إعطاء الأولوية للضفة الغربية وسط التصعيد والتدهور
نعومي نيومان
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تسلط العملية العسكرية الأكثر أهمية التي تنفذها إسرائيل في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية، الضوء على الخطر المتزايد المتمثل في فتح جبهة جديدة إلى جانب حرب غزة.
تشكل العملية التي بدأها الجيش الإسرائيلي في 27 آب/أغسطس في شمال الضفة الغربية معلماً آخر في صراع إسرائيل ضد الإرهاب الفلسطيني من تلك المنطقة. وتهدف العملية إلى القضاء على البنية التحتية للإرهاب المحلي، وهي الأكبر منذ عملية “الدرع الواقي” في عام 2002 وتشمل ثلاثة ألوية تعمل في عدة مواقع في آن واحد. ووفقاً لأرقام “جهاز الأمن العام الإسرائيلي” (“الشاباك”)، وقع 1,245 هجوماً من شمال الضفة الغربية في العام الماضي، منها 255 مصنفة كهجمات “كبيرة”. كما كان هناك 435 هجوماً ضد أهداف تابعة للجيش الإسرائيلي. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل 24 إسرائيلياً في هذه الهجمات.
وفي الآونة الأخيرة، نفّذ فلسطيني من تلك المنطقة (ومن نابلس على وجه التحديد) عملية التفجير الانتحاري الفاشلة في تل أبيب في 18 آب/أغسطس. وأعلنت “حماس” – التي نفذت آخر هجوم انتحاري “ناجح” لها داخل إسرائيل عندما فجّرت حافلة في القدس في نيسان/أبريل 2016 – مسؤوليتها عن هجوم تل أبيب وعن نيتها تجديد الهجمات الانتحارية في إسرائيل.
وحتى قبل العملية الحالية التي يشنها الجيش الإسرائيلي، كانت إسرائيل تعمل باستمرار على سحق البنية التحتية للإرهاب في الضفة الغربية، مع تركيزها في السنوات الأخيرة على القسم الشمالي الأكثر تحدياً. وبمرور الوقت، تركت هذه الجهود بصماتها، مما جعل من الصعب على “حماس” شن هجمات داخل إسرائيل.
ولكن تدريجياً، أدت هذه الصعوبة إلى تركيز “حماس” وغيرها من التنظيمات الإرهابية وبشكل أكبر على الهجمات داخل الضفة الغربية. وهكذا، منذ عام 2021، تم تشكيل “كتائب” إرهابية مختلفة في المنطقة، وخاصة في مخيمات اللاجئين في شمال الضفة. ونادراً ما دخلت السلطة الفلسطينية الضعيفة أساساً هذه المناطق، كما لم تدخلها إسرائيل بسبب الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية. وركزت هذه الكتائب على مهاجمة أفراد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية والمستوطنين الإسرائيليين، ثم وسعت عنفها في وقت لاحق ليشمل المجتمعات على الجانب الإسرائيلي من الجدار الأمني في الضفة الغربية، مثل “عيميق حيفر” و”جلبوع”.
ووفقاً لتقديرات “جهاز الأمن العام الإسرائيلي”، فإن حوالي خمس عشرة كتيبة من “حماس”، و “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، وفصائل فلسطينية أخرى تحاول القيام بعمليات حالياً في الضفة الغربية. ولكل منها عشرات المقاتلين بالإضافة إلى قادة وممولين وخبراء في عمليات التخريب، مما أدى إلى قيام هجمات معقدة وجريئة على نحو متزايد. وقد ألهمت حرب غزة هذه الكتائب، التي بدأت في “تحويل” الضفة الغربية “إلى غزة ثانية” من خلال تصنيع العبوات الناسفة، وحفر الأنفاق، ومحاولة إنتاج الصواريخ.
وقد نمت هذه البنية التحتية الإرهابية بدعم ورعاية من شخصيات “حماس” في غزة والخارج، حيث يعتقدون أن الاستثمار فيها سيؤتي ثماره عندما تندلع “الحرب الكبرى” في غزة وتتحد الجبهات المختلفة ضد إسرائيل. وكان صالح العاروري، الذي قُتل في غارة جوية إسرائيلية بالقرب من بيروت في كانون الثاني/يناير، الشخصية المسؤولة في “حماس” عن تشجيع الإرهاب في الضفة الغربية وإعداد المنطقة كساحة معركة مستقبلية. وقد حل محله في هذا الدور زاهر جبارين، المسؤول المالي لـ “حماس”، الذي يعيش في تركيا ولكنه مقرب من إيران و”حزب الله”.
ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ترد إسرائيل على جميع مظاهر الإرهاب في الضفة الغربية، باستخدامها أساليب لم تُستخدم منذ الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي. وبالإضافة إلى قيام الجيش الإسرائيلي بشن عشرات من الغارات الجوية، قام أيضاً بتنفيذ عمليات اعتقال واسعة النطاق، حيث تم حتى الآن احتجاز أكثر من 4,000 مشتبه بهم. كما صادر كميات كبيرة من الأسلحة، بما في ذلك العبوات الناسفة والمواد الخام، بالإضافة إلى مبالغ كبيرة من المال، تقدر بملايين الدولارات.
ويتغذى الوضع الأمني المتدهور على الظروف السائدة في الساحة الفلسطينية. فقد كانت الضفة الغربية تشهد عملية تفكك بطيئة وتدريجية منذ فترة طويلة. وأدى ضعف السلطة الفلسطينية وفقدان الدعم الشعبي للرئيس محمود عباس والمسارالسياسي الذي يتخذه إلى تقوية عناصر المعارضة بقيادة “حماس” فضلاً عن أجندة “المقاومة” التي تمثلها. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، كثيراً ما يُنظَر إلى “حماس” على أنها تعيد الكرامة الفلسطينية وتمثل مصالح الشعب الفلسطيني.
ملعب لـ”محور المقاومة“
إن الاحتكاك المتزايد مع إسرائيل – بما في ذلك الغارات المتكررة التي يشنها الجيش الإسرائيلي في المنطقة (أ) – وهي الجزء من الضفة الغربية الذي تديره السلطة الفلسطينية بشكل حصري – يفرض ثمناً باهظاً. فقد قُتل عدد كبير من الفلسطينيين (634) في الضفة الغربية منذ بدء حرب غزة؛ وقد أدّى ذلك، بالإضافة إلى موجات الاعتقالات المتكررة، إلى جعل الكثير من السكان يشعرون بفقدان الأمن الشخصي.
أما اقتصاد الضفة الغربية، الذي هو ضعيف بطبيعته، فهو على وشك الدخول في أزمة. فالقيود التي فرضتها إسرائيل على السلطة الفلسطينية منذ بداية حرب غزة ـ وخاصة حجبها جزء من إيرادات الضرائب المخصصة لغزة والتي تحوّلها عادةً إلى السلطة الفلسطينية، وإلغائها 160,000 تصريح عمل في إسرائيل – جعلت من الصعب على السلطة الفلسطينية تقديم الخدمات للسكان وألحقت أضراراً بمستوى المعيشة.
فضلاً عن ذلك فإن السلطة الفلسطينية تدفع منذ فترة طويلة رواتب جزئية للمسؤولين ـ من بينهم أفراد الأمن، الذين أصبحوا الآن أقل استعداداً لمنع الإرهاب وأقل تحفيزاً للحفاظ على الاستقرار. كما تتجلى علامات التفكك في حركة “فتح” الحاكمة، حيث يَنْضم نشطاؤها إلى عناصر “حماس” ويشاركون في أنشطة “الكتائب” الإرهابية ضد إسرائيل.
أما بالنسبة للجمهور الفلسطيني الأوسع نطاقاً، فقد عمّقت المشاهد المروّعة للحرب في غزة، والعدد الكبير من القتلى والمعتقلين في العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وعمليات العنف من قبل المتطرفين اليهود من شعور الجمهور بالضيق. كما أن الوضع الاقتصادي المتدهور (والذي يشمل ارتفاع معدل البطالة، وخاصة في شمال الضفة الغربية) يشجع الفوضى ويسهل التجنيد في المنظمات الإرهابية.
ومع ذلك، ورغم وجود العديد من المحفزات على مدى العام الماضي، إلّا أن عامة الناس في الضفة الغربية لم يشاركوا في احتجاجات شعبية واسعة النطاق. وفي الأشهر الأخيرة، كان هناك انخفاض في نطاق الحوادث التي تنطوي على رشق الحجارة، وقنابل المولوتوف، والتظاهرات، وأعمال الشغب. ومع ذلك، لا تزال “حماس” تحظى بشعبية لدى الجمهور، خاصة في صفوف الشباب، حيث تُعتبر معيدة للكرامة الفلسطينية من خلال حربها ضد إسرائيل. وتجدر الإشارة إلى أن سكان مخيمات اللاجئين وطلاب الجامعات هم أكثر استعداداً للانضمام إلى الحركة، بما في ذلك كعناصر إرهابية. وعلاوة على ذلك، عندما يُطلب من الفلسطينيين مساعدة “حماس” بالدعم اللوجستي، مثل إخفاء الأشخاص المطلوبين، ونقل الرسائل، والتبرع بالأموال، يجد الكثيرون صعوبة في رفض الطلب، وهذا الدعم يشكل عاملاً مهماً في عودة الإرهاب.
وقد حظيت جهود “حماس” لإشعال الضفة الغربية بدعم طويل الأمد من إيران و”حزب الله”. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت المنطقة فعلياً ملعباً لـ”محور المقاومة”، الذي يُغرق المجتمعات المحلية بالأسلحة، والأموال، والمعرفة الإرهابية. واليوم، تحتوي العديد من العبوات الناسفة المصنعة في شمال الضفة الغربية على كميات كبيرة من المتفجرات، التي تُهرب من إيران إلى سوريا ومن ثم عبر الحدود مع الأردن. وبالإضافة إلى زعزعة استقرار الضفة الغربية، يؤدي هذا التدفق للأسلحة والأموال أيضاً إلى تقويض الأمن الوطني للمملكة الهاشمية.
وتعمل إسرائيل على تحديد مواقع ورش تصنيع الأسلحة ومنع دخول الأسلحة إلى الضفة الغربية من الخارج، وخاصة من الأردن، أو من خلال سرقتها من قواعد الجيش الإسرائيلي . إلّا أن هذه الجهود لم تكن ناجحة بشكل كبير حتى الآن. والقلق الرئيسي الذي يساور إسرائيل هو احتمال تهريب أسلحة أكثر خطورة مثل العبوات الناسفة المتقدمة، والألغام، والصواريخ إلى المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يحسّن من تأثير الهجمات، ويتسبب في وقوع خسائر بشرية كبيرة، ويخلق وضعاً أمنياً أكثر تحدياً.
التوصيات
شهدت السنوات الأخيرة، وخاصة الفترة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، زيادة في الإرهاب في الضفة الغربية، وخاصة في القسم الشمالي من الضفة. وقد شجعت “حماس” هذا التصعيد بدعم من إيران و”حزب الله”، اللذين استغلا ضعف السلطة الفلسطينية في الحكم. وقد رافق ذلك تدفق كبير للأسلحة (خاصة العبوات الناسفة عالية الجودة)، وتصاعد القتال ضد الجيش الإسرائيلي، ومحاولة تجديد الهجمات الانتحارية داخل إسرائيل.
وبالتوازي مع الانتصار في الحرب في غزة وإقامة وضع مستقر بعد الحرب، ستحتاج إسرائيل إلى العمل بشكل مكثف للقضاء على الإرهاب في الضفة الغربية ومنعه من الامتداد إلى داخل إسرائيل. لذا شنت عمليتها العسكرية الأخيرة: أي لمنع الضفة الغربية من أن تصبح جبهة أخرى في الحرب.
ولهذا السبب، من المهم أيضاً معالجة مسألة سهولة اختراق الحاجز الأمني في الضفة الغربية. فحتى اليوم، وفي ظل ظروف الحرب الحالية، يدخل عشرات آلاف الفلسطينيين إلى إسرائيل بشكل غير قانوني على أساس يومي تقريباً. ووفقاً للسلطات الإسرائيلية، كان آخر تعداد يومي حوالي 40,000، على الرغم من أن العدد كان أعلى من ذلك قبل بضعة أشهر. وهؤلاء الأفراد هم عموماً عمّال يحاولون العثور على عمل؛ ويميلون إلى المغادرة والعودة يومياً، على الرغم من أن بعضهم يبقى في إسرائيل لمدة تصل إلى أسبوع واحد في كل مرة. ومن المحتمل أن بعض العناصر الإرهابية تنجح في التسلل أيضاً. ونظراً لأن معظم الفجوات التي يتسللون من خلالها تقع في ما يُسمى “غلاف القدس”، فإن الجهود الرامية إلى استكمال الحاجز الأمني لابد وأن تحظى بالأولوية في هذه المناطق، سواء من خلال البناء السريع أو من خلال نقل القوات إلى هناك من مواقع أخرى. كما يجب على الشرطة تحسين تعاملها مع أرباب العمل وغيرهم ممن يسهّلون دخول الفلسطينيين بشكل غير قانوني.
