الدرس الثاني من دروس رمضان لهذا العام
عباس علي العلي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_دين بعد الدين
من المبادئ الرئيسية في كل الأديان هو مبدأ أن من يصنع الدين ويكتبه ويرسمه الله وحده دون حق لأحد في ذلك، وبالرغم من أن الدين عموما معرفة والمعرفة تتوالد وتتزايد وتثري نفسا بنفسها من خلال الفعل والتجربة، إلا أن الدين لا يماثل المعرفة من هذه الناحية كونه يولد كاملا وأصلا، الدين من جهة أخرى كونه معرفة تتمثل هذه الميزة بكونه أيضا يحرك العقل البشري للإثراء ولكن ليس من خلال نص النص الديني، ولكن من خلال دوره “الحامل والمحمول فيه” في أن يدفع الإنسان للتأمل والتفكر في كل شيء حتى في ذات الدين، لماذا جاء الدين؟ كيف ومتى وإلى أين؟، هذه الأسئلة الضرورية للمعرفة يقبلها الدين بل ويجعل منها مطلبا حتميا لصحة الإيمان الحقيقي، بشرط أن تؤدي به التساؤلات إلى الأمام لا أن يغلق عقله خوفا من الشك والأرتياب.
لو لم يكن الدين كذلك بهذه الصورة الحصرية في التشريع لصار الدين الواحد مجرد فكرة أو رأي أو خطة قابلة للتعديل والتغيير بما يتلاءم مع حاجة المتدين، وهنا يفقد الدين صفته الأساسية المطلوبة وهي الإيمان الضروري بصانع الدين والطاعة لأمره، ومع أن كل الأديان تؤمن بهذه الحقيقية وتحاول أن تحمي مقوماته الأساسية من الزيادة والنقصان، لكن الإنسان نجح في أختراق هذه الحصرية وأبتكر عشرات الوسائل والمسائل في جعل الخاص عام والعام خاص، ومن ذات النص المحكم الذي لا يمكن التلاعب به أصطناع عشرات الحجج والأدلة في الإضافة والزيادة والنقص، بحجة الأجتهاد والرأي الفقهي أو في التوسع في طرق العبادة، أما لحسن نية بقصد زيادة منسوب الطاعة، أو بسوء نيه من خلال الأعتباط في القراءة والتنفيذ تفريطا وأفراطا في المدى الممكن والمعقول.
وقبل الأنتقال لبيان الصور التي نرى فيها أنها جزء من الدين الذي جعلوا منه ملحقا للدين الأصل، وتشريع ما لم يشرعه رب الدين، لا بد لنا من التأكيد على مسألة في غاية الأهمية والضرورة قد تثير حفيظة البعض، وهي أن الدين في النهاية قضية بشرية تهم الإنسان أكثر مما تهم رب الدين، فهو المسؤول عنه وهو المستهدف وهو صاحب المصلحة الوجوبية في التمسك بالدين أو تركة، مما يعني أن الدين يجب أن يخضع لمصلحة الإنسان في جميع الأحوال، ومن خلال جوهر المصلحة ودلالاتها العملية وما يراه الإنسان تكمن مشروعية الزيادة أو النقص، بأعتبار أن التدين أيضا تجربة بشرية تخضع في قوانينها ومتطلباتها لقوانين الزمان والمكان والبعد الحالي.
للجواب على هذا الإشكال العقلي بروح المنطق الديني والإنساني معا لا بد أن نحدد قضية مهمة هنا، القضية فيها ركنين أساسيين، في الركن الأول لو قبلنا مسألة أن المصلحة هي من تحدد مشروعية الزيادة والنقيصة، نكون أمام إشكال موضوعي يتمثل في المعيار الذي يحدد ماهية وحدود المصلحة، هو معيار ذاتي أصلا في الإنسان وللإنسان؟ فإذا أعتمدنا هذا التحديد لا يمكن الوصول لمعيار يتفق عليه جماعة معينة حتى لو أتفقت على مشترك ما وليس عموم مجتمع الإنسان، أولا لتعدد المصالح وتضادها وتضاربها كما في مصلحة العامل مثلا ورب العمل، أو لتعدد العقول التي ترى في حدود مصلحتها ومدى ما يمكن أن يشمل، فالعقل جدا مثلا لا ينظر فقط لمصلحته عندما يوازن النتائج مع المقدمات، والأقل منه يحاول المفاضلة بينهما، والأقل من الأقل يقدم شروط الأنا على ما سواها وهلم جرا، إذا غياب المعيار الجامع الكامل المنصف لكل الشرائح والضابط لحدود الحد الأدنى المانع للانهيار، لا بد أن يكون حياديا عن الإنسان ولا يفكر مثل ما يفكر الإنسان.
في قضية تصميم المصلحة وخياراتها لابد من معرفة حقيقة واحدة حتى في المجال الحياتي العام ومن التجربة، فعندما يصنع شخص جهاز أو يصمم فكرة ما فهو يكون الأعلم والأقدر في تنفيذها أو تشغيلها لأنه عرف بكل تفاصيلها وأسسها وقوانينها وما يضرها وما ينفعها، وقد يكون هناك من هو أعلم منه إذا كان الأعلى هو المرشد أو الذي صنع ودرب وعلم هذا الصانع، هنا الله هو من خلق البشر ويعرف تفاصيل ما يضره وما ينفعه، ويعلم ماذا يمكن أن يساهم في إصلاحه أو يشارك في خرابه، فعندما صمم الله الدين وعلمه الإنسان فإنه بذلك رسم خارطة طريق لأسلم الحلول، وبالتأكيد كان الباعث الأول والأخير هنا ليس مصلحة الله، بل مصلحة المخلوق بعين ورؤية وفكر الخالق نحو الخير المطلق، فمشروعية المصلحة بالإضافة للحيادية هنا الأعلمية (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فالخيرية الغائبة في لحظتها والأحسنية في النتيجة والمجمل كان خيار الله لنا (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
عند هذه النقطة بالذات يتوقف المعيار الأختياري ونتمسك به لأنه خيار خارج ما نعلم، وبالتأكيد هو خيار متعلق أصلا بالرؤية الكلية للوجود حركة وهدف وغائية، فهو ضمن وحدة متكاملة من الروابط القبلية والبعدية محكومة بنظريات شمولية وأليات وموازنات ومعادلات تشد إحداهما للأخرى في عملية ربط متبادل، لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبه ولا في ملايين الأجيال، ما لم يتعلم ويتعلم ويجرب ثم يتعلم ولما لم يبلغ المدى، إذا خيار الدين كمعرفة أنه خيار مغلق على ما منصوص ليس الهدف منه الحجر على العقل البشري أو تحديده، بقدر ما كان الهدف هو ضبطه من الأنفلات المتحرر من رؤية كلية تستهدف حماية الوجود كليا وبالمطلق، فكل أوامر الدين ونصوصه ونواهيه تنتهي عند قاعدة عدم الإفساد أولا ثم الإصلاح، وهنا يأت دور الدين في منع الإفساد والعقل البشري في عملية الإصلاح لاحقا.
نعود إذا الى حقيقة أن الدين محتوى متكامل لا يحتاج سوى لعملية فهم غير معقده ويمكن إدراك خطوطه العامة بيسر لأن الله أصلا جعله مبين، الحقيقة الثانية التي يجب أن يعيها كل إنسان هي أن الله عندما رسم حدود الدين لم يريد منك إلا الحد الأدنى من الألتزام به، دون أن يسمح لك أن تتجاوز الحد الأعلى المرسوم، فكل ما يبتدعه الإنسان ظانا بحسن نية أو متعمدا بخبث هو مجرد عبث بالدين، فلو كان الله يعلم أن فيه خيرا لجعل سقف الإيمان مفتوح لكل راغب أو مجتهد هذا أولا، وثانيا عندما أرسم أنا المتعبد حدود عليا للدين الرباني وأنسبها للدين أولا قد عسرت على من يظن أن الله أراد أو رضا به، وثانيا قد شاركت الله في التشريع وهذا من الخطوط الحمر في دين الله (وَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ).
خلاصة القول أن الله بمجمل قواعد التكليف وضع ثلاثة سقوف للمتدين قاصدا منها أنه يضعه أمام مصلحته الوجودية وخيريته في الحياة، وهي:.
• أولا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
• ثانيا إنما يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
• ثالثا الدين رحمة للناس وليس تشدد ولا تضييق ولا إشغال وإنشغال به (وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِه الرَّحْمَةَ أَنَّه مَنْ عَمِلَ منْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثـُمَّ تَابَ مِن بَعْـــدِه وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُــوْرٌ رَّحِيْمٌ).
نعود لموضوع الدرس لماذا إذا يضع بعض المتدينين دينا أخر فوق الدين الذي أمن به أولا وملزم بأتباعه حصرا وتنصيصا، أو كما هو معروف عند المسلمين قبل غيرهم من أهل الديانات لأننا نتكلم ونحن أهب الدين ومنه وبه، الحقيقة إن دين الإسلام يقوم على أصلين أساسيين في موضوع العبادة تحديدا لأن ما شرعه البشر محصور في هذا المجال وحده، أولا عبادة الله وحده لا شريك له، وثانيا ألا يعبد إلا بما شرع في كتابه المبلغ بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل الطرق إلى الله مسدودة إلا عن طريق كتابه ورسالته فقط، وما من عمل ولا قول إلا في الأول بسؤال عن الإخلاص فيه، والثاني عن المتابعة فيما أشارت له الآية التالية (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران 31، ومن باب المتابعة الألتزام بتحذير الله لنا من عاقبة مخالفة ما هو واجب الإتباع (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) النور 63.
الغالب في الذين يبتدعون أشكالا من عبادات أو يتشددون بها أو يتصورون أنهم إنما يحنون صنعا، قد أوهم البعض أو أضلتهم قراءتهم الفردية لمثل هذه النصوص عندما يتم تدبرها خارج الميزان والمنطق الديني القرآني كما في النص التالي (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) الملك 2، فيظنون أن أحسن العمل هو ما كان فوق الفرض أو فوق التحمل ويسمونه عزيمة، فأحسن العمل وفق منطق القرآن هو أخلصه وأصوبه، والخالص ما كان له وحده مستجيبا لما أمر به دون زيادة أو نقصان وأيضا وفق القدرة والأستطاعة الحقيقية، وأما الصواب فهو ما كان على بلاغ رسول الله من ربه وما نص عليه الكتاب، قال تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف 110، هنا ربط النص بين العمل الصالح الذي منه رجاء لقاء الرب أن يقترن بعدم الإشراك به، لا ظنا ولا تصورا ولا إتباعا لغير قول الله حتى لو زعم البعض أن سنه أو قول أو حديث عن رسول الله ونبي، وهو لا يكون من ضمن ما شرع الله في الكتاب، والدليل في النهي والمنع هو النص التالي (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر 7.
ومن الشائع من صور الدين فوق الدين أو ما شرعه البشر بعناوين التقرب والعمل الصالح والمستحبات والنوافل، وحاصة ونحن في شهر رمضان ما يعرف بمستحبات الصيام، وهي على كثرتها وأعتياد الناس عليها أصبحت جزء من التدين، والبعض أوجبها على الناس بحجة ان رسول الله قال، ورسول الله لا يمكن أن يقول أو يأمر خارج النص المرسل له، أو عندما يكون المنقول عنه جزء من الطبيعة اليومية لحياة الناس أو أخلاقهم، فكل ما صح عنه يدخل في باب الأدبيات والأخلاقيات والمنفعة العامة ولا علاقة لها بالدين ولا تلصق به، وقد عدد الكثير من رجال الدين والفقهاء هذه المستحبات كما يلي:.
يُستحب للصائم أن يُراعي في صيامه الآداب الآتية:
(1) السحور: وهو الأكل والشرب في وقت السَّحر بنية الصوم، وقد أجمعت الأُمة على استحبابه، وأنه لا إثم على من تركه، ويتحقق السحور بكثير الطعام وقليله ولو بجرعة ماء، ولو جعل في السحور تمرًا فهو أفضل.
(2) تأخير السحور إلى الجُزء الأخير من الليل، ويبتدئ وقته من مُنتصف الليل إلى طُلوع الفجر.
(3) تعجيل الفِطر متى تحقق غُروب الشمس.
(4) الفِطر على رُطب أو تمر أو ماء، ويكون وترًا، والرُّطب هو التمر اللين الذي لم يَيبس، أما اليابس فهو التمر.
(5) الدعاء عند الفِطر وأثناء الصيام؛ لأن دعاء الصائم لا يُرد.
(6) الدعاء عند الفِطر بما يأتي: ذهب الظمأ وابتلت العُروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
(7) التجُويد ومُدارسة القرآن.
(8) الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان.
(9) تجنب جميع المُحرمات التي تُحبط ثواب الصوم؛ مثل الكذب والغيبة والنميمة والخُصومة والمِراء.
(10) أن يقول إذا شُتم: (إني صائم) ويُستحب أن يجهر بها سواء كان صومه فريضة أو نافلة، وفي هذا فائدتان: الأولى: عِلم الشاتم بأن المشتوم لم يترك مُقابلته إلا لكونه صائمًا لا لعجزه، الثانية: تذكير الشاتم بأن الصائم لا يُشاتم أحدًا، فيكون مُتضمنًا نهيَه عن الشتم.
وقد أضاف البعض عبادات أخرى منها مثلا، زيارة أولياء الله طلبا للبركة أو التوسط عند الله، أو لأغراض أخرى والبعض أضاف أمورا أكثر تشددا منها صيام اليوم على اليوم، أو الإكثار من الصيام خارج شهر رمضان وأشكال كثيرة من الطقوس التي لم ينزل بها الله من سلطان، وهذا ما ينطبق عليه وصغ النص لهم (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) أي ” يعتقدون أنهم على شيء” أو أنهم مقبولون محبوبون عند الله بسببها وما يدرون أن أي شكل من أشكال العبادة ما لم يأت به نص فهو مردود وإن كان الهدف منه الحصول على رضا الله، فلا يطاع الله من حيث يعصى أمره وتدبيره وألزامه.
الحوار المتمدن