ذكرى النكبة.. عن مقاومة الذاكرة والجسد
ظاهر صالح
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_مع اقتراب الذكرى الـ76 للنكبة في الخامس عشر من مايو/أيار، ينتظر الفلسطينيون في مختلف أماكن تواجدهم لإحياء هذه الذكرى المؤلمة التي ترسخت في وجدانهم وضمائرهم.
فذكرى النكبة واحد من أكثر الفصول ألماً في تاريخ فلسطين والمنطقة، ولا تزال حاضرة في ذاكرة الناجين من النكبة، حيث يتذكر البعض بيوتهم وأراضيهم التي فقدوها، والكثير منهم لم تتكحل أعينهم برؤية وطنهم مرة أخرى قبل أن يغادروا هذا العالم. بينما يظل آخرون يحلمون بالعودة إلى أرض الوطن، متحدين الزمن والنسيان، على الرغم من الروايات الصهيونية والخطابات الملفقة التي تستمر في تبرير اعتداءات وجرائم الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم.
فمن قبل النكبة ويسعى الاحتلال جاهداً لطمس الحقائق وإعادة كتابة التاريخ، في محاولة لتحويل الأراضي الفلسطينية ومقدساتها إلى شيء آخر، لا يعكس هويتها الحقيقية وروحها التاريخية. رغم ذلك، وحتى في هذه الأوقات العصيبة، تظل ذاكرة شعب الشعب الفلسطيني تقاوم محو الهوية والتاريخ.
في غضون أيام قليلة، تحل علينا الذكرى السنوية للنكبة، ومعها تعود لتحتل مساحات الذاكرة قصص الألم والجراح التي تعصف بالفلسطينيين في أرجاء المعمورة، وتأتي الذكرى بينما جرح غزة الغائر ما زال ينزف، ومع كل يوم جديد، تتسع دائرة الجراح لتنهش أجساد الفلسطينيين وذاكرتهم، تتغلغل في شرايين الوجود، توقظ الألم من عميق فيهم، تذكرهم بحجم المأساة التي يعيشونها.
أكثر من سبعة عقود مرت، وما زالت قصص التهجير تثير آلام الذاكرة لدى من عاشوا النكبة الأولى، وتلقي بظلالها المؤلمة على من يواجهون اليوم شبح نكبة جديدة. الروابط بين الماضي والحاضر متشابكة وعميقة؛ إذ شهدت النكبة الأولى جرائم مروّعة بفعل العصابات الصهيونية المسلحة، التي ارتكبت مجازر واسعة النطاق ونفذت تهجيراً قسرياً لأكثر من 800 ألف فلسطيني، فضلاً عن هدم أكثر من 500 قرية. المدن الفلسطينية الكبرى تم تدميرها، والأسماء الجغرافية العربية محيت واستُبدلت بأسماء عبرية في مسعى لإعادة كتابة الجغرافيا والتاريخ، مما حول أصحاب الأرض الأصليين إلى لاجئين مبعثرين في شتى بقاع العالم.
واليوم، يواصل الاحتلال في ممارساته الفاشية، مواصلاً ارتكاب جرائمه. في هذه الأثناء، بينما يواصل الشعب الفلسطيني مقاومته وصموده، بجانب رحلته الشاقة والمؤلمة من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، بالمشي على الأقدام أو عبر عربات تجرها الدواب، في محاولة للهروب من القصف الوحشي. تلك المشاهد تُعيد إلى الذاكرة صور النكبة في عام 1948، تلك الذكريات التي ظلت عصية على النسيان، مكشوفة لكل من ينظر، تظهر زيف هذا الكيان الاستعماري العنصري والدعم الذي يتلقاه من مدعي التحضر، يمارس الإبادة بكافة أشكالها وأنواعها التي لم تتوقف منذ احتلاله للأرض وحتى اليوم في قطاع غزة، بل تعدّت كل الحدود والنُظم الأخلاقية والإنسانية للبشرية جمعاء.
تُحيي الذكرى والحرب في غزة، بتفاصيلها المؤلمة والدقيقة، معاناة شعب كان يملك كل شيء ذات يوم، ولكنه في لمح البصر، ودون أن يستوعب الصدمة بكاملها، وجد نفسه قد فقد كل شيء. ليتجدد الألم المستقر في صدور أولئك الذين كانوا أطفالاً حين حدثت النكبة، فحملوا معهم ذكريات مريرة وعذابات لم تمحُها الأيام، ولا سنوات اللجوء والشتات الطويلة، فها هم مجدداً أطفال الأمس ومسنّو اليوم ينزحون مجدداً؛ هؤلاء الذين قد ودعوا أصدقاءهم من الجيل نفسه فمنهم الذي سقط ضحية العدوان المباشر، وآخرون راحو بسبب المرض وتقدم السن وعدم قدرتهم على تحمل مشقة النزوح المتكرر.
المعاناة الفلسطينية تتكرر بصورة تتخطى حدود الزمان والمكان، تربط بين الماضي والحاضر في سلسلة من الأحداث التي تتوالى دون انقطاع، تشهد على تجدد الألم في كل مرة يُفترض فيها أن الزمن قد يوفر شفاءً، إلا أن الجروح تظل مفتوحة، تُذكر بالفقد والظلم الذي لا ينتهي لهذا الشعب الذي خذله الجميع.
التاريخ للشعب الفلسطيني لا يُنسى أبداً ولن يُنسى القهر والعذاب؛ إنه تاريخ يتشارك فيه الأجداد والآباء والأجيال الجديدة، حاملين صور القرى والمدن ومفاتيح العودة. من هذه الذكريات ينبعث الأمل مجدداً، في سواعد جيل النكبات والعودة، الذين آمنوا بعدالة قضيتهم وحقوق شعبهم الذي اُقتلع من أرضه وأُخرج من دياره.
صحيح أن مأساة الشعب الفلسطيني لا تنحصر في المعاناة اليومية التي يكابدها تحت وطأة الاحتلال، والتي تشمل القتل والتشريد والاعتقال والسجن وممارسات التعذيب وهدم البيوت ومصادرة الأراضي والممتلكات وفرض الحصار والتجويع. ولكنها تمتد لتشمل الذاكرة المليئة بالألم وخذلان العالم وخيبات الأمل أيضاً، وآخرها عندما حادت بعض الأنظمة العربية عن قضية الشعب الفلسطيني العادلة والنبيلة، وراحوا يهرولون بطريقة غير مبرّرة تجاه التطبيع مع الاحتلال، لكن وعلى الرغم من هذا الألم الذي ينهش الذاكرة والجسد، أصر الفلسطينيون على ألا يستسلموا أو يرضخوا للأمر الواقع، فواصلوا مقاومتهم رغم الجراح، بإرادة لم تقهرها أفضل الأسلحة والتكنولوجيا الحربية في العالم. وها هو اليوم، المقاوم الفلسطيني، بجسده الهزيل وعتاده البسيط، يغير دفة العالم الذي تجاهل حقوقه لعقود. لذا، في ذكرى النكبة، تحية سلام لشعب ظل صامداً ومؤمناً بحقه رغم كل الجراح.
عربي بوست