أعوام الطوفان
شريف أيمن
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تأتي في تاريخ الأمم مراحل وأحداث تغير وجه صفحاته، فالحرب العالمية الأولى أنهت الوجود السياسي للجامعة الدينية للمسلمين (أيّا كان الموقف منها)، وشكَّلت الحرب العالمية الثانية النظام الدولي المستمر إلى الآن، وفي المنطقة كان لحرب عام 1948 ثم هزيمة 1967 أثر بالغ في سحق المنطقة وكرامتها، ورسوخ أقدام الجسم السرطاني الفاسد المفسد في منطقتنا. وكان يمكن لحرب 1973 أن تكون مفصلية في تاريخنا وإيضاح الصورة الحقيقة لقوة وحجم العدو الأول لنا، لكن قناعة السادات فيما يتعلق بالأمريكيين جعلته يَئِد النصر الكبير والعظيم.
توالت الأحداث الكبار لكن لا حدث بارزا عقب هزيمة 1967 يمكن وصفه بأنه غيَّر وجه المنطقة سوى اتفاقية كامب ديفيد، وحرب الخليج الأولى التي أدخلت الأمريكيين إلى قلب بلادنا ورسخت وجودهم بالقواعد العسكرية، فالأحداث البينيَّة على أهميتها وكارثيتها كانت ارتدادات لحوادث أكبر سبقتها، إلى أن جاء طوفان الأقصى بعد أكثر من ثلاثة عقود ويصير أحد أهم الأحداث التي ستغيِّر شكل المنطقة، وإن لم يكن التغيير سريعا، فالارتدادات اللاحقة له كفيلة بتغيير كل الترتيبات المعدَّة لنا، وآخرها “خريطة النعيم والكارثة” التي رفعها المتحذلق المهزوم نتنياهو.
جاء طوفان الأقصى في ختام عقدين من تقسيم المنطقة، بدءا من العراق 2003 مرورا بالسودان 2011 وانتهاء بسوريا المقسَّمة فعليا عقب ثورة عام 2011، وتتشارك ليبيا واليمن صورة التقسيم أيضا فعليّا وإن لم يعلن أحد ذلك، فضلا عن الاضطرابات السياسية في مصر وتونس، ثم دخول المنطقة مرحلة تطبيع فجة مع الاحتلال، تحولت إلى تطبيع شعبي في الخليج وهو ما لم يحدث في مصر والأردن اللذين سبقا بالتطبيع منذ عقود. وكانت المملكة السعودية على شفا الوقوع في هاوية التطبيع كذلك، إلى أن قام ثلة من الرجال بوقف ذلك كله، ووضع فلسطين على أولويات السياسة الدولية، بعدما ظن الجميع أن القضية انتهت.
زاد الاستيطان في الضفة الغربية، وكانت غزة مجرد سجن جماعي كبير يفتقد إلى مقومات الحياة الأساسية، واستُبيحت القدس والأقصى، فصرنا أمام عملية تصفية كاملة للقضية الفلسطينية بكل مكوناتها، بما في ذلك إلغاء الوجود الفعلي والصوري للسلطة الفلسطينية رغم تفاهماتها الكاملة، سواء مع الاحتلال، أو المحيط العربي المتواطئ ضد القضية؛ إرضاء للأمريكيين عبر أَدْنَس البوابات؛ بوابة الصهاينة.
جاء طوفان الأقصى في ظل حكم عسكري فاشي في مصر، يقول فيها حاكمها “الدولة المصرية بكل مؤسساتها، بما فيها القوات المسلحة، ليس لديها أجندة تجاه أي طرف في الصراع”. وللأسف ذكَر ذلك في تفتيش حرب الفرقة السادسة المدرعة في الجيش الثاني الميداني في مدينة الإسماعيلية، بعد يوم واحد من الذكرى الأولى لطوفان الأقصى، ويريد أن يوهم العالم أن مؤسسات الدولة ليس لديها انحياز، ويريد أن يورط المؤسسة العسكرية في عقيدته هو لا عقيدتها، كما يريد أن يوهم بأن هناك طرفيْ صراع. وكل ذلك غير حقيقي، فمؤسسات الدولة بها من الوطنيين الذين لا يزالون يعملون في مسار مغاير لعقيدته، كما أن الداخل إلى الجيش يتغنَّى بالهتاف ضد الاحتلال من باب الحماسة خلال النشاطات اليومية، فمصر والمصريون ينحازون تماما إلى فلسطين وجانبها، بينما ينحاز هو وثلة فاسدة قابضة على قرار الدولة إلى جانب الصهاينة.
