العرب ومستقبل التفاعل الحضاري مع العالم
قاسم المحبشي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_عملت الجمعية الفلسفية المصرية خيرا باختيارها المدخل الحضاري لمؤتمرها العلمي الدولي للعام الحالي. إذ تفتتح الجمعية الفلسفية المصرية؛ أقدم جمعية فلسفية بالعالمين العربي والإسلامي أعمال مؤتمرها الدولي الثالث والثلاثين بمقرها الدائم بمدينة أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة صباح اليوم السبت الموافق 2 مارس 2024م وتستمر على مدار ثلاثة أيام حتى الإثنين 4 مارس 2024م بعنوان بالغ الأهمية والحيوية «العرب ومستقبل التفاعل الحضاري» وذلك بمشاركة “أكثر من سبعين أستاذاً وباحثاً من مختلف دول العالم وخاصة عالمنا العربى، ويناقش المؤتمر هذا العام موضوعاً غاية فى الأهمية هو موقف العرب من التفاعلات الحضارية العالمية الراهنة، محاولاً استشراف الآفاق المستقبلية لهذا التفاعل وإلى أين يسير بنا فى ظل اشتعال الحروب والصراعات الإقليمية والدولية” بحسب الاستاذ الدكتور مصطفى النشار رئيس الجمعية الفلسفية المصرية. نعم الحضارة هي ما ينقصنا وليس الدين ولا التاريخ ؛ الحضارة بوصفها القوة التنظيمية بالتاريخ. لدينا تاريخ مجيد ولدينا دين عظيم ولدينا مكان استراتيجي ولدينا شعوب كثيرة فما الذي ينقصنا؟ السيادة والقدرة على السيطرة والتحكم بمجالنا الحيوي مثل الحضارات الفاعلة في عالمنا الراهن ؛ الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وغيرها. وبهذا المعنى نفهم الحضارة بوصفها سياسةً واخلاقا وتشريعاً. هي القوة التنظيمية التي لا تكون الأمم إلا بها والسياسية هي جوهر الحضارة ولا تكون إلا بها؛ هي الزمن الذي لا يمر كما عبر روجيس دوبريه حقا ويستحيل تجاوز استحقاقاتها فإما أن يتم تقعيدها في مجالها المؤسسي المستقل أعني الدولة العادلة الحديثة التي تأسس على قوة الحق وليس حق القوة وإما أن يعم الخراب كل شيء في الحياة الاجتماعية وهذا هو ما نشاهده اليوم في كل مكان من عالمنا العربي الذي تفتك به الحروب الأهلية والطائفية وتجعل دوله أثرا بعد عين. عدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح تلك هي مقومات وجود الدول واستمرارها وازدهارها بحسب الماوردي. كتبها في منتصف القرن العاشر الميلادي وهي خلاصة الحكمة السياسية في كل العصور فالعدل أساس الملك واستقرار الدول والأمن شرط وأساس السلام والاستمرار والأمل مبعث النشاط والإبداع والابتكار وحافز النمو والتنمية والازدهار.
نعم – كما كتب قبل أيام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة عدن محمود السالمي – تؤثر الجغرافيا في سلوك الناس وافعالهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم وعاداتهم وقيمهم وانماطهم الثقافية المحلية؛ تلك الواقعة البديهة هي التي تفسر الاختلافات بين سكان البيئات الجغرافية المختلفة فسكان السواحل البحرية يختلفون عن سكان المناطق الجبلية وسكان الضفاف النهرين يختلفون عن سكان البوادي الصحراوية وسكان المرتفعات الجبلية يختلفون عن سكان المناطق السهلية ومع ذلك تبق السياسية هي المؤثر الحاسم في الحياة الاجتماعية إذ يفوق أثرها كل مؤثرات الجغرافيا والتاريخ. وما حدث في بعض البلدان العربية ومنها( فلسطين والصومال واليمن والعراق وليبيا وسوريا وغيرها) يعد أسوأ بما لايقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ ( الحر والبرد والخصب والجدب والرياح والفيضانات والزلازل والبراكين والأوبئة الفتاكة.
حول ذلك المحور سوف تكون ورقتي المشاركة في المؤتمر اليوم بعنوان( مستقبل التفاعل الحضاري بين العرب والصين) الورقة الأولى
في الجلسة الرابعة. اليكم مقتطف منها:
المكان هو البعد الأساسي للكائن الحي. كون، كان، مكان ، كائن، كيان، كينونة، مكين، تمكين وغير ذلك من الأسماء والصفات التي تدل على المكان بوصفه كيانا مشخصا متعينا للعيان. فلا كيان بلا مكان وليس شخصا ذلك الذي لاينتمي إلى أي مكان. فالمكان هو الثابت الدائم الذي يمنح الإنسان كينونته الوجودية في هذا العالم. ولا كينونة خارج المكان، أنه الأرض أو السطح الذي يحتوي الأجسام كلها بوصفها كياناتا وكائناتا محسوسة ملموسة يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو بالتلسكوبات الرقمية. فلا شيء خارج الأمكنة التي تحيط بالكائنات من جميع الجهات. الأمكنة هي لغة الكينونة الأصلية التي تقول كل شيء دون أن تتكلم! صمتها يدل عليها وصخبها يمنحها هويتها. لغة بصرية وسمعية زاخر بالمعاني الدلالات المفعمة والأسطح والأبعاد والامتدادات والنتوءات والانحدارات والفضاءات والألوان والضلالات بالأنوار والظلمات. أنها قاع كل شيء وأصل كل كيان من الكون ذاته إلى أصغر ذراته. للأمكنة سطوتها وسلطتها القاهرة التي يستحيل الهرب منها أو تجاوزها فكل ما تستطيعه الكائنات بإزائها هو التكيف معها بإعادة تأثيثها بالوسائل الممكنة. وهذا هو كل ما يستطيع بلوغه الإنسان في هندسة المكان وتسويسه بما يجعله قابلة للعيش والتمكين أما الحيوانات فهي تعيش المكان بطبيعته الأصلية وبغريزتها الفطرية. الإنسان وحده عبر تاريخ الطويل الذي تمكن من منح المكان ملامحه الإنسانية بالفعل والنشاط والانفعال والبناء والتعمير والتنمية وبهذا المعنى يمكن القول أن الجغرافيا تحضر بصور شتى أما التاريخ فهو ذاكرة الزمان والمكان. لقد شكّل المكان منذ الكينونة الأولى وما زال يشكّل ويستمر محور الرهان الجيوبوليتيكي في صراع القوى الفاعلة على كوكب الأرض وهذا هو موضوع كتاب روبرت كابلان انتقام المكان. فأين هو موقع الصين والعرب اليوم في صراع الأمكنة وتأكيد حضور الكيان؟ يقول روبرت كابلان: “ثمة مكانٌ جيدٌ لفهمِ الحاضر، ولطرح الأسئلة حولَ المستقبل، وهو أديمُ الأرض، مع السَّفر فوقها بأبطأ ما يمكن”( ينظر, روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد420، أبريل 2015)
ربما أدركت الصين مبكرا أهمية صراع الأمكنة في عالم اليوم إذ كانت هي التحدي الأبرز للحضارة الغربية الصاعدة من من هشيم الحضارات القديمة ولم تكن حملة نابليون على مصر عام 1798 كما كتب مدني صالح إلا محاولة لقطع الطريق على التنين الصيني الرهيبة الذي إذا ما استعاد عافيته سوف يكتسح العالم اكتساحا سلميا بقواه الناعمة وهذا هو ما نشاهد يتحقق اليوم. فالصين، هذا المارد الهائل الذي بقي كما لو أنه يعيش على هامش العالم، وقد جاءت ملحمة “الأرض الطيبة” رواية الكاتبة الأمريكية بيرل باك لصادرة عام 1931م لتميط اللثام عن هذا التنين الذي لا يعرف العجز والاستسلام للأقدار حتى وأن اضطر لأكل الأعشاب والتراب، ولعلني أتذكر الآن كيف وصفت الكاتب مشاهد فقراء الصين وهم يتلذذون بأكل التراب بأسلوب آسر ومثير دفعني حينها لتجريب أكل التراب؛ الأرض الطيبة ليست مجرد رواية أدبية بل تعد مرآة كاشفة لحقيقة المجتمع الصيني في أعماقه إذ صورته بفقرائه وفلاحيه في الريف، بمشرديه في المدينة، كما بأغنيائه ونمط عيشهم الباذخ. وصورت آلهة ومعتقدات وعادات وأساطير الصين، كما صورت الحياة اليومية بتفاصيلها.لقد قدمت لنا بيرل باك عبر سرد قصة حياة أسرة عجيبة، مجتمع الريف ومجتمع المدنية، وقدمت لنا نموذجاً لمكافح مرّ عبر كل المستويات الاجتماعية التي تمثل مجتمع الصين.إنها قصة كونية مروية بأسلوب آسر. فيها شيء عن كل أسرة في كل مجتمع. وذلك ما يجعل منها رواية خالدة في تاريخ الأدب الإنساني العالمي ومن يقرءا رواية الأرض سوف يعرف الصين ويفهم سر نهضته وتفوقه وحينها سيبطل عجبه. وتحضرني هنا محاورة تمت بين مفكريين صينيين وأمريكيين في مطلع تسعينيات القرن الماضي بشأن النظر إلى العالم الراهن وإعادة تشكيله في عصر العولمة. إذ كتب (دايفد روثكويف) استاذ العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا الأمريكية قائلا: “يتعالى صرير بوابات العالم وهي تتجه للإنغلاق . ومن الشرفات الرخامية وعبر موجات الأثير يندد الديماجوجيون بالمخاطر الجديدة التي تحيق بالثقافات القديمة والقيم التقليدية فالأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت ، وطائرات الجامبو تنقل العدوى والأجنبي أصبح في عيون الكثيرين مرادفاً للخطر “تفصح بنية هذا البيان عن وجهة نظر مدافعة عن خيار العولمة ومحاولة للدفاع عن حتميتها أمام ما اسماه ” بالديماجوجيون ” غير أن الكاتب ومن موقعه الأيديولوجي يكشف من حيث لا يدري عن المخاطر التي تهدد الثقافات التقليدية المحلية إذ إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم ، بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً وتمكن أقمار الإرسال التلفزيوني الصناعية اليوم الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفزات الثقافية فالمشاهدون الروس متعلقون بالتمثيليات التلفزيونية الأمريكية وقادة الشرق الأوسط يعتبرونه محطة ال (سي أن أن) مصدراً رئيسياً حتى للمعلومات و الأفكار . فالموسيقى الأمريكية والأفلام الأمريكية والبرامج التلفزيونية أصبحت شديد الهيمنة ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتى إنها توجد في كل مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة ، وهي تؤثر فعلياً في أنماط وحياة وتطلعات كل الأمم وتشير الإحصاءات أن نصيب أمريكا من السوق العالمية من برامج الكمبيوتر سابق التجهيز (1994) 60% ومن الموسيقى سابقة التسجيل 75% ومن سوق الكتب العالمية في 1995-35% وهذا هو ما جعل فرنسا وكندا تصدران قوانين تحظر نشر ونقل المواد الأمريكية إلى بلديهما. ويسخر الداعي الأمريكي دافيد روثكويف من فرنسا وكندا قائلا: “إن هذه الحكومات هي سليلة الملك ” كاتوت ” الملك سيء الصيت الذي أقام عرشه على شاطىء البحر وأمر الأمواج أن تعود القهقري “وتعود أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي – كما يقول – في جانب منها أن المجتمعات المغلقة لا يمكنها أن تنافس في عصر المعلومات وسيكون مصير هذه البلدان هو الأسوأ. إن نبرة دايفد المتجحة لا تخلو من الانفعال العاطفي بالفرح المنتصر ، فهو هنا يصور العولمة كأسطورة طبيعية يستحيل ردها ، كما يستحيل رد أمواج البحر من التدفق باتجاه الشاطئ إن مادح الامبريالية هذا لا يخفي تعصبه الأيديولوجي بقوله “إن الفرصة سانحة أمامنا نحن الأمريكيين ) فالولايات المتحدة في مركز يسمح لها ليس فقط بالقيادة في القرن الحادي والعشرين بوصفها القوة المهيمنة في عصر المعلومات – بل – أيضاً بالقيام بذلك من خلال تحطيم العوائق التي تقسم الأمم والجماعات داخل كل أمة وبناء روابط قادرة على خلق مستودع دائم الاتساع من المصالح المشتركة بين مجتمع عالمي من الشعوب يتزايد حجمه باستمرار. ويحذر روتكويف في الختام الأمريكيين بعدم الانجراف مع ردود الأفعال السلبية إزاء العولمة لأن هذا سيؤدي إلى تقويض قوة أمريكا على تعزيز مصالحها الذاتية. في هذا السياق الدوجمائي يمكن فهم كتاب ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير ” لفرنسيس فوكوياما وكتاب ” صِدامْ الحضارات لصمويل هنتجتون ” فكما هو واضح إن العولمة هي إفراز جملة من العوامل والشروط الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية التي تطورت على نحو تاريخي طبيعي .ولهذا نلاحظ أن ميشيل كلوخ يذهب في أطروحته الثالثة إن الأمريكيين لا يعرفون جيداً ما إذا كانت العولمة شيئاً صحيا بالنسبة لأمريكا أو فربما تفضي على المدى الطويل إلى نتائج سلبية عليها كما ينقلب السحر على الساحر .أما الأطروحة الرابعة ( الأخيرة ) فهي ترى إن أمريكا لن تكون القوة العظمى للعولمة وهذا معناه إن ثمة قوى جديدة سوف تظهر ، وهي قد ظهرت بالفعل وسوف يكون لها دورا حاسما على صعيد تشكيل وجه العالم الجديد ومصالحه وقواه. فكلما تقدمت العولمة للأمام صارت اقل تأمركاً.وهذا ما سوف نلاحظه عندما نقرأ آراء الصين واليابان والشعوب الأخرى بشأن العولمة وتحدياتها. إذ يرى الكاتب الصيني (لاوسي) على خلاف سابقيه الأمريكيين: “بالنسبة لنا نحن الصينيين فالظاهرة التي يسميها الغربيون (بالعولمة) أو (الكونية) لا تعني شيء غير الأهمية المتنامية لآسيا في التجارة العالمية وبالمحصلة تؤكد وضعها المركزي في العلاقات الدولية .فنحن نشهد اليوم عودة لآسيا ، وللصين بصفة خاصة وبنظرة عامة نجد أن تنمية الاقتصاديات الآسيوية أقوى من حالة التقدم الدولي على الرغم من بعض التراجع في عام (1996) فإن المعدل السنوي لنمو الإقليم الآسيوي هو 7.4 بالمائة أي أكثر من ضعف معدل نمو المتوسط العالمي الذي يدور حول نسبة 2,7 في المئة . ومن هنا يتوقع أن الدول الآسيوية مجتمعة تتجاوز أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية معاً في السنوات العشرين القادمة بهذه اللغة الحازمة الصارمة يستهل لاوسي مقالة المعنون (نعم للعولمة …. لا للغربنة) والمنشور في المجلة الثقافية العالمية، ثم ما لبث أن شن هجوماً عنيفاً على الطريقة التي تمثل بها الولايات المتحدة الأمريكية العالم إذ كتب قائلا: ” أن تمثيلنا للعالم مختلف جوهرياً عن النظرة الأمريكية ، ويبدو لنا أن أمريكا تنظر للعالم كمجموعة من السيادات المهذبة ، يفصل بينها البحر أو الجبال التي يصعب عبورها بسيادة مهذبة كسيادتهم … أما نحن الصينيون على العكس الأمريكيون ، نعتقد أن العالم سهلا كبيرا تحارب أمريكا لفرض تفوقها عليهِ ، وهي في فرضها لهذا التفوق تسعى لسلب الآخرين منه ، ويشير إلى طبيعة تلك الاختلافات الجوهرية بين الثقافة الصينية وبين الثقافة الأمريكية فيما يخص الدولة والفرد والمجتمع والحرية والعدالة ففي حين تعمل الدولة