وفي الوقت نفسه، تحتاج إسرائيل إلى معالجة مسألة الأسلحة والأموال القادمة من إيران و”حزب الله”، مما سيتطلب تعاونها مع الأردن والسلطة الفلسطينية. كما أن منع التهريب على طول الحدود مع الأردن يتطلب تعاوناً دولياً بقيادة الولايات المتحدة. يجب على إسرائيل أن تستثمر المزيد في إغلاق تلك الحدود، بما في ذلك مساعدة الأردنيين في مختلف المجالات – والتي تعتمد على حالة علاقاتهم الثنائية – والاستثمار في قوات إضافية وبناء سياج حدودي على طول الحدود المفتوحة إلى حد كبير في الوقت الحاضر. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يُطلب من الأردنيين بذل المزيد من الجهود لمكافحة شبكات التهريب الإجرامية، والتي تعمل العديد منها أيضاً على تمكين تهريب الأسلحة.
ومع ذلك، وكما هو الحال في غزة، فإن الحلول لمكافحة الإرهاب لا تقتصر على الحلول العسكرية. يجب أن يكون هناك رد منهجي يعزز السلطة الفلسطينية ويمكّنها من العمل مع إضعاف قوة الإرهابيين في الضفة الغربية. ومن المهم إزالة الحوافز التي تدفع سكان هذه الضفة إلى الانخراط في عمليات الإرهاب من خلال السماح لهم بالعمل في إسرائيل. وسيكون تنفيذ هذا الإجراء صعباً من الناحية السياسية بالنظر إلى تصاعد المخاوف الإسرائيلية من تسلل الإرهابيين بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ومع ذلك، فإن واقع التدفق الفعلي لعشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل بشكل غير قانوني طوال فترة الحرب تشير إلى أن هناك مجالاً للنقاش وتغيير السياسات في هذا الشأن. وحتى الآن، تجنب معظم سكان الضفة الغربية التمرد لأنه ما زال لديهم ما يخسرونه، بما في ذلك الأمل في العودة إلى وظائفهم في إسرائيل أو البحث عن آفاق أفضل بمجرد انتهاء الحرب. وتكمن المشكلة في تضاؤل هذه العوامل المقيدة بشكل مطرد بسبب السياسات الإسرائيلية في زمن الحرب في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على إسرائيل الامتناع عن حجب عائدات الضرائب عن السلطة الفلسطينية طالما يمكنها ضمان عدم استخدامها لتمويل الأسرى وعائلات “الشهداء”. ومن الأهمية بمكان أيضاً تشجيع الاستثمار الاقتصادي الإقليمي في الضفة الغربية من قِبَل دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
يجب اتخاذ إجراءات للحد من عنف المتطرفين اليهود ضد الفلسطينيين أيضاً، بما في ذلك الاعتقالات وفرض العقوبات. وفي حين أن العنف الفلسطيني يزرع بلا شك الخوف بين المستوطنين الإسرائيليين، إلّا أنه يعطي أيضاً العناصر اليمينية المتطرفة ذريعة للتصرف بطرق تزيد من تفاقم الصراع، وهو الأمر الذي يحظى بدعم من بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية. هناك حاجة ماسة لزيادة تطبيق القانون ضد مثيري الشغب والإرهابيين الإسرائيليين – وهو الجهد الذي تعثر في عهد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. ومن الأهمية بمكان أيضاً توسيع نطاق أنشطة الرعاية الاجتماعية والتعليم لما يسمى بـ “شباب التلال”، وهم مجموعة من الشباب المتطرفين الذين يدّعون حقهم في “أرض إسرائيل” بالكامل من خلال أعمال عنف مختلفة.
وأخيراً، يجب أن يكون تحسين الوضع في الضفة الغربية أولوية أكبر لإسرائيل كوسيلة لمنع التصعيد، والإرهاب، والفوضى في المستقبل. وفي الوقت نفسه، يجب على إسرائيل التوقف عن النظر إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها جزءاً من المشكلة فقط – وإذا أراد المسؤولون منع الانزلاق السريع نحو حل الدولة الواحدة، يجب أن تكون السلطة الفلسطينية جزءاً من الحل أيضاً.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى