كيف سيكون الرد الروسي على التعزيزات العسكرية للناتو؟
داليا عريان
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يبدو أن الصراع الغربي الروسي يدخل مرحلة جديدة أشد توتراً منذ بداية الحرب الأوكرانية في 24 فبراير 2022، ويعود الأمر إلى ضم حلف الناتو للسويد وفنلندا وتشكيل خريطة أمنية جديدة لأوروبا، والتفوق العسكري الروسي في المعارك بالتقدم شمال وشمال شرق خاركييف ثاني أكبر المدن الأوكرانية، وتكثيف روسيا من عملياتها منذ أكتوبر 2023، وأشارت تقديرات الدفاع الروسية إلى زيادة هجمات بلادها بنسبة (17%) في أبريل 2024 مقارنة بمارس 2024 وتحديداً في محيط مدينتي باخموت وأفدييفكا. ودفع التصعيد بين الجانبين الروسي والغربي لزيادة مخاوف كل طرف من الآخر، واحتدام لهجة التصريحات بين المسؤولين، كمحاولة للضغط وتحقيق مكاسب أكبر في مرحلة التفاوض إذا توقفت الحرب، وتحول الوضع إلى تهديدات مباشرة من الغرب باستهداف الأراضي الروسية، وتلويح روسيا بالردع النووي وضرب أهداف غربية داخل وخارج أوكرانيا.
ماذا عن ثقافة الغرب بشأن طموحات روسيا بالتوسع؟
شكل التواجد الروسي في شرق أوكرانيا قلقاً لدى الغرب، وفي نهاية العام الأول للحرب الأوكرانية بدأت الولايات المتحدة الاستعداد لاحتمال شن روسيا ضربة نووية ضد أوكرانيا، لذا عقد مجلس الأمن القومي الأمريكي سلسلة من الاجتماعات لوضع خطط طوارئ في حال وجود مؤشر على هذا التحرك الروسي، في ظل تقدم أوكرانيا وقتها في خيرسون واحتمالية أن يكون الردع النووي رد فعل روسي في حال خسارة هذه المدينة. زادت المخاوف لدى الغرب بإعلان روسيا رفع التسليح التقليدي والنووي وازدهار صناعة السلاح لديها في سبتمبر 2023، ما جعل مواقف الدول الغربية أكثر تشدداً تجاه تسليح أوكرانيا ودعم الناتو.
تقتنع بولندا العضو الأكثر انفاقاً في الحلف على الدفاع من حيث النسبة المئوية لتحديث جيشها بنسبة (4%) ، بضرورة تحمل دول الحلف مسؤولية أمن الناتو وتحديث قواتها في العام الثالث للحرب. وفي 12 مارس 2024 دعا الرئيس البولندي أندريه دودا أعضاء الناتو، لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى (3%) من الناتج المحلي، ليجاري خطوات روسيا في زيادة الإنفاق العسكري. وأوضح نائب الأمين العام للناتو ميرسيا جيوانا في 22 مايو 2024، أن الحلف لا ينوي إرسال قوات لأوكرانيا ولكنه مستعد لتقديم دعم إضافي لكييف، متهماً روسيا باستخدام “أدوات الحرب الهجينة” في جورجيا ومولدوفا، وأقر بوجود خطر على البنية التحتية التي تعد أساسية للناتو.
أعلنت ليتوانيا في 25 مايو 2024، أن الدول الـ (6) المجاورة لروسيا وأعضاء في الناتو توافقت على إقامة “سور من المسيرات” للدفاع عن حدودها ضد أي تهديدات، ويمتد سور الطائرات المسيرة من النرويج لبولندا، وجاء هذا الإعلان عقب حادث حدودي على نهر نارفا بين حدود إستونيا وروسيا. وتعليقاً على المشروع الروسي الذي يعدل الحدود مع فنلندا وليتوانيا في بحر البلطيق ويوسع المياه الإقليمية الروسية ويدخل حيز التنفيذ في 2025، قالت ليتوانيا أنه انتهاك صارخ للقانون الدولي وتصعيد ضد الناتو وأوروبا.أمن دولي ـ سور المسيّرات لدول الناتو على حدودها مع روسيا؟
سرعان ما شدد الغرب من لهجته، وفي 30 مايو 2024 أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أنه يتعين على الغرب تحييد المواقع العسكرية التي تطلق منها روسيا الصواريخ ضد أوكرانيا. وأشارت مصادر أمريكية إلى أن إدارة جو بايدن سمحت لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية ضد أهداف في روسيا بشرط عدم تنفيذ ضربات في عمق الأراضي الروسية. واتسعت دائرة الدول المؤيدة لاستخدام كييف أسلحتها ضد موسكو، وضمت “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وفنلندا والسويد” إضافة إلى “بولندا وفرنسا والدنمارك والتشيك وهولندا وبريطانيا”. وفي 31 مايو 2024 قال الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ إن “موسكو تشن حرباً عدوانية، وكييف لها حق استهداف مواقع عسكرية داخل روسيا”.