الغربية على حماية حقوق الفرد في الحياة والحرية والملكية ، فبالنسبة لنا نحن أحفاد كونفوشيوس يبدو مفهوماً كهذا مدعاة للدهشة ناهيك عن كونه غير قابل للإدراك والفرد في الصين يعد دائماً جزءا من مجموع ، وتعد المصلحة الفردية تابعة للمصلحة الاجتماعية. واضح أن (لأوسي) لا يعبر عن وجهة نظر مجردة ، بل يكشف عن حقيقة اختلاف ثقافي اجتماعي بين الغرب والشرق. اختلاف قائم بالفكر وفي الواقع ، وحينما تتحدث الصين ينبغي للعالم أن ينصت ، وينبغي على أمريكا بالذات أن ترهف السمع ، فالصين لا ترى في العولمة هيمنة النمط الأمريكي ، بل ترى فيها تعزيز قوة الصين وآسيا على الصعيد العالمي ، هنا تدخل العولمة محك المواجهة الحقيقية وتواجه عثرات يستحيل تجاوزها أبداً في المستقبل القريب .وفي خاتمة خطابه يؤكد (لأوسي) لو أن العولمة لها مضمون (جيوبوليتكي) عالمي فأن عليها أن تقوم بالضبط على ما يأتي( فتح الصين على العالم ، و فتح العالم على الصين ، وأي شيء خلاف ذلك سنكون مضطرين للتعامل معه كنبرة دعائية فجه ، تختفي خلفها رغبة الغرب في إخضاع بقية الكوكب.كما ينبغي على الأمريكيين أن يدافعوا على المصالح التجارية بشكل صريح بدلاً من الاختباء وراء ستار من الدخان الأخلاقي المستعار في حديثهم عن الديمقراطية ، وحقوق الإنسان )ينظر، مجلة الثقافة العالمية، الكويت العدد 169عام 1990). ومن يدرس تاريخ الحضارة الإنسانية سوف يدرك مغزى الرسالة الصينية للعالم الجديد. إذ كانت الصين عبر تاريخها الطويل شديدة الاعتزاز بذاتها وبقدراتها على استعادة ضربتها الحضارة عاجلا أم آجلا وهذا هو ما تفصح عنه رسالة إمبراطور الصين إلى ملك بريطانيا العظمى. مطلع القرن السابع عشر الميلاد أرسلت الملكة فيكتوريا، ملكة المملكة المتحدة ( بريطانيا العظمى) أول سفينة بريطانية تحمل أحدث منتجاتها الصناعة في العهد الفكتوري ومنها؛ ساعة أوتوماتيكية، فخر الصناعة البريطانية حينذاك، رحب والي الصين بالوفد القادم من وراء البحار في غرب الدنيا ولكنه رفض استلام الهدية بصرامة، وكتب رسالة بالغة التعبير والدلالة؛ ردا على هدية الملكة البريطانية أتذكر أهم ما جاء فيها : “نحن أبناء السماء نهدي ولا نُهداء.. شكرا لهديتكم التي لا حاجة لنا بها واليكم بعض ما يدل علينا، إذ أرسل لها جلد نمر يحمل أيقونة التنين! ومنذ قراءتي لتلك الرسالة الإمبراطورية المثيرة وأنا أبحث عن سر المعنى؛ معنى رمزية التنين ومعنى أبناء السماء ومعاني أليان واليانج والطاو والتنين وغير ذلك من الكلمات المفتاحية في فهم الثقافة الصينية التي شكلت عبر التاريخ الطويل الروح النابضة بالحيوية والإبداع والتجدد المستمر وتلك هي حجر الفلسفة الكونفوشية الزاخرة بالمعاني والرموز الميتافيزيقية؛ (نحن أبناء السماء) تلك العبارة التي أثارت دهشتي قبل عقدين من الزمن وأنا أكتب أطروحتي في بغداد الجريحة عام 2004. في لحظة اختناق التاريخ وتصادم بدايته مع نهايته. وقد سبق لي وأن قرأت رواية الأرض الطيبة للرواية الأمريكية بيرل باك صدرت سنة 1931م تلك الرواية التي تجعل من يقرءاها يفهم روح الحضارة الصينية وحساسيتها وسبب صمودها وديمومتها فإذا كانت الحضارات العظيمة في التاريخ قد تعاقبت في ثلاثة أجيال فان الحضارة الصينية، ربما كانت هي الوحيدة التي ظلت مستمرة عبر سلسلة متصلة من النظم الحاكمة التي