الســـــــــبورة …

أ. خيرية فتحي عبدالجليل

السبورة السوداء العتيقة المثبتة على حائط السرداب القديم لبيت الجد دفتر الطفولة ومخبئ السري ، عليها تُكتب أسرار وأحلام مراهقتي الأولى في ظل حصار الرقيب الشديد ، وفوق سوادها أًشهر بوحي ، تضيء كلماتي المرتعشة سوادها ، بعضها حب .. بعضها وجع وبعضها دعاء ، وإلى يمينها جدول مرتعش للضرب وأرقام ترشح بعتاقة زمن الكتابة وتبهت في زمن الفجيعة والخواء ، خواء الفكر قبل اليد وفي الجانب الأيسر من الجدار رسم ساذج لابن الجيران ، أما في الحائط المقابل فتحتل مساحته آية الكرسي وبعض الكلمات مكتوبة بخط يدي المتعرج بقطعة بائسة من الفحم وأمنيات باهتة ، في أحدى زوايا المخبأ سرير حديدي قديم ، مرآة صدئة تتصدر المكان ، كم مرة دلفتُ إلى سردابي الأثير من الباب الخشبي المتهالك لأؤسس دهشتي ونشوتي بين أنقاض الأثاث العتيق وأندس بين أكداس الكتب والتحف والغبار في سرداب الجد القديم ، أجوس بالسبابة لأعثر على باب يفضي إلى فردوس البوح العظيم أو نفق ما في نهايته نشوة صغيرة جداً ، وبفطرة الطفل فيَّ أدرك أن العالم خارج هذا الكهف السري العتيق وحشي ، في ذلك المساء عدتُ ، تسللتُ على رؤوس أصابعي إلى مخبئ القديم في غفلة من الكبار ، كنتُ أرتعش كورقة عصفت بها رياح الشتاء ، أسرع الخطى ، في قلبي شيء ينبض بقوة كالشغب .. كالضجيج .. كالنداء .. كالإنعتاق .. كالسيل يهدر من أعماق غائرة ..ويغمر الروح والقلب والذاكرة .. ويسيل على الجسد حتى نهاية الأطراف .. لكنني عدت، أقف أمام السبورة .. أمام اللوح العتيق أرتعش ..أتأملها في صمت ، تمر أصابعي .. أتحسس شرخاً في منتصفها ها قد عدتُ أخيراً ، أكثر طولاً ، أكثر معاناة ، أكثر تيهاً ، عدت بشعر أشعث أكثر إهمالا وأكثر فوضى ، بدقات قلب أعلى من المعتاد وزفير متقطع وأنفاس غير منتظمة ، لكنني عدتُ ، أتناول ” الطابشير ” لأكتب كلمات بعضها حب .. بعضها وجع وبعضها دعاء .. لأسطر جدول الضرب والقسمة .. لأطرح الوجع ..لأرسم وجهاً طفولياً ساذجاً يحمل ملامح اقبن الجيران القديمة ، سأكتب … لكنني اكتشفتُ أن سطحها غير قابل للكتابة ربما بفعل الرطوبة أو بفعل العمر وتقادم الزمن ،هل أنكرتْ عودتي ؟ ألم تتعرف علي ؟ ،أو لم تعجبها لمساتي المرتعشة ولا أناملي .. وكأن لا ألفة بيني وبينها أو كأنني عدتُ بعد فوات الأوان ؟؟
أرتجف بشدة … أستدير وتخونني ركبتاي فأتحسس الطريق زحفاً وأنا أغادر المكان

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post نتنياهو عاد إلى المأزق
Next post لبنى يونس تكتب عن دور ليبيا في افريقيا