ما حقيقة هذه الاتهامات ضد روسيا؟
كما يتخوف الغرب من توسع دائرة الحرب، تتخوف روسيا من تحركات الناتو بالقرب من حدودها، وفي 17 ديسمبر 2023، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تصريحات نظيره الأمريكي جو بايدن بشأن مهاجمة روسيا لإحدى دول الناتو في حال تحقيق النصر في أوكرانيا بأنها “محض هراء”. وفي 22 مارس 2024 أقر الكرملين أن بلاده في حالة حرب، في إشارة لموقف الغرب ضدها وليست المعارك في أوكرانيا، خاصة بعد تلويح فرنسا بإمكانية نشر قوات للناتو في أوكرانيا ومناورات الحلف بالقرب من حدودها. وفي 28 مارس 2024 أكد فلاديمير بوتين مرة أخرى، أن بلاده ليس لديها مخططات تجاه أي دولة بالناتو، ولن تهاجم دول البلطيق والتشيك وبولندا، ولكن في حال تزويد أوكرانيا بمقاتلات “إف-16” ستسقطها. وعادت روسيا لتأكيد موقفها من مهاجمة دول الناتو، وفي 19 أبريل 2024 أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن روسيا لا تمتلك أي خطط ضد دول الحلف ولكنها لن تسمح لهم بالاقتراب من حدودها.
ماذا عن تحذيرات روسيا لحلف الناتو
لم تخلو تصريحات روسيا من تحذير الغرب من أي خطوة تهدد أمنها، وفي 13 مارس 2024 قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن بلاده مستعدة من الناحيتين العسكرية والفنية لحرب نووية، منوهاً إلى أن موسكو ستنشر قواتها على حدود فنلندا بعد التحاقها بالناتو. وأكد على أن استخدام الأسلحة النووية منصوص عليه في العقيدة النووية للكرملين، وحذر أيضاً من إدخال قوات غربية لأوكرانيا. ورداً على إعلان وارسو استعدادها لنشر أسلحة نووية، توعد الكرملين في 22 أبريل 2024 باتخاذ تدابير فورية، وحمل الغرب مسؤولية اتساع الخطر النووي، لمغالاة الثلاثي النووي الغربي “الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا” في دعم أوكرانيا.
تدريبات الناتو أثارت غضب روسيا، لذا قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في 4 مايو 2024 إن التدريبات العسكرية للناتو على مدار (4) أشهر قرب حدود بلادها، مؤشر على استعداد الحلف للدخول في صراع محتمل مع روسيا، نظراً لإجراء الأطلسي أكبر مناورة “المدافع الصامت” منذ الحرب البادرة بالقرب من حدود روسيا. وهددت روسيا في 30 مايو 2024 من اتخاذ خطوات في مجال الردع النووي، إذا نشرت الولايات المتحدة صواريخها في أوروبا أو المحيط الهادئ أو منطقة آسيا، خاصة وأن هذه الخطوة ستمثل خطراً كبيراً لأمن موسكو.أمن دولي ـ “إشارة ردع لروسيا”، مناوراة الجيش الألماني في ليتوانيا
ما الرد الروسي المتوقع؟
منذ بداية الحرب الأوكرانية، وضعت روسيا قواتها النووية في حالة استعداد، وعلقت مشاركتها في معاهدة “نيو ستارت” للحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة في فبراير 2023. وفي 26 يونيو 2023 أرسلت أسلحة نووية تكتيكية لبيلاروسيا. واستكمالاً لهذه الخطوة نشرت في أبريل ومايو 2024، العشرات من الأسلحة النووية التكتيكية الروسية في بيلاروسيا بهدف ردع بولندا. وأكد فلاديمير بوتين على تحديث (95%) من القوات النووية الاستراتيجية في 23 فبراير 2024، مشدداً على أن قوات بلاده النووية في حالة تأهب، حيث تمتلك روسيا (6257) رأساً نووياً كأكبر قوة نووية بالعالم بميزانية (8.6) مليار دولار. وفي 19 يناير 2024 رفضت روسيا اقتراحاً بإعادة فتح حوار الحد من التسلح مع الولايات المتحدة.
تنص العقيدة النووية الروسية على استخدام السلاح النووي في حال إطلاق دولة معادية من وجهة نظر روسيا سلاحاً نووياً ضدها، أو تعرض الأراضي الروسية أو البنية التحتية لهجوم يشل الردع النووي، أو ارتكاب عمل عدواني ضد روسيا أو حلفائها. وتستعد موسكو منذ مطلع 2024 لإجراء تجارب نووية في البحر الأسود، وأعلنت في 21 مايو 2024، بدء مناورات تشمل أسلحة نووية تكتيكية في المنطقة العسكرية جنوباً قرب أوكرانيا رداً على التهديدات الغربية.
