كيف تؤثر التغيُّرات المناخية على الشؤون الدفاعية في العالم؟
د. أحمد عبد العليم حسن
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_أوصت هيئة العلوم الدفاعية (DSB)، وهي لجنة استشارية اتحادية تقدم المشورة المستقلة إلى وزارة الدفاع الأمريكية، في مطلع سبتمبر 2024، بضرورة أن يعمل البنتاجون على التعامل بشكل استباقي مع الأزمات العالمية والصراعات المحتملة الناجمة عن التغيُّرات المناخية. ووفق التقرير الصادر عن الهيئة فإن التغُّيرات المناخية من شأنها إعادة تشكيل شؤون الدفاع والأمن عبر أقاليم العالم المختلفة، وبما يتطلب وجود استراتيجيات مرنة وفعّالة من جانب الدول للتعاطي معها من أجل تقليل الخسائر وتحجيم التحديات المحتملة.
أنماط التهديدات
يمكن أن تؤثر التغيُّرات المناخية على الشؤون الدفاعية عبر أقاليم العالم المختلفة، وذلك على النحو التالي:
1- تدمير البنية التحتية العسكرية للجيوش: من شأن تفاقم التداعيات المرتبطة بتزايد حدة الطقس المتطرف أن يؤثر على البنية التحتية العسكرية للدول، حيث إن العديد من القواعد العسكرية تقع في مناطق ساحلية، وهي مُعرّضة للتدمير جرّاء ارتفاع مستويات البحار، كما أن تزايد العواصف والأعاصير الشديدة يمكن أن تؤثر على المنشآت العسكرية والمرافق الحيوية على غرار المطارات والمنشآت التابعة للجيوش النظامية.
ووفق تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية فإن نحو تسع قواعد عسكرية أمريكية رئيسية معرضة لخطر الفيضانات نتيجة ارتفاع مستوى البحر، ومنها قاعدة نورفولك البحرية في ولاية فيرجينيا، وهي أكبر قاعدة بحرية في العالم؛ إذ إنها معرضة لخطر الغمر بشكل متزايد بسبب ارتفاع مستوى البحر والعواصف، كما أدّت الفيضانات الشديدة التي ضربت قاعدة أوفوت الجوية في نبراسكا عام 2019 إلى أضرار تقدّر بحوالي مليار دولار، حيث تضرّر 137 منشأة عسكرية، مما أثر على عمليات القاعدة بشكل كبير.
2- اضطراب “سلاسل التوريد” العسكرية: يُمكن للتغيُّرات المناخية وتأثيراتها السلبية على غرار الإضرار بالطرق والجسور والموانئ نتيجة الكوارث الطبيعية أن تؤثر على قدرة القوات المسلحة على نقل الإمدادات والمعدات بشكل سلس، علاوةً على أن الطقس المتطرف يمكن أن يؤدي إلى نقص الموارد الأساسية مثل المياه والغذاء وحتى الوقود في مناطق العمليات العسكرية، وبما يخلق تحديات لوجستية تؤثر على استدامة العمليات العسكرية للجيوش النظامية حول العالم.
وتواجه الصين بشكل كبير تهديداً حقيقياً في هذا الإطار، في ظل إمكانية تضرُّر القواعد العسكرية الساحلية، ولا سيما تلك الموجودة في بحر الصين الجنوبي، حيث تنفذ الصين عمليات بحرية واسعة وتدير قواعد بحرية متعددة على الجزر الصناعية، ومن شأن اضطراب سلاسل التوريد العسكرية أن تؤثر على فاعلية الأنشطة العسكرية الصينية بشكلٍ عام.
3- تعطُّل إنتاج التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة: من المرجح أن يكون للتغيُّرات المناخية تداعيات سلبية واسعة على إنتاج التكنولوجيا الدفاعية في ظل تأثر سلاسل التوريد الصناعية، بما في ذلك إنتاج وتوريد المعادن النادرة وشحن المكونات التكنولوجية الدقيقة من أماكن مختلفة، وهو ما يؤثر إجمالاً على تحديث الأنظمة الدفاعية وابتكار معدات جديدة ذات تكنولوجيا متقدمة. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الفيضانات التي تضرب المناطق الصناعية، مثل جنوب شرقي آسيا، تؤدي إلى إغلاق المصانع التي تنتج معدات دفاعية متقدمة مثل أنظمة الاتصالات وأجهزة التحكم في المُسيّرات.
