مهرجان كان يفتتح بفيلم لمخرج إيراني
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ افتتح مهرجان كان مساء الثلاثاء بفيلم “الجميع يعلم” للمخرج الإيراني أصغر فرهادي. صور الفيلم بالإسبانية وهو من بطولة الثنائي الرائع بينيلوبي كروز وخافيير بارديم، وهو فيلم تشويق نفسي يحمل رسائل عديدة أولها في براعة التصوير وآخرها في الانفتاح على الآخر.افتتح فيلم “الجميع يعلم” للمخرج الإيراني الكبير أصغر فرهادي الحائز على جائزتي أوسكار (عن فيلميه “انفصال” و”البائع”)، النسخة الـ 71 لمهرجان كان السينمائي. وفي الوقت الذي كان يعرض فيه الفيلم مساء الثلاثاء 8 أيار/مايو، وسط تذمر الصحافيين من عدم تمكينهم من مشاهدته قبل العرض العالمي الأول، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015 وأصدر أمرا رئاسيا بإعادة العمل بالعقوبات الأمريكية على طهران، في خطوة يخشى أن تكون لها تداعياتها على الجمهورية الإسلامية والعلاقات الأمريكية الأوروبية.عندما فاز فرهادي بأوسكار عن فيلم “البائع” عام 2017، لم يذهب إلى لوس أنجلس ليتسلمها احتجاجا على مرسوم ترامب الذي يمنع الإيرانيين (وحاملي بعض الجنسيات الأخرى) من دخول الولايات المتحدة. فقال لفرانس24 إنه اعتبر هذا الموقف الأمريكي من منطق الإقصاء والتمييز “في مختلف أنحاء العالم وحتى في بلادي، هنالك أشخاص لديهم هذا النوع من التفكير فيحكمون على الناس على أساس مظهرهم وهذا يشكل مشكلا بالنسبة لي إن كان ذلك صادرا عن الرئيس الأمريكي أو عن أحد مواطني”.فهل تنجح السينما حيث فشلت السياسة، وترمم شيئا من إنسانيتنا المتلاشية وتكرس الانفتاح على الآخر؟ فيلم الافتتاح هذا العام مرشح أيضا لجائزة السعفة الذهبية، وهذه ليست المرة الأولى التي يشارك فيها الفيلم الافتتاحي في المسابقة الرسمية، لكن الأمر نادر فقد كان الحال كذلك مثلا مع “مملكة القمر البازغ” للأمريكي ويس أندرسون عام 2012 و”الغريزة الأساسية” للهولندي بول فيرهوفن عام 1992.لكن لا بد من الرجوع إلى العام 2004 لإيجاد فيلم افتتاح لم يكن لا بالفرنسية ولا بالإنكليزية هو الفيلم الطويل (التربية السيئة) للإسباني بيدرو ألمودوفار. فمهرجان كان هذا العام منفتح بشكل كبير على مختلف الثقافات، لا سيما العربية والإيرانية، ضمن فعاليات اعتادت حضورا ساحقا للصناعات السينمائية الكبرى، الأوروبية والأمريكية خصوصا. فيشارك فرهادي في هذا السباق أيضا مواطنه المخرج جعفر بناهي الممنوع من تصوير أفلام في بلاده ومن مغادرتها بعد دعمه الاحتجاجات التي شهدتها الجمهورية الإسلامية في 2009، بفيلم “ثلاثة وجوه”. وصرح أصغر فرهادي لفرانس24 “هناك أفلام أخرى في أقسام أخرى، أفلام قصيرة، أفلام إيرانية أخرجت خارج البلاد. هذه إشارة إلى أن السينما الإيرانية لا تزال حية وتجدد نفسها”. بعد فيلم “الماضي الذي صور بالفرنسية وفي فرنسا”، “الجميع يعلم” هو الفيلم الثاني الذي يصوره فرهادي خارج بلاده، لكنه يواصل في الإنتاج لحساب التلفزيون الإيراني… في حين لا يمكن لمواطنه بناهي المجيء إلى كان، فنجح فرهادي نوعا ما في تفادي الرقابة. لكنه يوضح لفرانس24 أنه يظل في كل الأفلام والمسرحيات التي أنتجها مركزا على المجتمع الإيراني ويقول “بعض المخرجين يركزون على النظام وعلى انتقاد النظام. إنهما طريقتان مختلفتان لصنع السينما. ربما أن انتقاد المجتمع يمكن أكثر من التعبير عن ما تريد ويمكنك من عرض فيلمك”.