ماذا تريد روسيا من هذه التحركات؟
تستهدف روسيا تأسيس عالم متعدد الأقطاب بتحديث قواتها النووية بالتزامن مع توطيد العلاقة مع الصين، وفي مارس 2023 أجرى الرئيس الصيني شي جينبينغ زيارته الأولى لروسيا منذ بداية الحرب الأوكرانية، للتأكيد على قوة العلاقة بين موسكو وبكين. وفي 26 مايو 2024 أكد شي جينبينغ في اجتماع مشترك مع فلاديمير بوتين على دخول العلاقات إلى مرحلة التعاون وتجاوز الصعوبات، في ظل مبادرة الصين للوساطة في الأزمة الروسية الأوكرانية، واتفقت موسكو وبكين خلال زيارة بوتين للصين على التعاون من أجل ردع سلوك واشنطن الذي يهدد الاستقرار العالمي. وتأتي تحركات الصين وروسيا معاً تتويجاً لـ “شراكة بلا حدود” التي تم الإعلان عنها في فبراير 2022 لمواجهة تهديدات المرحلة.أمن دولي ـ أوروبا تعاني من عقدة الحرب الباردة مع روسيا
تقييم وقراءة مستقبلية
– تتجه الأزمة بين الغرب وروسيا إلى حالة من التوترات غير المسبوقة مقارنة بالعام الأول للحرب الأوكرانية، نظراً لاشتعال المعارك بين روسيا وأوكرانيا، وعودة الدعم العسكري الغربي لكييف بعد فترة توقف، ما تسبب في خسائر مادية وبشرية للقوات الأوكرانية في الأشهر الماضية، لذا سنشهد تصاعد في التصريحات والتحركات بين الناتو وروسيا بنشر أسلحة وإجراء مناورات.
-لم تعد تهديدات روسيا بشأن استخدام السلاح النووي مصدر قلق للغرب كما كان في بداية الحرب، خاصة وأن الناتو لجأ لتهديدات مشابهة كنشر قوات في أوروبا أو إرسال أسلحة ثقيلة لأوكرانيا وتدريب قواتها على استخدامها، وربما التحول الجذري في موقف دول الأطلسي يجبر روسيا على إعادة التفكير بشأن توسيع دائرة الحرب، أو الانتقال إلى مرحلة الردع النووي.
– تعتمد الولايات المتحدة وفرنسا في تصريحاتهما الحالية والمناورات التي ينفذها الناتو داخل أوروبا، على إرسال رسالة دعم لأوكرانيا بعد الانتقادات التي وجهت للغرب بشأن التخلي عن كييف في حربها، ورسالة تحذير واضحة لروسيا لإجبارها على تهدئة وتيرة المعارك، والبحث عن حلول أخرى للصراع الحالي دون التطرق إلى الردع النووي، لاسيما وأن لدى الناتو قناعة بأن التفوق الروسي في التسلح النووي، يدفع موسكو إلى وضعه كخيار ضمن خيارات المواجهة معه.
– يستغل الناتو نشر روسيا لأسلحة نووية في بيلاروسيا وتهديداتها حول استخدام السلاح النووي في أوروبا، لتكثيف تحركاته بالقرب من حدود روسيا، كنوع من أنواع الضغط على موسكو في حال عودة المحادثات بين الجانبين الأوكراني والروسي، لذا شددت دول مثل فرنسا وبولندا والولايات المتحدة وبريطانيا من مواقفهم الأخيرة تجاه روسيا.
– في الوقت الذي تسعى فيه روسيا للسيطرة على أكبر عدد من المدن الأوكرانية، تستهدف توطيد تحالفها مع الصين، وتحديث منظوماتها العسكرية التقليدية والنووية، لإرساء قواعد جديدة لنظام عالمي متعدد الأقطاب، وهي النقطة التي دفعت موسكو بالأساس لشن حربها ضد كييف، وبالتالي أي تهديد غربي من وجهة نظر روسيا، سيقابله مزيد من الحشد العسكري في أوكرانيا وتدريبات مع حليفتها بيلاروسيا.
-من المستبعد أن تلجأ روسيا والناتو إلى الردع النووي في الوقت الراهن، طبيعة الخسائر الاقتصادية والبشرية التي لحقت بالأولى جراء الحرب، لن يسمح لها باتخاذ هذا الخطوة، وطبيعة الأزمات التي يشهدها حلف الأطلسي لن تجعله يتجه نحو هذا السيناريو، إضافة إلى إدراك الجانبين خطورة انزلاق أوروبا إلى الحرب النووية وتبعات الأمر ليس على القارة العجوز فقط، بل على الأمن والاستقرار العالمي، ما يجعل مسألة المواجهة المباشرة بين روسيا والغرب ورقة ضغط بينهما يتم استغلالها من حين لآخر، للحصول على مكتسبات أو تحقيق مكسب معين، في ضوء طول أمد الحرب الأوكرانية وابتعادها عن مسار المفاوضات خلال العام الحالي.
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات