تعويم الجنيه في مصر أثرعلى حركة النشر
إيهاب محمود
شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_ في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وقبل أقل من ثلاثة أشهر على انطلاقة فعاليات الدورة الثامنة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، اتخذت الحكومة المصرية قرارها بتعويم الجنيه المصري، لتهدم بذلك خطط غالبية دور النشر المصرية، حيث قفزت أسعار الورق وأدوات الطباعة إلى ارقام خيالية، ولأن مصر تستورد كل شيء تقريبًا، فإن الخسائر كانت ضخمة، ودعا الناشرون وقتها لأن تمنحهم الدولة بعض الدعم، غير أن شيئًا لم يحدث، ولم تطبع عشرات العناوين لهذا السبب.الآن، وبعد مرور عام ونصف تقريبًا على قرار التعويم، تأثرت بعض الدور المصرية، فيما صمدت دور أخرى أمام عاصفة التعويم، والأمر يتعلق هنا بالوضع المادي لكل دار. على سبيل المثال كانت تخطط “دار صفصافة” لنشر ضعف العناوين التي نشرتها خلال معرض القاهرة للكتاب 2017، غير أن القرار الذي يصفه محمد البعلي، صاحب الدار، بالصادم، غيَّر الكثير: “تأثرنا طبعًا، وكنا ننتظر دعمًا من الدولة التي تركتنا نواجه نتائج قرارها بمفردنا، الدولة غير مشغولة بالثقافة أصلًا ودائمًا ما تأتي في ذيل اهتماماتها”.لقد غير قرار التعويم فلسفة النشر لدى بعض الدور، لم يعد في إمكان الناشرة فاطمة البودي، صاحبة “دار العين”، أن تنشر الشعر كما اعتادت، أكيد أن على الناشر دورًا تنويريًا يجب أن يؤديه: “ولكنه في نهاية الأمر ينشغل بالمكاسب المادية، فهو لا يعمل متطوعًا في جمعية خيرية. أنحاز لنشر الألوان الأدبية كالشعر حيث لا يرحب به الناشرون كونه لا يحقق مبيعات جيدة، ولكن الظروف الاقتصادية لها سطوتها”. تقول البودي.تؤكد صاحبة “دار العين” على أن الإمكانات المادية للدار لا تسمح بتحمل نفقات الطباعة كاملة دون مساعدة الكاتب، كما جاء قرار التعويم ليؤكد تلك النظرة، كما فرض القرار على دور أخرى أن تُشرك الكاتب في عملية الطباعة: “نحن نستورد الورق وأدوات الطباعة وكل ما يخص صناعة الكتاب، كيف لي أن أتحمل كل هذا؟ أنت تتحدث معي الآن في ظل وضع اقتصادي متأزم، أفهم أن الدولة تعاني ونحن نساندها، غير أن هذه المعاناة أثرت علي في دار العين جدًا، قرار التعويم أجبرني على أن أحصل من الكاتب على مبلغ مالي نظير الطباعة. أنا أفعل ذلك أساسًا؟ نعم هذا صحيح، ولكن بعد القرار بات الأمر راسخًا، ولم يعد من الممكن تغيير الفلسفة”.وبالحديث عن اشتراك الكاتب في نفقات الطباعة، يبدو الأمر مقبولًا عند إسلام عبد المعطي، صاحب “دار روافد” للنشر، إذ بات الكاتب يستطيع أن يكسب مالًا من الكتابة، بطبيعة الحال ليس المال الوفير الذي يعينه على العيش، غير أن الأمر مربح، وخاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي التي أعادت تركيب المشهد الأدبي في مصر.يقول إسلام: “ثورة يناير غيرت كل شيء، خلقت كتابًا نجومًا، مثلهم مثل الفنانين والمطربين، الشباب أرادوا أن يفهموا، بحثوا عن الكتاب، قرأوا، ومنهم من أراد أن يغير واقعه بالكتابة، أو يعيد تفكيك هذا الواقع ليشكله وفق رؤيته الخاصة، بات كاتبًا، ثم حقق مقروئية فبات نجمًا ينتظر مئات الشباب أن يصدر كتابه، ويتهافتون على حفلة توقيعه في عرض الكتاب، بات ذلك طقسًا ومشهدًا معتادًا. نحن نسمع الآن عن رواية اسمها “هيبتا” صدر منها أكثر من 50 طبعة، وتحولت لفيلم سينمائي، ألم يُدرْ ذلك دخلًا على مؤلفها؟ أظن أن من المعقول أن يشارك الكاتب في نفقات الطباعة، خاصة أن الناشرين لا تسمح لهم إمكاناتهم بتحمل كل شيء، وعلى المستوى الشخصي لا أحبذ أن يدفع الكاتب نظير نشر كتابه، ولكنها الظروف”.كلام إسلام عبد المعطي يبدو منطقيًا في ناحية، إذا ما نظرنا للمسألة كمنفعة متبادلة: أنت تريد أن تنشر كتابًا ستحقق من ورائه مكسبًا ماديًا، فلماذا لا تشترك مع الناشر في نفقات ستحصل على أضعافها فيما بعد؟ ولكن من وجهة نظر أخرى يمكن نسف النظرية، فإذا كان الناشر متأكدًا من رواج الكتاب وتحقيق مبيعات عالية فلماذا يأخذ من الكاتب مساهمة مالية؟ هو تصرف مهين للكاتب، وللكتابة، والكاتب الذي يستفيد ماديًا من كتابه استثناء، ولا يتكرر كل يوم. هذا ما يراه شريف جوزيف رزق، مدير دار التنوير (مصر) يقول شريف أن القارئ المصري قارئ نهم جدًا للروايات، وتقريبًا لم يعد باستطاعة أحد أن يحصر عدد الروايات التي تنشر في مصر خلال العام الواحد، كما أن الروائيين صاروا كثيرين جدًا، أو بالأحرى من يكتبون الروايات، لأن، في نظر شريف، ليس كل من نشر كتابًا مطبوعًا عليه كلمة رواية، بات روائيًا.ورغم أنه لسنوات، ظل الكتاب الديني مهيمنًا على سوق النشر المصرية، واحتل الصدارة من حيث النشر والمقروئية، غير أن سطوة الرواية وسيطرتها على المشهد تمامًا خلال السنوات التالية على يناير 2011 أربكت المشهد بعض الشيء، جعلته غائمًا، وانشغل كثيرون بفض الاشتباك بينهما، ولكن بنظرة سريعة على المشهد داخل أرض المعارض خلال الفترة من 27 يناير وحتى 10 فبراير لهذا العام، حيث أقيمت الدورة التاسعة والأربعون لمعرض القاهرة للكتاب، يتأكد المرء أن الكتاب الديني لم يفقد صدارته وفرادته واحتفاظه بمكانته ومكانه عند القارئ المصري، تكفي صالة ألمانيا ب لتثبت هذه الحقيقة، حيث عدد لا نهائي من دور النشر التي تعرض، فقط، كتبًا دينية.”هي خدعة بصرية فعلتها الرواية ليس أكثر” تفسر الناشرة كرم يوسف، صاحبة دار “الكتب خان” للنشر.توضح كرم: “ظن الناس أن الرواية أصبحت هي الكتاب الأول من حيث النشر والمقروئية خلال السنوات الأخيرة، وهذا تصور خاطئ تمامًا، كل ما حدث أن الشباب المصري قام بثورة في يناير 2011، انخرط بعدها في حراك سياسي، لم ينفصل عن حراك ثقافي، هؤلاء الشباب انقسموا فريقين: قراء وكتاب، وهم في الحقيقة فريق واحد تصدر المشهد تمامًا، وقفزت معهم الرواية، كتابهم المفضل، للصدارة، ولكنها صدارة مؤقتة، وهمية، والكتاب الديني في مكانه لم يتزحزح، ولا أظنه يفقد مكانه لسنوات، فأمامنا مشوار طويل جدًا لندرك أن هناك مناطق معرفية كثيرة لم نسلكها، عندما نؤمن بالعلم سيتراجع الكتاب الديني خطوات، ولكن ليس الآن على الإطلاق”.بالنسبة لمحمد البعلي، فإن الرواية منافس قوي جدًا للكتاب الديني، ونجحت فعلًا في أن تسحب البساط من تحت قدميه: “هذا الانتصار، حتى لو بدا مؤقتًا، علينا أن نسعد به، أن ندعمه، ونؤيده بشدة، لأنه خطوة نحو تحقيق هدف كبير. الكتاب الديني مسيطر منذ عقود طويلة، وما حققته الرواية خلال سنوات قليلة يعتبر طفرة هائلة وانتصارًا مدويًا، وإذا نظرنا إلى معرض الكتاب والانتشار الرهيب للكتاب الديني، فإن بحساب سنوات التأثير تنتصر الرواية التي أحرجت، خلال سبع سنوات فقط، الكتاب الديني المتغلغل منذ عقود طويلة مضت”.والآن، بات مقبولًا أن تجد في منافذ بيع الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدارات بأسعار تتخطى عشرين جنيهًا، فيما لم يكن ذلك مطروحًا من قبل، هذا بخلاف انزواء مشروع مكتبة الأسرة التي أطلقته سوزان مبارك، زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقد عاد المشروع مؤخرًا ولكن بأسعار عالية، بالمقارنة مع الأسعار المعروفة لكتب الهيئة.