التنافس الدولي حول الأقمار الصناعية الروبوتية

ساره عبد العزيز سالم

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_وجدت المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى في الفضاء مجالاً حيوياً للتصعيد فيما بينها؛ حيث تتبادل كلٌّ من الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية الاتهامات بشأن السعي إلى “عسكرة الفضاء” من خلال وضع الأسلحة في الفضاء الخارجي، وجعله ساحةً للمواجهة العسكرية، وهو ما يُثير المخاوف من انطلاق سباق تسلُّح في الفضاء الخارجي، بل إن الأمر قد تجاوز ذلك إلى تصاعُد المخاوف من نشر الأسلحة النووية في الفضاء.

وفي مواجهة تلك التخوُّفات والاتهامات المتبادَلة، سعت كلٌّ من الصين بصفة خاصة إلى تطوير أقمار صناعية ذات خصائص روبوتية؛ حيث يمكنها، بجانب السير في المدار، التدخل عبر الأذرع الروبوتية والقيام بمهام متعددة؛ بدايةً من إصلاح الأجزاء المتضررة في الأقمار الصناعية الأخرى، وصولاً إلى التدخل لتحييد المركبات الفضائية والأقمار الصناعية لخصومها أو مهاجمتها. وهنا تأتي أهمية التعرف على تلك الأقمار الصناعية الروبوتية ومزاياها، بجانب استعراض أهم مظاهر التنافس الدولي على تطوير تلك الأقمار الصناعية.

فرص التكنولوجيا

يمكن تعريف الأقمار الصناعية الروبوتية (Robotic Satellites) بأنها أقمار صناعية مزودة بالتكنولوجيا الروبوتية؛ أي أنها تضم تقنيات الروبوت؛ حيث يمكنها التدخل من خلال الأذرع الروبوتية في إجراء عمليات التقييم والصيانة وإصلاح الأجزاء المتضررة من الأقمار الصناعية الأخرى، كما يمكن استخدامها في الأغراض العسكرية، من خلال مراقبة الأقمار الصناعية لدولها أو الدول الأخرى، والتدخل لحمايتها في حال وجود أقمار صناعية لدول أخرى تحاول الاعتداء عليها أو الاحتكاك بأقمار صناعية مستهدفة. وينطوي استخدام هذا النمط من الأقمار الصناعية الروبوتية على عدد من المزايا المتمثلة فيما يلي:

1– سرعة إجراء عمليات التقييم والصيانة للأقمار الصناعية: تؤدي هذه الأقمار الصناعية الروبوتية مجموعة متنوعة من الوظائف التي تُعَد جزءاً لا يتجزأ من المهام الفضائية؛ بدايةً من مهام البحث العلمي إلى صيانة الأقمار الصناعية الأخرى أو إعادة تزويدها بالوقود في الهواء؛ الأمر الذي يُطِيل العمر الافتراضي لتلك الأقمار الصناعية؛ حيث إن جميع هذه الأقمار يتم إطلاقها دون أي وسيلة لإصلاحها في حال تعطل أي شيء، كما أن معظم الأقمار الصناعية تحتاج إلى الوقود لتعديل مداراتها من حين إلى آخر. وبمجرد نفاد هذا الوقود، قد تتحوَّل إلى حطام فضائي؛ ما يضيف إلى التيار الضخم من الحطام الذي يحيط بالكرة الأرضية. وهنا أيضاً، تستطيع الأقمار الصناعية الروبوتية أن تساعد في التخفيف من مشكلة الحطام المداري الوشيكة من خلال إبعاد الأقمار الصناعية غير العاملة عن المدار.

2– القيام بالمهام الاستخباراتية والمراقبة بكفاءة أكبر: لأنها تكون في الأغلب أقماراً صناعية استطلاعية واستكشافية، فإن الوظيفة الأساسية لتلك الأقمار الصناعية الروبوتية، تتضمَّن قيامها بعمليات التتبُّع ومراقبة الأقمار الصناعية التابعة لدولها أو التابعة للدول الأخرى، والتقاط الصور وإرسالها إلى مراكز التحكم في الأرض.