احتفظت بالحضارة الكونفوشية العميقة وصانتها من الانهيار والدمار رغم تعرضها لموجات عديدة من الحروب والهجمات والغزوات الأجنبية والاستعمار فضلا عن الكوارث الطبيعية التي كانت تجتاحها ومنها: البراكين والزلال والفيضانات الجائحة، ولعل تلك التحديات الوجودية الحاسمة هي ما جعل الحضارة الصينية تبتكر أعظم استجابة بشرية في قانون التحدي والاستجابة، إذ جاءت استجابتها الفعّالة على شكل معجزة تفوق الطاقة البشرية الطبيعية، وحدها الصين من فعلتها بشروعها بناء سورها العظيم منذ القرن الثامن قبل الميلاد، في مدة زمنية بلغت 1800 عاما، استطاعت إنشاء سُوَر يبلغ طوله 2400 كم، وتذهب بعض المصادر إلى أن السور الذي “يبدأ من نهر يالوه شرقا وينتهي عند ممر جيا يو قوان غربا. بلغ إجمالي طوله 7000 كيلومتر” (ينظر، الموسوعة الحرة، ويكيبيديا (ويعود تاريخ تأسيس الصين بوصفها تشتمل على مقومات البنية التنظيمية في التاريخ ( السياسة والأخلاق والتشريع) ” إلى بداية الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث بدأ الحكم في الصين يظهر على شكل سُلطة هرمية استبدادية يتزعمها حاكم فردي، وكان نظام الحكم فيها وراثيًا، وكان الحاكم أو الملك حينها يجمع بين صفتي الملك وكبير الكهنة، وكان يعتبر المالك الوحيد للأرض، وتليه في التراتبية الاجتماعية الطبقة الإقطاعية ثم عامة الناس. في تلك الآونة، كانت الذهنية الدينية هي السائدة في البلاد، وكان قدماء الصينيين يعتقدون أن كل ما هو موجود في العالم هو موجود بتدبير وإرادة «السماء» (tiān)، وكان الحاكم يعتبر بنظر الناس «ابن السماء» (tiānzĭ)، والصين نفسها كانت تسمى «كل ما تحت السماء» (tiānxià)، وكان الإيمان بتأثير الأرواح على حياة الناس قائمًا، لذا كان تقديم القرابين والأضاحي شائعًا لاسترضاء هذه الأرواح”( ينظر، رسلان عامر، الفكر الصيني القديم وسؤال الفلسفة، منصة معنى السعودية، يناير2022) وقد تميزت الحضارة الصينية عبر تاريخ الطويل بالوسطية والاعتدال والنزعة السلمية في علاقاتها مع الآخرين، إذ رغم كونها تشكّل أكبر تجمع بشري من سكان العالم إذ يقطنها أكثر من 1.45 مليار نسمة حوالي خمس سكان العالم وتمتد مساحتها في 9.6 مليون كيلومتر مربع وأسرع اقتصاديات العالم نموًا حيث أصبحت أكبر دولة مصدرة في العالم وثاني أكبر مستورد للبضائع. يعد الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الصين عضو دائم في مجلس الأمن للأمم المتحدة. كما أنها أيضًا عضو في منظمات متعددة الأطراف بما في ذلك منظمة التجارة العالمية والابيك وبريك ومنظمة شانغهاي للتعاون ومجموعة العشرين. تمتلك الصين ترسانة نووية معترف بها وجيشها هو الأكبر في العالم في الخدمة مع ثاني أكبر ميزانية دفاع. وصفت الصين كقوة عظمى محتملة من جانب عدد من الأكاديميين [ والمحللين العسكريين والمحللين الاقتصاديين والسياسة العامة ,ورغم كل ما تمتلكه من مقومات القوة فهي لم تشن حربا قط على أحد. وربما يعود ذلك إلى روح ثقافتها المسالمة فإذا كان التنين في الثقافة الغربية Dragon يرمز إلى وحش كاسر يقذف النار من بين فكّيه بخلاف التنين الصينيّ واهب المطر -بحسب ما تقول الأسطورة- وواهب الحياة أيضاً لأبناء “مملكة الوسط”. فالصيني يعتبر نفسه من سلالة التنين السماوي، والأباطرة الصينيّون من صلب التنين