يقول الدكتور هيثم الحاج على إن هناك قرارات اقتصادية أثرت على كل شيء في مصر، والأمر لا يتعلق بقرار التعويم فقط، بقدر ما يرتبط بخطة الدولة لإطلاق مشروعات قومية كبيرة، وهي بالضرورة تحتاج لما يشبه التقشف الاقتصادي: “بطبيعة الحال تأثرنا بهذه القرارات، ولم يعد في إمكاناتنا أن نطرح العناوين بأسعار زهيدة كما كان يحدث فيما مضى. نقدم بعض الخصومات ولكن لن نستطع تخفيض الأسعار لأقل مما هي عليه حاليًا، لأننا نستورد الورق وأدوات الطباعة، وكما يعاني الناشرون نعاني أيضًا”.يؤكد عبد المنعم راضي، صاحب مطبعة القومية، أن حركة الطباعة تأثرت كثيرًا خلال العام الماضي، مشيرًا إلى أن الأزمة الاقتصادية خنقت صناعة الكتاب وخلقت حالة عامة بائسة في خصوص ذلك.يشرح: “أعرف مطابع أغلقت أبوابها وانصرف عنها أصحابها، بات هناك ركود كبير في المجال، للأسف نحن نستورد كل شيء من الغرب، ومع أي هزة حتى لو كانت بسيطة، فإن الخلل يؤثر بقوة على كل ما حوله، هناك ناشرون تأثروا جدًا بالقرارات الاقتصادية للدولة، ومنهم من اضطر لإغلاق الدار مثل حسني سليمان صاحب دار شرقيات الذي أحبطته القرارات الاقتصادية، وخنقه الجو العام، فانسحب تمامًا”.يتابع: “الصناعة عبارة عن دائرة تجمعنا كلنا، المؤلف والناشر وصاحب المطبعة والموزع والقارئ، الناشر يريد أن يطبع بسعر معقول، وأنا كصاحب مطبعة أريد أن أكسب، فأنا لا أعمل لخدمة الثقافة ولوجه الله والوطن، بل عندي التزامات كثيرة أيضًا، مع الوقت سيتعقد الأمر أكثر، ولن يبقى سوى الناشرين الكبار الراسخين ماديًا أصحاب العلاقات مع الدولة، وبالتالي سيسير الأمر ناحية ثقافة موجهة تمامًا. لا أعرف لماذا يذكرني المشهد بما تلا 23 يوليو 1952 من توجيه الثقافة وجعلها مرتبطة بالدولة لا تعمل ولا يسمح لها بالعمل إلا تحت مظلتها”.خلال فعاليات معرض القاهرة للكتاب 2017، صُدم وليد السداوي، الذي يعمل مدرسًا، بسبب أسعار الكتب، مر بخيام المعرض في ذهول، لم يشتر شيئًا، غير أنه فكر في طريقة جديدة للقراءة لم يحبذها من قبل.يوضح: “الارتفاع الجنوني في أسعار الكتب فرض علي أن أقرأ الكتب pdf على الرغم من أني لا أتفاعل مع القراءة بهذه الطريقة، غير أني أحب القراءة، ويستهويني شراء الكتب جدًا، ولكن بهذه الأسعار يصبح الأمر تعجيزيًا وللحقيقة، سيكون تبريرًا لمن يزورون الكتب، وإذا كانت الدولة تريد ملاحقة مزوري الكتب، عليها أولًا أن تهتم فعلًا بصناعة الكتاب وتدعمها، نعرف أن هناك ظروفًا اقتصادية وقرارات صعبة ووضع مأزوم، ولكن الدولة أصلًا تنظر للقراءة وللثقافة باعتبارها رفاهية، وتضع المعرفة في ذيل اهتماماتها”.أما إسلام عبد الواحد، طالب بكلية الهندسة جامعة الزقازيق، يرى أن ارتفاع سعر الكتاب الورقي في مصر طبيعي بالنظر إلى الظروف الاقتصادية العامة، حيث إن كل الصناعات تضررت وليس الكتاب وحده، متابعًا: “لا يجب أن ننتظر دعمًا من الدولة للكتاب، الدولة تتجه لرفع الدعم عن أمور أساسية كالبنزين والسولار والسلع الغذائية مثلًا وهي أساسيات في كل بيت مصري، أما القراءة فلا ينشغل بها إلا فئة معينة، والدولة لا تفكر في هذه الفئة، وبالتالي فإن ما يحدث مفهوم ولا مفاجأة بخصوصه. في نفس الوقت لا أبرر لمزوري الكتاب فعلتهم، هذا نصب واحتيال، وإهدار لحقوق الكاتب والناشر وتقويض للصناعة كلها”.
ضفة ثالثة