3– ممارسة المهام الصعبة والخطيرة: يمكن لهذه الأقمار الصناعية الروبوتية أداء مهام قد تكون خطيرة للغاية أو بعيدة أو متكررة بالنسبة إلى رواد الفضاء من البشر؛ حيث إن تصميم هذه الأقمار الصناعية يُمكِّنها من العمل في ظل الظروف القاسية للفضاء، بما في ذلك درجات الحرارة الشديدة والإشعاع والفراغ في الفضاء، ويمكنها أيضاً تنفيذ مهامها بشكل فعَّال مع تدخُّل بشري محدود، كما أن الدمج المستقبلي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تلك الأقمار الصناعية، قد يجعلها أكثر استقلاليةً وموثوقيةً وقدرةً على أداء المهام المُعقَّدة دون سيطرة بشرية مباشرة. وحقيقة الأمر، أنه لم يعزز هذا التقدم استكشاف الفضاء فحسب، بل فتح أيضاً إمكانيات جديدة للمهام المستقبلية، بما في ذلك تعدين الكويكبات، واستكشاف الفضاء العميق، وحتى بناء القواعد على الكواكب الأخرى.

4– انخفاض تكلفة الأقمار الروبوتية: حيث إن وجود القمر الصناعي الروبوتي في المدار يُسهِّل عمليات التدخل بسرعة ودون الحاجة إلى تكلفة إضافية لإنجاز المهام التي يقوم بها. وحقيقة الأمر أن التوسع في تلك الأقمار الصناعية الروبوتية سيشكل علامة فارقة في إنجاز عدد من المشروعات العامة والخاصة التي تهدف إلى استخدام الروبوتات في إصلاح وتحسين أداء مليارات الدولارات من الأقمار الصناعية في المدار.

كما يمكن أن تؤدي مثل تلك الجهود إلى إضافة أقمار صناعية أفضل وأرخص تعمل على خفض تكلفة شبكات الإنترنت والهواتف المحمولة، وتوفر توقعات أفضل للطقس، وتعطي وجهات نظر غير مسبوقة للتغير الكوكبي والكون؛ بل إنها قد تُمكِّن موجة جديدة من الأقمار الصناعية في المدار، مع جيوش من الروبوتات، من بناء الأقمار الصناعية ومحطات الفضاء وحتى المركبات الفضائية المتجهة إلى المريخ.

5– التدخل لمهاجمة الأقمار الصناعية للدول الأخرى أو تحييد نشاطها: حيث تستطيع الأقمار الصناعية الروبوتية، من خلال وجودها في المدار، إجراء عمليات المراقبة والرصد لأنشطة الأقمار الصناعية للدول الأخرى، وحماية الأقمار الصناعية التابعة لدولها من استغلال الأذرع الروبوتية في التدخل المباشر في حال استكشافها أي خطر من جانب قمر صناعي مُعادٍ.

التنافس الدولي

ثمة تنافس دولي في اللحظة الراهنة حول الأقمار الصناعية الروبوتية، وهو ما تتجلى ملامحه من خلال ما يلي:

1– اهتمام الصين بتطوير أقمار صناعية روبوتية: تنظر الصين إلى الفضاء باعتباره “القاعدة الأهم” لانطلاق المنافسة على الأرض، خاصةً بعد تنظيمها الأخير لقوة الدعم الاستراتيجي وإنشاء قوة جوية فضائية جديدة ترفع تقاريرها مباشرة إلى اللجنة العسكرية المركزية العليا. وتتضمن استراتيجية الصين في مجال الفضاء الخارجي العديد من الأهداف؛ بدايةً من تعدين الكويكبات إلى زيادة عدد الأقمار الصناعية، وصولاً إلى تطوير منافس لنظام الملاحة الأمريكي (GPS). وتصبُّ تلك الأهداف جميعها في إطار تعزيز القوة الوطنية الشاملة للبلاد، كما أكدت الصين أن استكشاف الكون الشاسع، وتطوير صناعة الفضاء، وبناء الصين كقوة فضائية هو حلمها الأبدي. ومن ثم، ترى الصين الطبيعة الجيوستراتيجية للفضاء، باعتباره شاسعاً، ولكنه يخضع لقيود في الوقت نفسه.

