محمد مصباح الجـدال ،،في قلوبِ أبناءِ بلدِه،،ضمن سلسلة “سِيَر و عِبَر” الجزء الثالث و الأخير ..
يكتبها الأستاذ الفاضل – د. محمد قليّة –
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_أي شهامة .. أي رجولة أنت ..!
أي تواضع ..أي وفاء أنت ..!
أي تضحية .. أي عنفوان أنت ..!
أي حُسن .. أي مضاء أنت ..!
مهما تتبارى من قرائح وأقلام لتتحدث عنك وعن أساطير حياتك وما يضمر فؤادك ، ستظل جميعها لم تبرح مكانها ولم تحرك بالقول لسانها ، لكي توفي لك ما تستحق ، بل هي لا غير تؤمي على استحياء بعضاً من شذرات أحداثك وعفوية مواقفك وتفوقك ،،
وخير دلالة على هذا ، ما نراه من انتشارِ صيتك بين أرجاء المعمورة ..
يقول ابنه أحمد : كان أبي يحمل رتبة عقيد حين كان يدير أمن المواني على مستوى البلاد ، وفي شهر يوليو من سنة 1969م أُرسِلَ في مهمةٍ إلى بريطانيا لاستيراد مجموعة من الزوارقِ الأمنية ، وبعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر من نفس السنة رجع ابي إلى أرض الوطن حيث تم التحقيق معه من قبل – عمر المحيشي – أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ، فلم يجد ما يشوبه او يتهمه به من أفعال طيلة عمله ، إلا انه تم الاحتفاظ به في إقامةٍ جبرية لضمان عدم تحركه ، وبعد فترة وجيزة رفعت عنه الإقامة الجبرية ..
في سنة 1970م تم اختياره من قبل أهالي مدينة العجيلات عميداً للبلدية عرفاناً و وفاءً منهم لابنِهم البار ،،
وفي سنة 1973م أسس شركة للمقاولات العامة بالعاصمة طرابلس ، إلا أنه في سنة 1978م تم الزحف على الشركات الخاصة وتم مصادرة كافة ممتلكات شركته ، على اثر ذلك سافر إلى بريطانيا ، وقد كان يجيد اللغة الانجليزية والايطالية بطلاقة ،، قضى هنالك فترةً تقارب من السنتين ،،
كان والدي تربطه علاقة صداقة مع والد الشيخ – علي الجدي – الذي كان يشغل منصب رئيس المحكمة العليا آنذاك ، توطدت تلك العلاقة مع والده حينما كان المرحوم – محمد مصباح – يشغل منصب رئيس مركز شرطة بني وليد ،،
ومن باب الوفاء فقد طلب الشيخ – على الجدي – رجوع أبي من بريطانيا ومنحه وافراً من الاطمئنان على سلامته ، حيث رجع بعد ذلك فعلاً ولم يتعرض لأي مضايقة أو أذى ..
في سنة 1984م شارك أبي شخصاً مقيماً في بلجيكا وعمِلا سويّاً على استيراد مجموعة من السيارات من هناك ، إلا ان الوالد نتيجة للسخاء و الجود و “البَندقة” التي كان يمتاز بها ، لم يثمر معه ذلك النشاط التجاري ،،
كان الوالد تربطه علاقة وطيدة و صداقة قوية مع المرحوم – الهادي مفتاح – و – محمد ميلود – ومن باب الوفاء وعمق الود بينهم ، فقد قام الاخ – محمد ميلود – في بداية التسعينات بتخصيص للوالد محلاً كبيراً بسوق الثلاثاء ،،
استغل أبي ذلك المكان في مجال تجارة قطع غيار السيارات بيجو ،،
و في سنة 1998 جاء المواطن – عبد المنعم الأزمرلي – إلى أبي طالباً منه تسليم المحل له ، باعتباره أحد أملاكه التي تم الزحف عليها ، إذ تقبّلَ والدي طلبه بصدرٍ رحب و وافق على تسليمه له دون قيدٍ أو شرط ،،
إلا أن – الأزمرلي – تقديراً وتكريماً وامتناناً من ذلك الموقف فقد خصص له جزءًا صغيراً من ذلك المحل الكبير ليستمر في ممارسة نشاطه كهدية له على موقفه النبيل و النادر ،،
ترك المرحوم – محمد مصباح – ذلك المحل الصغير لابنه الأصغر – طارق – ورجع إلى مدينة العجيلات ليهتم بمزرعته هناك بمنطقة زعفرانة ..
في سنة 1952م تزوج أبي من والدتي – مريم عمر القاضي – وأنجبت معه سبعة أولاد وأربع بنات ، وقد كانت حديثَ أهالي العجيلات قاطبة في الحُسن والجمال والحَسَب والنّسب ،،
وهي السابعة في تسلسل زوجاته السابقات ..
وقد وافاها الأجل المحتوم سنة 1996م ،،
حيث عاش معها طيلةَ الـ 44 عاماً بكل حبٍّ وتقديرٍ واحترامٍ ومودةٍ و إخلاص وكرمٍ ودلالٍ منقطع النظير ، ولم يتزوج عليها إلى أن توفاها الله ..
ثم تزوج بعد وفاتها من – الصالحة أبوزريدة – شقيقة المرحوم – عبد العزيز أبوزريدة – من قبيلة أولاد الشيخ ..