جاء طوفان الأقصى في ظل هذه الأحداث وهؤلاء الحكام، ليوقف عربدة الجميع، وليوقف محاولة التحدث باسم القضية على لسان غير أبنائها، أو على لسان المنبطحين للاحتلال أو المتواطئين معه. صفعَ الطوفانُ الجميعَ على وجوههم؛ صفع المنبطحين والعملاء والصهاينة والأمريكيين والنظام الدولي بأسره، فقرر نتنياهو القفز إلى الأمام وفتح جبهة صراع طويلة في غزة، ومع إخفاقه، قرر أن يقفز قفزة أخرى فذهب إلى الاصطدام بإيران وتوسيع جبهة القتال مع حزب الله، ليجر المنطقة إلى حرب إقليمية، ظنّا منه أنها ستواري سَوْأَتَه، أو ستنقذُ رقبتَه.أ
في وقت من التاريخ العربي المهزوم، كان العرض المقدم إلى الصهاينة: “التطبيع مقابل الانسحاب إلى حدود عام 1967″، لكنهم في لحظة قرروا البدء في التطبيع ورفعوا شعار: “تبا لفلسطين وللفلسطينيين”. وليتهم فعلوا ذلك دون التدخل في الشأن الفلسطيني، لكنهم وقفوا سلبيين أحيانا ومتواطئين أحيانا أخرى، ولن ينسى التاريخ ولا شعوب المنطقة ما فعله حكام هذا الزمان في شعوبهم، أو القضية المركزية
والأساس في وجدان شعوبنا،ولن ينسى الفلسطينيون قمعَ التظاهرات الداعمة لهم، وإقامة الحفلات والمهرجانات، بينما عشرات الآلاف يرتقون جراء آلة القتل الصهيو-أمريكية، وملايين الفلسطينيين واللبنانيين هُجِّروا من منازلهم ولم يَعُدْ سقفٌ يؤويهم.
سيتجاوز الفلسطينيون واللبنانيون هذه الأيام، رغم مرارتها غير المسبوقة، لكنهم لن يتجاوزوا عداوتهم لمن بطش بهم واستباح دماءهم وإنسانيتهم، ولن يتجاوزوا احتقارهم لمن خذلهم، وسينفضون عنهم غبار المعركة وهم يحررون كامل أرضهم دون عون من أحد، أو التفات إلى المخذِّلين، فكم سمعوا من يقول ماذا ستصنع الحجارة أمام المسدس؟ ثم سخروا على مقذوفاتهم في بدايتها وقالوا إنها تشبه “مفرقعات العيد”، والآن ينسبون إلى مقاومتهم أنها سبب خراب القطاع ولبنان، وأن المقاومة عميلة لإيران، وإذا كانوا صادقين، فإن العمالة لإيران أشرف من عمالتهم لإسرائيل، أو خضوعهم لها إذا أحسنَّا النية، ورغم التقدم الملحوظ في إمكانيات المقاومة فإن المخذِّلين لا يريدون الإشارة إلى المثابرة والتطور الدائم للمقاومين رغم انعدام الإمكانيات تقريبا، بينما تنعم جيوش دولنا بمليارات الدولارات من الأسلحة والذخائر، لكنها للأسف توجَّه إلى صدورنا فقط عند الاختلاف مع الحاكم.
جاءت الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى يمتزج فيها الألم القاتل مع الانبهار الفائق؛ ألمٌ يمزِّق الفؤاد ويعتصره لكل روح أُزهقت، أو بطن جائع، أو ظمآن لا يرتوي، أو عريان لا يجد ما يقيه من لهيب الصيف أو زمهرير الشتاء. وانبهار بصلابة المقاومة رغم فارق المعدات والعدد الهائليْن، وقدرتها على الاستمرار بقوة، وإقبال المحاصَرين على تجديد دماء الشهداء بشغل مواقعهم بدفعات جديدة. وقطعا سيكون طوفان الأقصى سببا في تغيير عالمي كبير ولو بعد أعوام، فاليوم تحين ذكراه السنوية الأولى، لكن أعوام الطوفان ستستمر طويلا، ولن يستطيع أحد أن يوقفها.
عربي 21