وقد دعمت الصين اتجاهها من خلال زيادة هائلة في الأنشطة الفضائية؛ إذ أطلقت أكثر من (400) قمر صناعي في عامي 2022 و2023 باعتبار ذلك جزءاً من استراتيجيتها في تطوير منظومة من الأقمار الصناعية للاستطلاع والمراقبة بل الهجوم أيضاً. وكجزء من هذه الجهود، أطلقت الصين في ديسمبر 2023 قمراً صناعياً للاستشعار عن بعد يُدعَى (Yaogan–41) إلى مدار ثابت جغرافياً بالنسبة إلى الأرض للمرة الأولى، وهو ما يجعله أكبر قمر صيني للاستشعار عن بعد في حزام الأرض. ويتوقع المحللون أن يستقر القمر الصناعي في وضع يسمح له بالمراقبة الكاملة والمستمرة للمحيطين الهادي والهندي، بالإضافة إلى تايوان والبر الرئيسي للصين. وبجانب البيانات من أقمار المراقبة الصينية الأخرى، يمكن أن يوفر (Yaogan–41) للصين قدرة غير مسبوقة على تحديد وتتبع الأجسام في جميع أنحاء منطقة المحيطين الهندي والهادي بأكملها، وتعريض العديد من الأصول البحرية والجوية العاملة في المنطقة التابعة لأمريكا وحلفائها للخطر.

وبالإضافة إلى المهام الاستطلاعية، طورت الصين أقماراً صناعية تكتسب تقنية الإمساك بالأقمار الصناعية الأخرى من خلال أذرع روبوتية؛ وذلك ضمن نشاطها للاحتكاك بالأقمار الصناعية الأخرى والمناورة. ومن أمثلتها القمر الصناعي (Shijian–21) الذي أطلق في أكتوبر 2021، وأعلن رسمياً عن تصميمه لاختبار تقنيات تخفيف الحطام الفضائي والتحقق منها. ومن ثم، صُنِّف رسمياً على أنه قمر صناعي للصيانة والتجميع والتصنيع في المدار (OSAM)، وهي فئة واسعة من الأقمار الصناعية المصممة بقدرات الاقتراب والتفاعل مع الأقمار الصناعية الأخرى. كما يمكن لمثل هذه الأنظمة تمكين مجموعة واسعة من التطبيقات، بما في ذلك إطالة عمر الأقمار الصناعية الحالية، أو تجميع الأقمار الصناعية في المدار، أو إجراء أعمال صيانة وإصلاحات أخرى.

وفي يناير 2022، أمسك القمر الصناعي الصيني (Shijian–21) بقمر صناعي آخر أقدم منه، وسحبه من مداره إلى ما يعرف بمدار “المقبرة”؛ بحيث لا يؤثر على أنشطة الأقمار الصناعية الأخرى في المدار. أو بعبارة أخرى، كانت الصين تعمل على تنظيف الحطام الفضائي.

2– اتهامات لبكين باستخدام الأقمار الروبوتية في أنشطة عسكرية: لقد دفع هذا التوسع الصيني في استخدام الأقمار الصناعية العديد من التحليلات إلى القول بأن بكين تسعى إلى استخدام الأقمار الصناعية الروبوتية في الأنشطة العسكرية؛ فكل من قدرات التشغيل عن بعد وتقنيات الذراع الروبوتية تُعَد ذات استخدام مزدوج؛ ما يعني أن لها تطبيقات عسكرية محتملة، بالإضافة إلى التطبيقات العلمية أو الخدمية؛ حيث يمكن استخدامها في إبعاد أي قمر صناعي تشغيلي تابع لأي دولة أخرى عن المدار، وغير ذلك من الأنشطة.

3– توظيف روسيا الأقمار الصناعية في مواجهة خصومها: تعد روسيا من الدول السبَّاقة في إطلاق الأقمار الصناعية ذات التقنيات العدائية؛ حيث تقوم أقمار الاستطلاع والتفتيش الروسية من سلسلة (Luch/Olymp) بمراقبة أقمار الاتصالات الغربية والبقاء بالقرب منها لفترات طويلة؛ ففي فبراير 2019، اقترب أول قمر صناعي روسي من طراز (Luch/Olymp) من القمر الصيني (TJS–3) على مسافة 30 كيلومتراً فقط، كما أعرب قادة في الجيش الصيني عن قلقهم من أن الأقمار الروسية يمكن أن تكون منصات خفية مضادة للأقمار الصناعية قادرة على الهجوم بالمتفجرات الاتجاهية، أو استخدام الليزر، أو الموجات الدقيقة، أو وسائل أخرى لتدمير الأقمار المستهدفة أو جعلها غير فعالة.

وفي عامي 2019 و2022، أطلقت وكالة الفضاء الروسية في مدار منخفض مجموعة من أقمار “التفتيش” الصغيرة القابلة للمناورة، وهي الأقمار التي يتمثل دورها الظاهري في التقاء الأقمار الصناعية الأخرى وتفتيشها من أجل تشخيص الأعطال، إلا أنه مع إدماج أجهزة الاستشعار والأذرع الروبوتية، فإن تلك الأقمار الصناعية يمكنها العبث بالأقمار الصناعية الأخرى أو حتى تدميرها.

كما ذكرت “أسوشيتد برس” أن روسيا سبق أن طوَّرت قمراً صناعياً “دمية تعشيش” (Nesting Doll) ينفتح ليكشف عن قمر صناعي أصغر، ثم ينفتح هذا القمر ليكشف عن مقذوف قادر على تدمير الأقمار الصناعية القريبة. وفي عام 2019، قام الروس بمناورة دمية تعشيش بالقرب من قمر صناعي أمريكي.

ومؤخراً، في مايو 2024، أطلقت روسيا من قاعدة بليسيتسك الفضائية في شمال روسيا قمراً صناعياً غامضاً أطلق عليه اسم (كوزموس 2576) في مدار قمر صناعي حكومي أمريكي للاستطلاع (USA 314). وبعد أربعة أيام في 20 مايو، زعم السفير “روبرت وود” الممثل البديل للولايات المتحدة للشؤون السياسية الخاصة في الأمم المتحدة، أن (كوزموس 2576) “من المرجح أن يكون سلاحاً مضاداً للفضاء، وربما يكون قادراً على مهاجمة أقمار صناعية أخرى في مدار أرضي منخفض”.

4– محاولة واشنطن الحفاظ على ريادتها في مجال الأقمار الصناعية: تعد الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في مجال إطلاق أقمار الاستطلاع؛ حيث تم إطلاق سلسلة من أقمار المراقبة الفضائية منذ عام 2014؛ وذلك ضمن برنامج (GSSAP)، وهو برنامج الوعي بالوضع الفضائي الجغرافي المتزامن أو (Hornet)، الذي طورته القوات الجوية وعلوم المدار سراً لتوفير قدرة فضائية تعمل في نظام المدار الجغرافي المتزامن القريب لدعم عمليات مراقبة الفضاء التابعة للقيادة الاستراتيجية الأمريكية كمستشعر مخصص لشبكة مراقبة الفضاء (SSN)، كما أنها أقمار صناعية قابلة للمناورة؛ ما يسمح لها بجمع المعلومات الاستخبارية عن أقمار صناعية مستهدفة محددة.

وفي مارس 2024، أعلنت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأمريكية (DARPA) أنها تخطط في عام 2025 لإطلاق روبوت فضائي لإجراء مهمة لخدمة أحد الأقمار الصناعية العسكرية الموجودة في المدار الفضائي على ارتفاع يزيد عن 35 ألف كيلومتر. وسيتم تجهيزه بذراع آلية؛ حيث سيلتحم بالقمر الصناعي ويضع مستشعراً بصرياً جديداً على جسمه. وقد تم تطويره بالشراكة بين القطاعَين العام والخاص، ضمن شراكة كبرى تستهدف وزارة الدفاع الأمريكية تدشينها وجذب القطاع الخاص لها للاستفادة من التقنيات الروبوتية في الفضاء في تشكيل مستقبل الدفاع الفضائي الأمريكي.

وختاماً، يمكن القول إنه في ظل المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى، وسعي كلٍّ منهما إلى عسكرة الفضاء بل نشر الأسلحة النووية في الفضاء أيضاً؛ فإنه قد نشهد خلال الفترة القادمة طفرة في تطوير التقنيات العدائية في الفضاء، وبصفة خاصة من خلال استغلال الأقمار الصناعية الروبوتية التي تمتلك القدرة على المناورة والتدخل؛ وذلك نظراً إلى الأهمية المتزايدة للأقمار الصناعية التي أضحت تعتمد عليها البنية الأساسية للدول؛ الأمر الذي يجعلها عُرضةً للخطر على نحو متزايد؛ وذلك على الرغم من المزايا التي تطرحها تلك الأقمار الصناعية الروبوتية، التي تجعل الفضاء أكثر سهولةً في الوصول إليه واستدامته.

انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post انتقادات لحزب العمال البريطاني بسبب اللاجئين
Next post ما هي أبرز عقبات تعيين مات جايتز وزيراً للعدل بإدارة ترامب القادمة؟