“سير واعلام افريقية 3” بقلم /لبني يونس (الحبيب بورقيبة: مهندس الاستقلال وباني الدولة الحديثة )
محمد الظفير-محرر الشؤون الافريقية
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_الحبيب بورقيبة، أحد أبرز القادة السياسيين في تونس وافريقيا، كان شخصية محورية في النضال من أجل الاستقلال والتحديث خلال القرن العشرين. ولد بورقيبة في 3 أغسطس 1903 في مدينة المنستير بتونس، وكرّس حياته للنضال ضد الاستعمار الفرنسي والسعي لتحرير بلاده. بعد سنوات من المقاومة والتفاوض، حقق حلمه عندما نالت تونس استقلالها عن فرنسا في عام 1956، ليصبح رئيسًا للوزراء ثم أول رئيس للجمهورية التونسية بعد إعلانها في عام 1957. على مدى ثلاثة عقود من حكمه، ركز بورقيبة على بناء دولة حديثة ومستقلة، مع إصلاحات جذرية في مجالات التعليم، حقوق المرأة، والتنمية الاقتصادية.
كما كان له دور كبير في الشأن الأفريقي والدولي، كان بورقيبة من القادة المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية التي تأسست في عام 1963. رؤيته للوحدة الأفريقية كانت تتسم بالاعتدال والواقعية؛ فقد كان يعتقد أن التكامل السياسي بين الدول الأفريقية يجب أن يتم تدريجيًا، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والتنمية المشتركة كخطوات أولى نحو الوحدة. على الرغم من اختلافه مع بعض القادة الأفارقة الذين تبنوا نهجًا أكثر راديكالية، إلا أن بورقيبة كان داعمًا قويًا لحركات التحرر في القارة وساهم في تعزيز العلاقات بين الدول الأفريقية.
ساهم بورقيبة أيضًا في العديد من المبادرات الدبلوماسية لحل النزاعات بين الدول الأفريقية، حيث كان يدعو دائمًا إلى الحوار والتفاوض لحل المشاكل. كان له دور بارز في تخفيف التوترات بين المغرب والجزائر بعد حرب الرمال في الستينيات. وعلى الرغم من موقفه المحايد تجاه بعض النزاعات الأفريقية، إلا أنه كان يعتبر صوتًا للسلام والاستقرار في القارة.
دوليًا، تبنى بورقيبة سياسة خارجية متوازنة، حيث حافظ على علاقات جيدة مع القوى الكبرى خلال الحرب الباردة، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى فرنسا، التي كانت مستعمرة سابقة لبلاده. رؤيته المعتدلة ظهرت بشكل واضح في موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي. ففي عام 1965، قدم مبادرته الشهيرة المعروفة بـ”سياسة الخطوة خطوة”، حيث دعا العرب إلى الاعتراف بقرار الأمم المتحدة لعام 1947 حول تقسيم فلسطين، كخطوة أولى نحو حل النزاع مع مايطلق عليها إسرائيل. هذه المبادرة قوبلت برفض من معظم الدول العربية، لكنها كانت تعكس رؤية بورقيبة الواقعية لحل النزاعات عبر التفاوض والاعتراف بالحقائق الدولية حسب رؤية مناصريه .
على الصعيد الداخلي، كان بورقيبة قائدًا إصلاحيًا بلا منازع. من أبرز إنجازاته في تونس كانت “مجلة الأحوال الشخصية” التي تضمنت إصلاحات قانونية جذرية لتحسين حقوق المرأة. منع بورقيبة تعدد الزوجات وأعطى النساء حقوقًا قانونية واجتماعية لم تكن مألوفة في العالم العربي في ذلك الوقت. إصلاحاته في هذا المجال جعلت تونس واحدة من أكثر الدول تقدمًا في حقوق المرأة، وكانت مصدر إلهام للعديد من الدول الأفريقية والعربية التي كانت تنظر إلى التجربة التونسية بعين الاهتمام.
بالإضافة إلى حقوق المرأة، كان التعليم والتحديث الاقتصادي من أولويات بورقيبة. اعتقد أن التعليم هو المفتاح الحقيقي لاستقلال وتقدم الدول الأفريقية. لذلك، جعل التعليم مجانيًا وإلزاميًا في تونس، وسعى إلى تحسين النظام التعليمي ليصبح من أفضل الأنظمة التعليمية في المنطقة. تونس تحت قيادته أصبحت وجهة للطلاب الأفارقة الذين كانوا يحصلون على منح دراسية للدراسة في الجامعات التونسية، ما ساهم في تعزيز العلاقات بين تونس وبقية الدول الأفريقية.
على الرغم من كل إنجازاته، انتهى حكم بورقيبة بطريقة غير متوقعة في عام 1987. بعد تدهور حالته الصحية، تم عزله من السلطة في “انقلاب طبي” نفذه رئيس الوزراء آنذاك، زين العابدين بن علي. ورغم ذلك، بقي إرث بورقيبة حاضراً في تونس كأب مؤسس للجمهورية الحديثة، ورمز للتحرر والإصلاح.
الحبيب بورقيبة لم يكن فقط قائدًا تونسيًا، بل كان أيضًا رمزًا للنضال والتحرر في أفريقيا والعالم العربي. مساهماته في القضايا الدولية والأفريقية كانت تعكس رؤيته المتزنة والواقعية، حيث سعى دائمًا لتحقيق الاستقلال والوحدة من خلال التفاوض والإصلاح التدريجي، مع تركيزه على بناء دول حديثة وقوية ترتكز على حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_