفت حرب غزة ضعف المجتمع الدولي، الذي عجز عن حماية مليونين و300 ألف مدني، معظمهم نساء وأطفال وشيوخ ومرضى، من طغيان نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، التي لا تعرف وسيلة أخرى للتعايش مع الآخر، غير الحرب والتدمير. كما فضحت مأساة غزة زيف مدعيات الدول الغربية بالتزام القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان ودعم القوى الديمقراطية، أو كشفت تعاملها الانتقائي مع هذه المسائل.
لم تكن هذه المرة الأولى أو الوحيدة التي يتفرج فيها العالم على مأساة إنسانية، دون أن يفعل شيئا، فمأساة البوسنة والهرسك لم يمضِ عليها سوى ثلاثة عقود، حينما ظلت دول أوروبا الغربية والشرقية، ومعها دول العالم شرقا وغربا، تتفرج على أعمال القتل الجماعي والتجويع والاغتصاب، التي جربت في البوسنة والهرسك لأربع سنوات متتالية في الفترة 1992-1996، علما أنها دولة أوروبية. ولم تتوقف تلك المجزرة حتى أرسل الرئيس الأمريكي، بيل كلنتن، طائراته عبر المحيط الأطلسي ليوقف الصرب عند حدهم وينهي الحرب، ومعها زعامة الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي واجه ثورة شعبية عارمة وتمردا عسكريا، اضطره لإجراء انتخابات حاول تزويرها، دون جدوى، فخسرها واضطر إلى الاستقالة قبل انتهاء فترته الرئاسية، نتيجة للضغوط الشعبية. وبعد تسلم الرئيس الجديد منصبه، سلمت السلطات الصربية ميلوسوفيتش إلى المحكمة الدولية في لاهاي، ليخضع لمحاكمة دامت خمس سنوات، انتهت بموته أثناءها.
وهذا دليل لمن احتاج إلى الدليل أن هناك دولة واحدة تتحكم بالعالم، وأن هذا العالم المترامي الأطراف يعجز عن حسم القضايا المعقدة دونها، بل تتحول قوانينه ومواثيقه واتفاقياته وعهوده حينئذ إلى مزحة. وإن غضت تلك الدولة الطرف عن قضية أو مشكلة، فإنها تتواصل وتتفاقم، أما إذا اصطفت مع دولة أخرى، ظالمة أو مظلومة، فإن العالم يبقى عاجزا عن التدخل.
يخبرنا صندوق النقد الدولي بأن الاقتصاد العالمي يتميز بالصمود والمرونة، وأنه يتعافى من جائحة كرونا والغزو الروسي لأوكرانيا وأزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، وأن صموده مثير للإعجاب! ويدلل الصندوق على صمود الاقتصاد بأن انهيار أربعة بنوك أمريكية، وبنك كريديت سويس، لم يؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي، ولم يزعزع الثقة بالنظام المصرفي.
ويذكر أيضا استمرار انخفاض معدل التضخم، لكنه يشير إلى أن النمو الاقتصادي آخذ في التباطؤ، وهذا ما سعت إليه البنوك المركزية، برفعها أسعار الفائدة. ويضيف أن التباطؤ لا يعني التوقف، بل يعني أن الاقتصاد يسير ببطء، أو أنه “أعرج وغير قادر على العدو بأقصى سرعة”، حسب بيان الصندوق.
لكن توقعات الصندوق تشير إلى تراجع بنيوي في الاقتصاد العالمي. وخلال فترة 15 عاما، بين 2008 و2023، تدنى النمو الاقتصادي بنسبة 1.9%، وأنه تدنى بنسبة 3% في عام 2023 عما أشارت إليه التنبؤات قبل جائحة كورونا. ورغم أن هذا التدني شامل، لكنه يلحق ضررا أكبر بالبلدان النامية. ومن أجل أن تتمكن هذه البلدان من تضييق الفجوة بينها وبين البلدان الغنية، فإنها تحتاج إلى 130 سنة لتضييقها إلى النصف، بعد أن كانت تنبؤات الصندوق عام 2008 تشير إلى أنها تحتاج 80 سنة لتضييق الفجوة إلى النصف. إن هذا الفارق الزمني المريع سوف يتسع بمرور الزمن إن بقيت الصراعات والفساد والعنف والتناحر وسوء الإدارة تعصف بالبلدان النامية.
وحتى مشكلة التغير المناخي تؤثر على البلدان النامية أكثر من الغنية. فالعديد من الدول النامية تعتمد على تصدير المواد الأولية، كالفحم والنفط والغاز، وأهمية هذه المواد سوف تتقلص عندما يبدأ العالم بالاعتماد على مصادر بديلة للطاقة. إضافة إلى ذلك فإن ارتفاع أسعار الفائدة، والشح المتزايد للأموال لدى الدول الغنية، سيحدان من قدرتها على مساعدة الدول الفقيرة أو حتى الاستثمار فيها، خصوصا مع الحاجة المتزايدة للاستثمارات من أجل مواجهة تحديات التغير المناخي.
تنامي الإجراءات الحمائية في الدول الغربية في الآونة الأخيرة يساهم في عزل الدول النامية عن التجارة الدولية، ما يلحق أضرارا بمداخيلها ومستوى شعوبها المعاشي، خصوصا تلك التي تعتمد على تصدير منتجاتها إلى الدول الغنية. تزايد الحمائية يشير إلى أن دول العالم فشلت في أن تعمل معا لمواجهة التحديات الكونية، خصوصا التغير المناخي والفقر والتعليم والصحة ومكافحة الأوبئة وكبح العنف والإرهاب.
المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، التي أنشأت ابتداءً كي تساهم في الاستقرار النقدي ومكافحة الفقر، بقي دورها محدودا في البلدان النامية. لقد ساعدت دول أوروبا واليابان على إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يجب أن توجه جهودها بعد ذلك لمساعدة البلدان النامية، لكنها عاجزة بسبب افتقارها إلى الأموال المطلوبة. مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، طالبت في الاجتماع الأخير المشترك للصندوق والبنك الدوليين، المنعقد في مراكش في أكتوبر الماضي، بمزيد من التمويل من أجل مواجهة التحديات المشتركة التي تواجه العالم.
لكن هذه الدعوة ستبقى صرخة وسط العواصف والصخب، خصوصا مع تزايد التسلح والصراعات الدولية، وتدني النمو الاقتصادي وتناقص الأموال المتوفرة للاستثمارات.
مجلس الأمن الدولي، الذي أُنيطت به مهمة حل النزاعات الدولية الخطيرة، شبه معطل، خصوصا وأن أي اعتراض من الأعضاء الخمسة الدائمي العضوية، يعطل قراراته. أما قرارات الجمعية العامة فهي غير ملزمة ولا تعدو عن كونها احتجاجا غير مجدٍ. العالم بحاجة إلى إعادة النظر في تركيبة “الشرعية الدولية”، وإلا، فإنها ستبقى ديكورا، مألوفا ومستهلكا وبحاجة إلى تحديث عاجل.
أقصى ما يمكن أن يأمله العالم في عام 2024 هو إيقاف الصراعات المسلحة، خصوصا في فلسطين وأوكرانيا والسودان وإثيوبيا، ودرء خطر الحروب المحتملة، التي ينذر بها التسلح المتزايد لنصف دول العالم، وبالأخص الدول التي تسعى لحيازة السلاح النووي الفتاك، وكبح جماح الجماعات الإرهابية التي تتمرد على الدول التي تنشط فيها، بفضل دعم “خفي” تقدمه لها دول أخرى.
سكاي نيوز