ملامح التفاعل الأوروبي مع تطورات ما بعد سقوط نظام الأسد في سوريا

يوسف داوود

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_في 8 ديسمبر 2024، شهدت سوريا تحولاً جذرياً بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد بشكل سريع، وسيطرة فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام على العاصمة دمشق. وقد أثار هذا الحدث ردود فعل متباينة على الساحة الدولية، خاصة في أوروبا، حيث وصفته رئيسة المفوضية الأوروبية بأنه “تغيير تاريخي في المنطقة”، فيما رحب الاتحاد الأوروبي بسقوط النظام، معتبراً إياه “فرصة لسوريا”. ومع ذلك، تتسم التحركات الأوروبية تجاه سوريا بمزيج من الانفتاح والحذر؛ فبينما تبدي بعض الدول استعدادها للتعاون مع القادة الجدد، تشترط أخرى الالتزام بحقوق الإنسان وحماية الأقليات قبل الشروع فيذلك، حيث أكد المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استعدادهما للتعاون مع القيادة الجديدة في سوريا، بشرط احترام حقوق الإنسان وحماية الأقليات. في هذا السياق، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات معقدة في صياغة سياساته تجاه سوريا الجديدة، تتراوح بين دعم إعادة الإعمار والمساهمة في تحقيق الاستقرار، وبين ضمان عدم وقوع البلاد في أيدي جماعات متطرفة قد تهدد الأمن الإقليمي والدولي.

تحركات متنوعة

يمكن إجمال الملامح الرئيسية للتحركات الأوروبية تجاه سوريا بعد سقوط الأسد في العناصر التالية:

1- تعليق طلبات اللجوء وإعادة تقييم سياسات الهجرة: عقب انهيار النظام السوري، أوقفت عدة دول أوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، النظر في طلبات اللجوء المقدمة من السوريين. جاء هذا القرار نتيجة لتغير الوضع السياسي في سوريا، حيث تسعى هذه الدول إلى إعادة تقييم سياساتها المتعلقة باللاجئين السوريين. وفي النمسا، أعلنت الحكومة المؤقتة عن خطط لدعم العودة الطوعية للسوريين، مشيرةً إلى أن الوضع الأمني في سوريا قد تغير بشكل جذري. ويعكس هذا التوجه رغبة أوروبية في تشجيع اللاجئين على العودة إلى ديارهم، بما يُخفف الضغوط عن الدول الأوروبية.

2- تعدد الزيارات الأوروبية إلى دمشق واللقاء بالقادة الجدد: بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، شهدت دمشق توافداً لعدد من الوفود الأوروبية بهدف التباحث مع القيادة الجديدة، وعلى رأسها أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام. ففي 17 ديسمبر 2024، التقى الجولاني بدبلوماسيين بريطانيين، من بينهم آن سنو، الممثلة الخاصة لسوريا، حيث دعا خلال هذا اللقاء إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، مؤكداً ضرورة إعادة اللاجئين السوريين من أوروبا ودول الجوار.

في السياق نفسه، أعلنت وزارة الخارجية الألمانية عن إرسال دبلوماسيين إلى دمشق لإجراء محادثات مع السلطات الجديدة، تركزت على عملية انتقالية شاملة وحماية الأقليات، بالإضافة إلى بحث إمكانية وجود دبلوماسي في العاصمة السورية. من جانبها، أعربت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، عن استعدادها للتحاور مع السلطة الجديدة في دمشق، داعية إلى توخي “أقصى درجات الحذر” في التعامل مع هيئة تحرير الشام. وعلى صعيد آخر، شهدت السفارة الفرنسية في دمشق رفع العلم الفرنسي لأول مرة منذ 12 عاماً، في إشارة إلى استعداد فرنسا لإعادة تفعيل وجودها الدبلوماسي والتعاون مع السلطات الجديدة. وقد أكد المبعوث الفرنسي الخاص إلى سوريا، جان فرنسوا غييوم، أن فرنسا تستعد لتكون إلى جانب السوريين خلال المرحلة الانتقالية، معرباً عن أمله في أن تكون هذه الفترة سلمية.

