“سافر مازال “

أ. خيرية فتحي عبد الجليل_الجبل الأحضر .. البيضاء . ليبيا

لم يكن قادراً على قطع الحبل السري نهائياً كان يقدم خطوة و يؤخر أخرى ، يرسل بصره إلى الأمام ثم يعود فيستدير ليعب من هواء مدينته التي تركها خلفه أكبر قدر من النسيم العليل  في صدره ، يريد أن يرحل محملاً بملامح الحاج " التومي " ، بأكبر قدر من نقوش  أبواب مدينته وسورها العتيق ، من تربتها ، شوارعها و أسواقها ، أزقتها وحواريها ، بعضاً من شارع " الأكواش " ، دفء رعيف لوللا ، تلك المرأة الإغريقية الفاتنة ، نتف من  حكاية صديقه " أبوبكر" ، صوت سلام قدري المتسرب من شقوق بيت الجيران ، أراد أن يرحل محملاً برائحة باب البحر ، كلمات عمه " العماري " وقصة الحزينة " مريومة "مع كبيرة الزمزامات  ، ممتلئاً بأذكار الحاج " عاشور" وبركة الشيخ " خضر " ، لا زال يشتهي أن يقف أمام لوحات الفنان " محمد البارودي " و يتأمل رسومات محمد الزواوي ، يتذوق طعم " قلب اللوز " ويشترى السمك من سوق الحوت ويتجول في شارع الرشيد ، وينصت إلى نصائح " خليفة التليسي " التي يسكبها في أذن الصبي " محمد " ، أن يتفرج على الصيادين في مقهى " الجنزوري " وينحاز إلى العم " العماري " في لعبه للكارطة مع " فرانشيسكو " في مقهى " عيسى " ، أن يرى زهرة مرة أخرى وهي تُزف ببدلتها " العربية " الكاملة أو  ترتدي الزي الليبي التقليدي والفراشية ، أن يضطر إلى تأجير دراجة من محل الحاج " عزوز " ويطرح أستغرابه حين يمر بأهل " النول " ، يقف متأملاً الحاج " علي  بورو" حائك أردية النساء من قطن أو حرير ، يستغرب كم يستغرق هذا العمل من جهد ووقت ، كان يحب " بورو" كثيراً لإبتسامته ووجهه السمح ، كم يرغب في استرجاع قفشات الحاج " علي بورو "  وقدرته الهائلة على في التنقل بين مقامات الإنشاد الديني ،  مع المارة و تجاذب أطراف الحديث مع عابري السبيل ، كان يريد أن يرحل محملاً بسر من أسرار زنقة " الدباغ " و " زنقة المجروح " و " بن زكري " ، كان يريد أن يغادر محملاً برائحة عيد الفطر وعيد الأضحى ومولد الرسول . 

أن يحمل شيئاً من حلوى العم ” علي ” ، بين موجات الحنين التي تتقاذفه إليه تخيله بقامته المديدة ونحول جسده وسمرته ، تخيل حتى ملابسه المتميزة وعبارته الشهيرة ، أسترجع لحظات سرور الرجل ، يجد حبور عظيم عندما يشده طفل صغير من ملابسه الشعبية الزاهية بألوان مثل الحلوى التي يبيعها ، له إبتسامة دائمة تجذب الأطفال ، وعندما يمد الحلوى للأطفال ، يبتسم بدعاء دائماً ما يردده :

  • يعطيك عصيدة على بطنك .
    يعمق هذا الدعاء في ذاكرة الأطفال بالحركات التمثيلية و بتلوين نغمات الصوت ، وكان لظهوره تأثير مفرح لدى الأطفال حين يظهر في الشارع و عندما يسمع صوت دق صاجاته بين أصابعه يسرع إليه الأطفال من كل حدب وصوب ، تذكر ملابس العم ” علي ” ، تذكر كيف تمعن فيها وقت الشراء ، تمنى لو حمل بعضاً منها في رحلته إلى الغربة ، تمنى أن يحدق في ملابس العم ” علي ” الشعبية مرة أخرى ويحمل أدق تفاصيلها و ألوانها معه ، يلبس ” الشاشية ” وتحتها ” المعرقة” وهي عبارة عن غطاء رأس أبيض ” طاقية ” خفيفة تحمي الشاشية من العرق ، والشاشية تتدلى منها مجموعة خيوط سوداء وتنزل من مركز الشاشية تصل إلى الكتف ويرتدي الزي الليبي التقليدي ، الفرملة من فوق وما يشبه ” التنورة ” الواسعة مزخرفة بدوائر ملونة ، تمكنه التنورة من أن يلف حول نفسه في سرعة فائقة فترتفع بألوانها الزاهية في منظر يبهر الأطفال .
    لم يكن قادراً على قطع الحبل السري نهائياً ، وضع أول رجل في داخل السفينة المتجهة إلى إيطاليا وظلت الرجل الأخرى تتأرجح في الفضاء بين الرجوع وبين العبور ، يقذف بضوء عينيه في الفضاء ، يلتفت إلى الخلف تارة وتارة يتطلع إلى الأمام ، عين على الميناء وعين تتطلع إلى شواطئ بعيدة ، في البعد كانت النسائم تحمل إليه نغمات هاربة ، يرددها الصدى ، كان سلام قدري يغني بصوت مجروح ، نغمة تبتعد ، نغمة تقترب ، كلمة تأتيه محملة بعبق البحر وكلمة تغيب ، تحملها نسائم المتوسط بعيداً عن مجال إدراكه السمعي ، لكنه كان يدرك بالقلب ، يدرك كل الغناء المتواري عنه و المتبعثر في مهب الريح .
    حاول أن يلملم الكلمات ، كان قدري يغني وكأنه ينوح:
    سافر مازال عيني تريده.

. شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post سوار الكتروني لكشف نسبة الكحول في دم السائقين ستقدمه الحكومة الفلمنكية
Next post “الشرق الأوسط: رقصة السياسة على حدود الرمال”