من المواقف التي سمعتها من أحد أصدقاء – محمد مصباح – المُقرّبين ، نقلا عن لسان محمد مصباح :
” إنني لا أنسى يوم الخميس من شتاء أواخر سنة 1950م حين كنت أشتغل في مدينة الزاوية ، بعد انقضاء دوام ذلك اليوم ، ذهبت مسرعاً إلى محطة الحافلات ، كانت السماء تتشح بزرقة مخملية ضاربة إلى السواد ، حين صعدت الحافلة التي لم تتخلف عن موعدها كعادتها ، كانت الطريق شبه خالية بإستثناء بعض الدواب والشاحنات ، كانت تحملني كمية من الحزن على فقدان زوجتي ،،
دخلت بنا الاتوبيس مثلما كان يسمونها العامة إلى مدينة العجيلات كان ضبابها يملأ أرجاءَها ، شاهدت جموعاً من الأفراد ، فمنهم من يلوي زمام دابته لمغادرة السوق ومنهم من يجلس صحبة أصدقائه وهم يرتشفون أكواباً من الشاهي ، حملتني تلك المشاهد ما حملت لأنني أرى المشقة في عيون المارة ، استقبلني صاحبي – محمد عطيه بدروش – فدعوته ليصاحبني إلى أحد المقاهي جلسنا معاً فسالته عن أحواله ، فقال لي :
أخي محمد إن ليلي يمتد طويلا فلم يكن بوسعي أن اعمل شيئا ولا أفكر الا بقلة جهدي وقلة حيلتي وأمية فكري !!
حدثني عن خفايا نفسه ، تالقت على وجهه ابتسامة عريضة حينما قلت له :
موعدنا السبت القادم بإذن الله سأعمل معك جهدي في ذلك الموعد ،،
دخل إلى مكتبي أخي – محمد بدروش – وهو يقول :
كنت انتظر شروق الشمس كي ألتمس ضؤ النهار بما يحمله من جديد ،،
طلبت منه الذهاب إلى المصوارتي ليعمل له صورة شمسية ، ثم اتصلتُ بمدير مركز التدريب بطرابلس وأخبرتُه بأن يسجل عنده اسم – محمد بدروش – ليلتحق بالدورة الحالية لأفراد الشرطة ، على أن نقوم بإرسال مستنداته لاحقاً ،،
كان السيد – محمد بدروش – “كريم العين” ولا يسمح القانون بقبوله إلا أنه التحق وحضر الأسابيع الأخيرة من الدورة وتخرج شرطياً وباشر عمله ،،
بعد فترة وجيزة من تخرجة اتصل بي – مدير مركز التدريب – وقال لي :
يا أفندي محمد ! أنا في ورطة ولا تحمّلني من الأمر ما لا يطاق ! فقد اتصل بي – مدير الأمن العام – وقال لي :
أنت مطلوب للتحقيق بخصوص ملف “كريم العين” بدروش ! وكيف تم قبوله لديك ! والقانون لا يسمح بذلك !!
جاء ردي سريعاً فقلت له :
إن العواقب لا تدخل ضمن حساباتي وإنني شخصياً سوف أتحمل مسؤولية ذلك مهما كلفني ، وسوف أذهب إليه غداً ،،
وبالفعل ، ذهبتُ إلى مدير الأمن العام ، وفي نيتي تسوية الموضوع بأي طريقة كانت ، دخلتُ مكتبه ، استقبلني بحفاوة واخبرته بسبب مجيئي إليه ، فاستخرج ملف بدروش وقال :
حتى صورتة تظهر بوضوح أنه “كريم العين” !
قلت له :
إن المَعني قد أُصيبت إحدى عينَيه أثناء التدريب ، وأن الصورة قد ارسلتُها بعد التخرج ، وتعويضاً له عن خسارةِ إحدى عينيه ، فقد رأى مدير المركز أن يستمر ، وإنني أراه قراراًً صائباً ، وهذا أقل ما يُكرَّم به ، وهو الآن يؤدي في عمله بكفاءة ،،
كان ردي قد (أطرقه) أي اسكته قليلا ، ثم قال :
أخي محمد ! بصراحة ! هل يهمك الموضوع ؟
قلت له :
نعم يهمني جداً ، فهو من أبناء العمومة ، وربما تكون هذه ومضة خير ، نشترك فيها جميعا
فقال لي مدير الأمن العام :
مُبارك له عمله ،،
و قُفِلَ ملفُ التحقيق
هذا قبسٌ من سيرة الزعيم – محمد مصباح الجدال – العطِرة ، وهو من الذين تركوا لنا بصمةً وعلامةً ناصعةً وصورةً جميلةً في اذهان جيلِهم ومن تبعهم من أجيالٍ لاحقة ،،
ونحن ننقلها لكم بكل أمانة ، فهي تبرز دوماً ساميةً شبيهةً بالمعدن النفيس ، لا يزيدها مرور الزمن إلا قيمةً مُضافةً إلى قيمتها ،،
ومن كرم الله له ، فقد حباه الله بأجملِ نساءِ مدينة العجيلات وأرفعهنَّ حسباً ونَسباً ،، و وهب له من خيرةِ الأولادِ والبنات ..
انتقل المرحوم بإذن الله تعالى إلى رحمته سنة 2008 م بمدينة العجيلات ،،
ونحن نودع هذه السيرة العطرة ؛ نترحم على روحه الطاهرة وأرواح من رحل عن الدنيا من زوجاته وأبنائه ،،
اللهم اغفر لهم وتجاوز عما تعلم عنهم فأنت غني عن عذابهم ، اللهم اجعل في قبورهم نوراً دائماً لا ينقطع ، وفي جنانك أمناً واطمئناناً ، يارب العالمين ..
وإلى اللقاء في سيرةٍ أخرى بإذن الله ،،
بقلم..م ق.&
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_