3- ربط الاتحاد الأوروبي الانفتاح السياسي على دمشق بشروط إصلاحية: أبدى الاتحاد الأوروبي حذراً واضحاً في التعامل مع “أبو محمد الجولاني”، زعيم هيئة تحرير الشام. فرغم المخاوف من خلفيته المرتبطة بتنظيمات متطرفة، قرر الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات مدروسة للتواصل معه باعتباره جزءاً من القيادة الجديدة. تضمنت هذه الخطوات اجتماعات غير مباشرة عبر وسطاء، تهدف إلى تقييم نواياه السياسية، والتأكد من التزامه بحماية الأقليات واحترام حقوق الإنسان. كما ربط الاتحاد أي دعم اقتصادي أو سياسي بتطبيق إصلاحات ملموسة على الأرض، مع التركيز على ضمان عدم عودة الإرهاب وتأمين استقرار مستدام في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة.

4- طرح مبادرات أوروبية لدعم العملية الانتقالية في سوريا: بعد سقوط نظام الأسد، رأت الدول الأوروبية أن الفرصة سانحة لدعم عملية انتقال سياسي شاملة في سوريا، تقوم على أسس الديمقراطية وسيادة القانون. فقد نظمت فرنسا ورشة عمل في باريس ضمت خبراء دوليين وسوريين لصياغة مسودة مقترحة للدستور السوري الجديد، مع التركيز على ضمان حقوق الأقليات وتمكين المرأة. كما أعلنت ألمانيا عن تقديم منحة بقيمة 10 ملايين يورو لدعم منظمات المجتمع المدني السوري، لتمكينها من المشاركة في العملية السياسية، وضمان سماع صوتها خلال المرحلة الانتقالية. وفي خطوة إضافية، دعمت بريطانيا مبادرة أممية لعقد مؤتمر في جنيف يجمع كافة أطراف المعارضة السورية والقيادة الجديدة، بهدف وضع خارطة طريق للانتخابات الحرة خلال ثلاث سنوات.

5- الكشف عن التزامات بشأن إعادة الإعمار وتنمية سوريا: برزت الدول الأوروبية كأطراف رئيسية في جهود إعادة إعمار سوريا بعد سقوط النظام، حيث أكدت على أن الدعم الأوروبي سيقتصر على المشاريع التي تضمن التنمية المستدامة وتعزيز الاقتصاد المحلي. على سبيل المثال، تعهدت إيطاليا بتمويل مشروع لإعادة بناء المدارس في حلب ودير الزور، بهدف توفير التعليم لأكثر من 20,000 طفل. بالإضافة إلى ذلك، خصص الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات بقيمة 500 مليون يورو لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة في شمال سوريا، بهدف تحسين إمدادات الكهرباء في المناطق التي كانت تفتقر إليها سابقاً. كما دعا الاتحاد الأوروبي لقمة لإعادة إعمار سوريا في بروكسل، حيث كان آخر مؤتمر مخصص لذلك قد عُقد في نفس المكان في 2017.

محددات التطبيع

تتمثل أهم المحددات التي خطتها الدول الأوروبية بشكل عام للتطبيع مع هيئة تحرير الشام، وتخفيف أو إسقاط العقوبات المفروضة على سوريا، في الآتي:

1- الالتزام بحقوق الإنسان وحماية الأقليات: ركزت الدول الأوروبية على حماية حقوق الإنسان كشرط أساسي للتطبيع مع هيئة تحرير الشام، حيث تطالب الدول، مثل ألمانيا وفرنسا، الهيئة بتوفير ضمانات واضحة لحماية الأقليات الدينية والعرقية، وخاصة في المناطق التي كانت عرضة لانتهاكات خلال الصراع. على سبيل المثال، شددت الدول على ضمان عودة الإيزيديين إلى مناطقهم بسلام، وتوفير الحماية الكاملة للأكراد والدروز في مناطقهم.

2- انفصال الهيئة عن الجماعات الإرهابية: اشترطت الدول الأوروبية أن تأخذ الهيئة خطوات واضحة لفصل نفسها عن الجماعات الإرهابية الأخرى، وقطع أي ارتباطات ماضية مع تنظيمات مثل “القاعدة”. في هذا السياق أوضحت بريطانيا أنه يجب على الهيئة التنديد العلني بالإرهاب، وتبني سياسات مدنية، كما طالبت دول مثل إستونيا وهولندا باستبدال الشخصيات العسكرية بالهيئة بقيادات مدنية مستقلة.

3- انفتاح الهيئة على التعاون الدولي: طالبت الدول الأوروبية الهيئة بالتعاون الكامل مع المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، حيث دعت فرنسا الهيئة للسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون قيود، وضمان توزيعها بشكل عادل. كما اشترطت الدول أن تلتزم الهيئة بالقوانين الدولية المتعلقة بالصراعات، بما في ذلك احترام الاتفاقيات المتعلقة بحماية المدنيين.

4- الالتزام بعملية سياسية شاملة: ربطت الدول الأوروبية أي تطبيع بمشاركة الهيئة في عملية سياسية شاملة تحت رعاية الأمم المتحدة. تهدف هذه العملية إلى إشراك جميع أطياف المجتمع السوري في إعادة بناء البلاد. فعلى سبيل المثال، دعت إيطاليا إلى تشكيل لجنة تمثل كافة الأطراف السورية لوضع خارطة طريق للانتخابات القادمة، مع إشراف دولي لضمان الشفافية، كما أكدت الدول الأوروبية المجتمعة في العقبة على أهمية الالتزام بمخرجات قرار مجلس الأمن رقم 2254 كإطار للحل السياسي.

5- توفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين السوريين:أشارت الدول الأوروبية إلى أن تطبيع العلاقات مع هيئة تحرير الشام يعتمد على قدرتها على خلق بيئة آمنة ومستدامة لعودة اللاجئين السوريين، حيث طالبت هذه الدول الهيئة بضمان سلامة العائدين وتوفير الظروف المعيشية المناسبة لهم، بما في ذلك السكن، والتعليم، والرعاية الصحية. على سبيل المثال، أعلنت النرويج أنها ستدعم مشاريع إعادة الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها الهيئة بشرط عودة اللاجئين إليها طواعية دون تهديد أو تمييز. كما دعت فرنسا إلى تشكيل لجان محلية لمراقبة أوضاع العائدين، وضمان احترام حقوقهم وعدم تعرضهم لأي انتهاكات أو مضايقات سياسية أو اجتماعية.

– ضبط انتشار الأسلحة ونزع السلاح غير القانوني: وضعت الدول الأوروبية شرطاً يتعلق بضبط انتشار الأسلحة ونزع السلاح غير القانوني في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، حيث أكدت الدول الأوروبية أن السيطرة على الأسلحة وتفكيك المليشيات المسلحة غير الرسمية يمثل خطوة أساسية لتحقيق الاستقرار المستدام. في السياق ذاته، طالبت بريطانيا الهيئة بتسليم الأسلحة الثقيلة إلى السلطات المحلية الجديدة تحت إشراف دولي. كما دعت ألمانيا إلى تنفيذ برامج لإعادة تأهيل المقاتلين السابقين ودمجهم في المجتمع من خلال توفير فرص تعليم وتوظيف. بالإضافة إلى ذلك، شدد الاتحاد الأوروبي على أهمية إنشاء آليات رقابة فعالة تمنع تدفق الأسلحة غير المشروعة داخل سوريا، بالتعاون مع دول الجوار والمنظمات الدولية.

الخلاصة، رسمت الدول الأوروبية عدداً من الاشتراطات للتطبيع مع هيئة تحرير الشام بعد سقوط نظام الأسد، شملت حماية حقوق الإنسان، وفصل الهيئة عن التطرف، وضمان الأمن والاستقرار، والتعاون مع المجتمع الدولي، والالتزام بعملية سياسية شاملة، والعدالة الانتقالية، وتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين، وضبط انتشار الأسلحة. ومع ذلك يبدو أن هذه الاشتراطات لم تكن شروطاً مسبقة أو صارمة بقدر ما كانت مقاييس استرشادية تهدف إلى توجيه العلاقات مع الهيئة نحو تحقيق الاستقرار. وقد تجلّى ذلك في انخراط العديد من الدول الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة، في تحركات دبلوماسية مع القيادة الجديدة في سوريا. هذه التحركات تضمنت الإعلان عن إعادة فتح السفارات أو الاقتراب من فتحها، مما يعكس رغبة هذه الدول في تبني نهج عملي، حتى في ظل استمرار الشروط كأطر استرشادية.

انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post خطاب عيد الميلاد 2024 لصاحب السمو الملكي الدوق الأكبر