وقال المندوب العام لمهرجان كان تيري فريمو بالنسبة إلى فيلم الافتتاح “هو لفرهادي ومن بطولة بارديم وكروز، هكذا إذا فالافتتاح ليس فرنسيا ولا أمريكيا والنجوم ليسوا أنجلوساكسونيين… يوجد العديد من النجوم في آسيا وأنحاء أخرى من العالم وهذا العام لدينا ثنائي أوروبي”.وأعرب فرهادي لفرانس24 عن فرحته بعرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية فيقول “يعني لي ذلك الكثير لأنه فيلم أنجزته بلغة وثقافة أخريين. لذلك فإن كيفية تلقيه تشغلني أكثر من أفلامي الأخرى”. وحيرة فرهادي كانت صائبة فهو يسرد حادثة في إحدى قرى ريوخا الإسبانية تطرأ خلال حفل زفاف وتقلب أحداث الفيلم رأسا على عقب. وهذه المغامرة داخل عائلة إسبانية بتقاليدها المحلية الدقيقة تضمنت إعجابا مطلقا للمخرج بهذه الثقافة إلى درجة أن المسافة بينه وبين شخصياته وحبكته لم تكن كافية أحيانا لترتقي بالفيلم إلى رسالته العالمية المنشودة، فظلت في مستوى تمرين إشادة بجمال الطبيعة والعادات الإسبانية.وألهب الثنائي بينيلوب كروز وخافيير بارديم البساط الأحمر، فبينيلوبي كروز كانت من بين النجوم الأكثر ترقبا في الكروازيت وهي ملهمة لكبار السينمائيين بجمالها اللاتيني الفائق، وتركت أثرا بالغا في المشاهدين منذ لعبها دورها الأول في السادسة عشرة من العمر في فيلم “خامون خامون” (لحم الخنزير) الذي أثبت موهبتها. وكاميرا فرهادي “قدست” ربما إلى حد المبالغة أيقونة التمثيل كروز، إلى درجة أننا تساءلنا عند أحد المشاهد الذي يظهر فيه لحم خنزير مقدد على الطاولة إذا كان المخرج يشير إلى مراجعه السينمائية! ففرهادي الذي يتقن التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وقع شيئا ما في نوع من الفولكلور بين رقص الفلامنكو الملتهب وحقول الكروم المشمسة وأخلاق الإسبانيين الذين نقل عنهم بعض الأفكار السطحية على غرار إدمان الخمر والنزعة الذكورية…. و”خامون خامون” (1992) للمخرج الإسباني الراحل بيغاس لونا ومثلت فيه كروز إلى جانب بارديم أيضا ثم تكررت تجربة الثنائي عدة مرات لعبا فيها سويا ويجمعهم فرهادي للمرة السادسة. ووقع بارديم وكروز في شراك الحب منذ تصوير فيلم “فيكي كريستينا برشلونة” للأمريكي وودي آلن عام 2008، فأصبحا شريكين في الحياة كما في السينما. والزوجان معتادان على حضور دورات مهرجان كان، فنالت كروز في مهرجان كان عام 2006 جائزة التمثيل بالتساوي مع جميع ممثلات فيلم “العودة” (فولفر) لألمودوفار في حين أحرز بارديم جائزة أفضل ممثل عام 2010 عن دوره في “جميل” للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إينياريتو. يروي فيلم “الجميع يعلم” قصة لورا التي تعيش مع زوجها وأبنائها في بيونس إيرس لكنها تعود مع عائلتها إلى مسقط رأسها في إسبانيا لتحضر حفل زفاف، وفي أعقاب الحفل تختطف ابنتها. اختفاء “إيرين” ينخر تدريجيا العلاقات داخل العائلة إلى درجة أن الشكوك تطال حتى أفرادها، فتطفح الأسرار القديمة وخصوصا الجروح فتصفية الحسابات، فبين حب مضى وحب سيأتي، وبين الخيانات والغيرة. هل اختتطفها باكو (خافيير بارديم)؟ الرجل الذي تركته لتسافر إلى الأرجنتين؟ هل كانت العملية “إخراجا” نظمته والدتها لورا لاستعادة أموالها بعد تفريطها في أراضيها؟ أم كان حتى أليخاندرو، والد المراهقة وزوج لورا، بسبب إفلاسه وبطالته المزمنة؟ … اتسعت بؤرة كل الهواجس وبلغت الإثارة النفسية أوجها في أكثر من مرة، لكن كان ذلك مفضوحا في نهاية الأمر إذ بانت للمشاهد الخيوط الغليظة للغز، لم يكن في الآخر تشويقا حقيقيا بل سببا “مبتكرا” لتخيل ما يدور داخل عش الزوجية ثم العائلة ثم المجتمع… “الجميع علم” خلال الفيلم من الفاعل وكيف ستنتهي الحكاية!”الجميع يعلم” هو ثامن فيلم طويل لفرهادي الذي غالبا ما يشارك في مهرجان كان. وقد نال المخرج ومؤلف السيناريو الإيراني المعروف بأسلوبه الواقعي جائزة أفضل سيناريو في كان عن فيلمه “البائع” سنة 2016، وعن نفس الفيلم أحرز شهاب حسيني جائزة أفضل ممثل. يعتبر فرهادي، صاحب الأوسكار والسيزار والدب الذهبي، من أبرع السينمائيين الإيرانيين. وقوة فرهادي في إدارة ممثلين وتصوير أفلام بلغة أجنبية مذهلة. فكانت أحداث فيلمه “الماضي” قد دارت في فرنسا مع الممثلة برينيس بيجو والممثل الفرنسي من أصل جزائري طاهر رحيمي. وكان فيلم “الماضي” قد شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2013، ونالت بيجو في تلك النسخة جائزة أفضل ممثلة.ويقول خافيير بارديم “أذهلتني القصة وأحببت العوالم التي تحملها بين السطور، لا سيما العلاقت بين الناس.. وكيف يعود الماضي ليؤثر في سير حاضرك”. فعلى غرار “انفصال” و”الماضي” و”البائع”، يستمر فرهادي في “الجميع يعلم” في تشريح العلاقات الزوجية، والعلاقات داخل الأسرة، التي صار معلما في سبر طياتها. فنجد مرة أخرى الأسرار والأزمات والغيرة والعنف المسكوت عنه.. ثروات أضيعت في القمار، وبغض قديم، وحب غابر، وأب يدعو الله لإرجاع ابنته. وهاهم أفراد الأسرة والأصدقاء يسخرون من إيمانه بأن “الله سيرجعها”… رحلة إسبانية شكلت أيضا فرصة للتساؤل عن معنى الأبوة وعن جدوى الإيمان.تقول كروز من جانبها “جميعنا نحمل حقيبة مليئة بالأحاسيس وتجارب الحياة وصدماتها، بعضنا أكثر من غيره. وهو هنا حال أم تعيش مع سر. وتضعها الحياة في موقف صعب جدا… أحد أصعب الأمور التي يمكن أن تحصل لأم. ولذلك بالتحديد كانت هذه الشخصية من أصعب ما تقمصت حتى الآن”. صحيح أن دورها كان صعبا وجميلا، لكنها بالغت بفيض الأحاسيس الجياشة لأم منكوبة… فيبقى ألمودوفار أبرع مخرج عرف خلق التوازن بين الروح الإسبانية الملانكولية والأداء الدقيق للتعبير عنها.هل أراد مهرجان كان التدارك وتتويج فرهادي المتوج في المهرجانات الأخرى بالسعفة الذهبية؟ للأسف جاء مهرجان كان متأخرا وأفلتت منه رائعاته السابقة… المهرجان متأخر لكن فرهادي جاء في الوقت المناسب ليرد بالفن وبرسالة الانفتاح على المجرى المخيف الذي يسير فيه عالمنا الذي تخيم عليه تهديدات القوى الكبرى.
فرانس24/