السماويّ. ولا يحتمل الصيني أن تمسّ كرامة التنين، كما حدث حين قامت شركة إعلانية غربية بتصوير دعاية لصالح شركة “Nike” يقوم خلالها بطل كرة السلة “رون جيمس” بالقضاء على التنين الصينيّ، قامت الصين بالاعتراض على الدعاية التي تمسّ مقدّسها ومنعت عرضها. إن التنين رمز الشر في الغرب، بخلاف ما هو عليه في الصين، ورمز الشر أيضاً في التوراة، ويقال إنّ كلمة “التنين” الواردة في التوراة تعني نوعاً من الأفاعي، وللأفعى في تراث الشرق الأدنى مثالب كثيرة منها تحميلها وزْر غواية حوّاء وسقوط آدم من الفردوس الأعلى فكادت الصين أن تستبدل رمزها القديم برمز حديث هو” الباندا” -الدبّ الوديع الذي تحوّل رمزاً للحيوانات المهددة بالانقراض- خشية على سمعة تنينها المقرونة لسوء الترجمة بسمعة التنين الغربيّ الشرّير. يعترض اليوم بعض المفكرين الصينيين ومنهم “كْوانْ شيهْ جْيِهْ” الأستاذ في جامعة بكين على استخدام كلمة “Dragon” ومترادفاتها الغربية لترجمة التنين الصيني معتبرين اسم التنين الصينيّ غير قابل للترجمة كأيّ إنتاج محليّ لا مرادف أو معادل له واقترحوا أن يحتفظ التنين الصينيّ باسمه الأصيل وهو ” لونْغْ”، حتّى لا يقع فريسة التماهي بالتسمية الغربية السلبية. فهم أدركوا أنّ اللعب باسم الرمز يفتح باب المناورة واللعب بأمور أخرى، والغرب ليس بريئا من اللعب الخبيث بالتسميات والمسمّيات.
الطريف في أمْر التنين الصينيّ انه كائن مختلق، ليس له وجود فعلي تماماً كطائر الفينيق، يعود تاريخ ولادته إلى أكثر من خمسة آلاف سنة كما تقول الحكاية حين كانت الصين مجموعة قبائل متناحرة، ولكلّ قبيلة طوطمها الخاص بها، إلى أن جاء الإمبراطور الأصفر “خْوَانْغْ تي” الذي لم يرض عن التناحر بين القبائل الصفراء الذي يستنزف طاقاتها فقام بتوحيدها تحت رايته، ولم يكن يريد أن يظهر تفوق قبيلته على القبائل الأخرى فما كان منه إلا أن أنجب من مخيلته الراغبة في توحيد أشتات القبائل الصينية هذا الكائن الخرافي الذي لا يثير ضغينة أحد. نحت الإمبراطور من طواطم القبائل الواقعة تحت سلطانه الطوطم الجديد الذي ترى فيه كلّ قبيلة عضواً من أعضاء طوطمها الغابر. كان التنين بمثابة تسوية ذكيّة تاريخية وسياسية ودينية، يقوم بوظيفة الخيط الذي ينتظم حبات السبحة. أخذ مكوناته من طواطم البر والبحر والجو. كائن هجين وفعّال -لأنّه امتصّ نقمة المهزومين من خلال إشراكهم في تلقيح الرمز- مركّب من كائنات مختلفة، فرأسه رأس جمل أمّا قرونه فقرون الأيائل، وأذناه أذنا ثور، جسمه جسم أفعى أما جلده فمن حراشف السمك وكذلك ذيله، قوائمه قوائم نمر أمّا مخالبه فمخالب نسر وكلّ أسرة صينية تحلم بأن يكون مصير ولدها كمصير التنين أو ألـ ” لونغ ” أي أن يكون مستقبله زاهراً قادراً بفكره الليّن وجسده المرن على تدجين الصعاب أياً كان مصدرها وقد تعاشقت التيارات الفكرية والمعتقدات الدينية الصينية في مزيج ثقافي واحد يحمل هوية الصين ومشتركها الثقافي شديد التنوع والخصوبه في رمزية التنين الصيني العظيم الذي يرمز إلى الطريق والتنوع والتكيف والمرونة والولادة والطموح والتجديد والفضيلة والتسامح والمحبة والإيثار والاحترام الشامل غير المتحيز، والاهتمام بجميع الناس بغض النظر عن العلاقات أو الانتماءات، والتركيز على فضائل التقشف والسلوك النافع.الخ
الحوار المتمدن