4- إتلاف واسع للأسلحة والمعدات العسكرية: تطرح معضلة الطقس المتطرف أولوية إعادة تصميم الأسلحة والمعدات العسكرية بشكل يتناسب مع البيئات الجديدة للحروب والنزاعات، سواء مع الارتفاع الشديد في درجات الحرارة أو تزايد الطقس البارد. وقد كشف تقرير هيئة العلوم الدفاعية الأمريكية الصادر في سبتمبر 2024 أن القطب الشمالي سيكون إحدى مناطق الصراع على الموارد في ظل تأجج التوترات بين القوى الكبرى، وبما يمكن أن يتحول إلى ساحة حرب مفتوحة ولا سيما بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
وفي السياق ذاته، من شأن الإجهاد البيئي للمعدات أن يؤثر على جاهزية الجيوش النظامية في الحروب. فعلى سبيل المثال، تكون الإلكترونيات وأجهزة الاستشعار حساسة لتغيرات درجات الحرارة، مما قد يؤدي إلى حدوث أعطال، كما يمكن أن تتداخل الظروف الجوية المتغيرة، مثل زيادة العواصف أو الطقس القاسي، مع الاتصالات عبر الأقمار الصناعية والراديو، مما يقلل من فاعلية الأنظمة العسكرية الحيوية مثل نظام تحديد المواقع العالمي والرادار.
5- صعوبة تدشين التدريبات العسكرية بين الدول: تخلق الظواهر المناخية المتطرفة صعوبات لوجستية واستراتيجية تؤثر بشكل سلبي على التدريبات العسكرية سواء عبر تعطيل العمليات أو فاعلية التدريب أو حتى من خلال التأثيرات السلبية على المعدات والجنود؛ إذ إن الفيضانات والعواصف أو حرائق الغابات، وهي ظواهر منتشرة في بعض الدول مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وبعض البلدان الأوروبية، يمكن أن تؤثر بشكل واضح على إتمام التدريبات العسكرية ولا سيما العمليات الجوية مثل استخدام الطائرات والمُسيّرات وكذلك تعطُّل الدعم الجوي وتعقيد مهام الإنقاذ.
6- الإضرار بالخطط العسكرية في مناطق الصراع: وضع الخطط العسكرية دون الأخذ في الاعتبار التداعيات السلبية للطقس المتطرف يمكن أن يؤدي إلى إلحاق هزيمة كبرى بالجيوش مهما كان مستوى تسليحها متقدماً، إذ إن العوامل المناخية تؤثر على أداء الجنود والتنقل وتوافر الموارد. وتتطلب البيئات القاسية تكتيكات واستراتيجيات مرنة. وقد ظهر ذلك بشكل جلّي في الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث أدت الأمطار الغزيرة في أوكرانيا إلى جعل الأراضي طينية بما أعاق حركة المركبات العسكرية الثقيلة وأخّر تقدم روسيا في بعض المناطق، كما أخّر الطقس البارد بعض العمليات العسكرية من الجانبين في ظل تأثر الجنود وتأخر المؤن وحتى تضرر بعض المعدات.
آليات المواجهة
تتطلب التداعيات السلبية المرتبطة بالتغيُّرات المناخية على الشؤون الدفاعية للدول أن تكون هناك سياسات أكثر مرونة لتلافي تلك السلبيات، وذلك على النحو التالي:
1- تطوير أنظمة الإنذار المبكّر للجيوش المختلفة: في مواجهة حجم التهديدات المتنامية للتغيرات المناخية على الشؤون الأمنية والدفاعية، من الضروري تحسين نظم جمع البيانات وتحليل المعلومات المتعلقة بالتغيُّرات المناخية لضمان قدرة الجيوش على التنبؤ بشكل دقيق بالآثار المناخية على الأمن والدفاع، ويشمل ذلك تطوير تقنيات إنذار مبكر وأنظمة توقع مستقبلية لتحديد التهديدات المحتملة والاستجابة السريعة للتغيرات المناخية. وتقترح وزارة الدفاع الألمانية -على سبيل المثال- استخدام أساليب مثل النماذج والمحاكاة التي يمكن أن تعزز القدرة على التوقع والاستعداد للتهديدات والصراعات الناجمة عن التغيُّرات المناخية.
2- تدشين وحدات دفاعية لتحديث تهديدات المناخ: اقترحت هيئة العلوم الدفاعية على وزارة الدفاع الأمريكية أن يتم تدشين “خلية تخطيط المناخ” (Climate Planning Cell) لإنشاء ودمج بيانات المناخ وأدوات دعم القرار السياسي والاستراتيجي والتخطيط للمهام المستندة إلى المناخ، بما في ذلك تقييم تأثيرات تغير المناخ على الخصوم، إلى جانب العمل مع المؤسسات الدفاعية والوطنية المختلفة لتوحيد الجهود على غرار التعاون مع القوات الجوية والبحرية، ووكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية، ووكالة الفضاء الوطنية، ووكالة ناسا، والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، لتوحيد وجمع المزيد من بيانات شبكة الاستشعار العالمية، وهي جهود في مجملها تستهدف تحديث التهديدات الدفاعية المرتبطة بالتغيُّرات المناخية بشكل سنوي من أجل تقديمها إلى المسؤولين السياسيين والعسكريين.
3- تعزيز الاستثمار في البحث والتطوير الدفاعي: من الأهمية بمكان للجيوش أن تعزز من الاستثمار في البحث والتطوير من أجل مواكبة التهديدات المناخية وتأثيراتها على العمليات العسكرية، من أجل أن تكون المعدات والأسلحة أكثر تكيفاً مع الارتفاع الشديد في درجات الحرارة أو الطقس البارد وتقليل احتمالات تلفها، مع العمل على تحسين استدامة البنية التحتية العسكرية وتوظيف التقنيات المستدامة التي تعزز من فاعلية التكنولوجيا الدفاعية في المستقبل القريب.
4- تدريب الجنود على التكيُّف مع تهديدات المناخ: يتطلب التخطيط الدفاعي مراعاة تأثيرات المناخ على العمليات العسكرية المستقبلية، ويعد الفرد أو الجندي هو العامل الأهم الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان، إذ إن تأهيل الأفراد العسكريين على مواجهة التحديات المرتبطة بالمناخ أمر ضروري، ويمكن أن تشمل برامج التدريب موضوعات تتعلق بتأثيرات المناخ وكيفية التعامل معها، مع تدشين تدريب عملي للتأكد من مدى استعداد الجنود للتعامل مع البيئات المتغيرة، سواء في درجات الحرارة القصوى أو تلك التي تعاني من كوارث طبيعية.
5- توسيع التعاون الدولي الدفاعي متعدد الأطراف: تمثل التغيُّرات المناخية تهديداً عالمياً لكل الدول والجيوش، وهو ما يستدعي ضرورة أن يكون هناك تعاون دولي متعدد الأطراف، مثل تعزيز الشراكات مع الدول الحليفة والمؤسسات الدولية على غرار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو لتعزيز بناء استراتيجيات دفاعية متكاملة قادرة على مواجهة التهديدات المناخية العابرة للحدود، مع إتاحة تبادل المعرفة والخبرات والتقنيات، وتطوير حلول مشتركة لتحجيم التهديدات المناخية المرتبطة بالشؤون الدفاعية.
وختاماً، فإن عامل الوقت هو العامل الأهم في تحديد قدرة الجيوش على مواجهة التهديدات المرتبطة بالمناخ، إذ إن الاستعداد بشكل استباقي وتفعيل الإنذار المبكر لمواجهة مثل هذه التهديدات المؤثرة على الأمن والدفاع الوطني والدولي، يُعد عاملاً حاسماً في مستقبل تعاطي الجيوش النظامية وتحديد مدى جاهزيتها للتغلُّب على الأنماط المتباينة من التهديدات المرتبطة بالتغيُّرات المناخية في المديين المنظور والمتوسط.
أنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية