البحر و رمزيته في روايات حنا مينة
سوزان سديف الأسعد
شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_ ولد الأديب والروائي والكاتب الصحفي حنا مينة في مدينة اللاذقية في احدى قرى لواء اسكندرون 1924 م , بعد ثلاث بنات ,كانت الوالدة تبتهل إلى الله أن يكون مولودها القادم ذكراً لكن هذا الطفل ولد معتلا ضعيف الصحة إلى درجة الخطر , وكبر شاء القدر أن يكون له شأن عظيم بين الأدباء .وعندما خطا خطواته الأولى نحو الشباب ترك اللاذقية وتوجه الى بيروت , ثم عاد إلى سوريا حيث كانت وجهته دمشق وليس اللاذقية فأوروبا والصين –لاحقاً– وقد عانى الفقر والغربة والحرمان وكل ذلك ترك أثره في كتاباته . عمل في بداية حياته في مهن مختلفة إلى أن بدأ يزود صحف سوريا ولبنان بالأخبار والمقالات وبعدها بدأ بكتابة القصص القصيرة كما كتب مسلسلات باللغة العامية .من مؤلفاته (المصابيح الزرق ) وكانت أولى رواياته و(الثلج يأتي من النافذة ) و (حكاية بحار ) و (نهاية رجل شجاع ) و (النجوم تحاكي القمر ) و (حارة الشحادين ) و (الشراع والعاصفة ) وغيرها , توفي في عام 21 آب 2018.
دراسة البحر في روايات حنا مينة :
يعد الروائي حنا مينة كاتبا متميزا في مجال الرواية , وفي معظم رواياته كان البحر دائماً مصدر إلهامه حتى إن معظم أعماله مبللة بمياه موجه الصاخب وتتميز روايات حنا مينة بتنوعها الشديد واتساع آفاقها وموضوعاتها ورحابة دلالاتها فهي روايات البطولة والصراع والنضال ضد الاستعمار والبرجوازية وضد الظلم بأشكاله كافة وهي روايات للدفاع عن الفقراء والمسحوقين , وجسد مينة البحر في رواياته وغناه , وصور أبطاله والبحارة وصور صمودهم وتحديهم للبحر وأنوائه وعواصفه وجبروته , صور كيف كان البحر ينتصر عليهم مرة ويهزمونه مرات .
يقول مينة عن البحر الذي عشقة :
“إن البحر كان دائما مصدر إلهامي حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب …. إذا نادوا يابحر ! أهبت أنا ،البحر أنا , فيه ولدت وفيه أرغب أن أموت ”
روايات حنا مينة غزيرة الدلالات والمضامين بشخصياتها وأبطالها , بنسائها وأطفالها , فرواية (الشراع والعاصفة ) تعد رواية البحر والبحارة بامتياز , هي قصة رجال البحر الذين يعملون لينتصروا على عواصف الطبيعة القاسية هي قصة العاصفة الاستعمارية التي تكافح البلاد ضدها وبطل الرواية “الطروسي” هو رمز الرجولة والصمود أمام العواصف, رمز العاشق رمز النضال ضد الفرنسيين إذاً هي حكاية بطل وحكاية وطن أثناء الحرب العالمية الثانية , حكاية بحار ينتظر عودته إلى البحر وحكاية وطن ينتظر حريته .لقد صور حنا مينة ببراعة مدهشة أثر هذه الحرب وماتركته من عواصف في بلاد يحتلها الفرنسيون ولكنها أولا قصة رجال البحر , قصة الانتصار على عوامل الطبيعة القاسية , قصة الإرادة البشرية والمغامرة .
البحر كمكان مفتوح يجسد أحلام أبطاله ويجسد همومهم وطموحاتهم وقد دخل البحر كمكان في تولدات التغيير والتحول الاجتماعي وعدّ مصدراً أساسياًمن مصادر عمل الروائي حين يتم الانسجام والتفاعل الجميل بين الإنسان والمكان فإن هذا الانسجام يؤسس وجداناً وشعوراً ويشعل فتيلاً من الحب والتعاضد بينهما ففي رواية (حكاية بحار)
يقول سعيد حزوم:”أنا ابن البحر بين أحضانه أحسن كأني بين أحضان أبي أعرف أنه يحميني وأعرف أنه يريدني وأعرف أيضا أنه يلاعبني ”
والبحر بوصفه مكاناً يقدم نعمة الحياة ويفتح أبواب العالم ونوافذه ليعرف الإنسان مايجهله هو المكان العنيد الجبار , الكريم الذي يبسط موائده للضيافة لكن البحر غير صادق في عواطفه ووجدانه هو كريم وسخي لكنه غدار وخائن .
يقول سعيد حزوم :”شكرا للبحر , هذا الصديق الطيب ويقول أيضاً البحر سيد الوجود , إنه أخي ولن يغدر بي …… إذا متّ فادفني في البحر ”
كما استطاع سعيد حزوم أن يطوع هذا المكان ويسيطر عليه ويطارد أمواجه ويقتحم عواصفه ويهبط بكل قوة إلى لجته ويصارع أخطر عواصفه ويقدم صدره العاري الأسمر درعاً للحياة فالبحر هو رمز ارتياد المجهول ومعانقة الشهادة.
يقول سعيد حزوم :”أنا لم أمت في تلك العاصفة أيها البحر , ضاجعت الموت على فراشك .. صارعت الأمواج ,روحاً متوحشة تعرف أنه لاخيار ,المقاومة أو القاع , وطالت المقاومة , وطال العذاب , لم أيأس من النجاة , الغضب ألهب نفسي , صيّرها كتلة عناد وفي عراك شرس , بين غضب البحر وغضب الإنسان انتصر غضبي ”
إضافةً إلى أن البحر مصدر للرزق , أصبح مكاناً يلوذ به الإنسان هروباً من الأزمات العاطفية أيضاً , وقد كشفت مفردات رواية (ثلاثية البحر ) في البحر عن دلالات كثيرة كالخوف والحزن والقلق وسيطرة البحر العظيم بمائه على كل شيء وفي مفردة الصمت عمّق الفزع والهيبة فيما يلتف الليل ليوحي بالدخول في عالم مجهول ومصير غير معروف ورغم أنه مكان للخوف هو مكان للفرح والقوة والإرادة الصلبة ويقول سعيد حزوم :”البحر الجبار الأكبر يا سعيد اسأل والدك غدا … لكن البحر –عدم المؤاخذة- ليس جبارا أكثر من الإنسان والدي كان يقول: لا شيء كالإنسان لا مخلوق أقوى منه ولا كائن أعظم منه ”
عندما ننظر في نصوص حنا مينة , نجد أن الكاتب زاوج بين الصورة المرجعية في الواقع المادي والصورة الذهنية وأعطى البحر تلك العلاقة والمكان الذي يلجأ إليه الإنسان حين يفقد الأمل في الحياة أو لعدم قدرته على مواجهة واقعه الذي لا يرتضيه , إنه فاقد لمستقبله والمجتمع غير قادر على إيجاد حل و الاحتضان لا يتم إلا بالبحر وهو الوسيلة المثلى وهذا يؤكد عمق الهوة الموجودة في التعلق بالمجهول.
إن البحر فضاء واسع , خالد بسحره وجاذبيته والبحر هو الحياة وهو الحرية والبحر يتطلب الشجاعة ومن يخوض في غماره لا يخشى شيئاً, يقول سعيد حزوم :” البحر هو المغامرة الكبرى … من ينزل البحر عليه أن يكون للبحر ”
وقد أضحى البحر سبباً في شقاء الإنسان وفيه فقد أعز الناس إليه , تقول أم سعيد التي فقدت زوجها صالح حزوم في البحر وتخاف أن من فقدان ابنها سعيد أيضاً
” البحر غدار , البحر عدو ”
وكانت تحدث ابنها وقد تراءى لها البحر بصورة غريبة :”تراءى لها البحر غولاً صار أسود , تضاعف رعبها منه , لن تسلم فلذة كبدها إلى هذا الشيطان ”
استعرض حنا مينة حياة البحر والبحارة واستعرض موجودات البحر , رسم صوراً أخاذة للأمواج والعواصف والأنواء , استخدم الأسطورة ليذكرنا بالعالم الأسطوري للبحر وما يتضمنه من حكايات عن عرائس البحر وكشف لنا بجلاء ووضوح وصوّر الشخصية الإنسانية وتفردها بالبطولة والمغامرة والحرية , فالحياة الخطرة فوق بحر هائج مضطرب العواصف والأمواج جعلت رجل البحر سيد مصيره , إن صراع البحارة مع البحر هو صراع من أجل الحرية والانطلاق من قيود الروح والجسد .
يتمتع العنصر المائي عند حنا مينة بطاقة خلاّقة تمنحه القدرة على إعادة إحياء الكون والإنسان بصورة دورية طالما لديه وجهان , وجه مميت ووجه محيي .
ورغم أن البحر أكثر ابتعاداً عن احتضان الوجود البشري إلا أنه يحوي حياة كاملة بل هي أجمل من حياتنا وهي إحدى الخاصيات الفريدة والجميلة للبحر , يقول سعيد حزوم :”في البحر جبال ووديان , أشجار وغابات ,سهول وتلال , نباتات وأعشاب , وفيه مخلوقات من كل الأنواع ”
ويقول سعيد عن البحر الذي يختزن عواصفه للشتاء :”العواصف ثورة مدمرة تكتسح الحواضر وتحطّم المراكب وتهزأ بالبحارة وبانتظار ذلك يحيا البحر قانونه , ويجدد شبابه ”
كل هذه العبارات تدل على مدى تعلق سعيد حزوم وعشقه للبحر , فهو الأب والصديق والأخ والجد والإله…..
لقد حمل البحر في هذه الروايات دلالات كثيرة جداً منها الحياة الاقتصادية فهو الذي يطعم البحارة والناس من بطنه , فيه كل مظاهر الحياة , فيه الرهبة والخوف , فيه التيه والضياع بسبب اتساعه الهائل وإن تبدل الفصول عليه والليل والنهار جعل الكاتب يغير ويعطي صورا عديدة له وبالتالي يعطي انطباعات كثيرة .
والبحر له إيهامه الكبير ومخادعته , له اتساعه ورحابته القصوى ,آفاقه المفتوحة وامتداداً لرؤية لايحجبها شيء وإن التأمل يترافق مع رحابته القصوى وفيه مناخ شامل للتأمل والسكينة الداخلية أو المقاومة والإرادة والاندفاع .
رأينا ظاهره يحمل العواصف والأنواء ويدل على الخوف , ورأينا باطنه يحوي الطعام والحياة لكنه يدل على الموت أو إعادة الانبعاث والتجدد.
كان البحر مجالاً خصباً للتفسيرات الأدبية والاسطورية في أدب البحر وماتضمنه من حكايات عن عرائس البحر وجنيات البحر ومن تصوير اسطوري لهذا العالم , فجمعت الروايات بين الاسطورية والواقعية والرومانسية , كما ان عرائس البحر في الرواية تحمل أيضا الموت والخلاص بالوقت نفسه وتشكل الأساس لفن الملحمة الذي مزج بين الخيال والواقع , إضافة الى الصورة الواقعية والتي تمثل إحدى الخصائص الفريدة للبحر وهي الإيهام وزوغان الأبصار , فعندما يشتد التعب والإعياء على البحار وينظر بعيداً في البحر تتراءى له صور عديدة وكلها سراب وهي خادعة كما يخدع السراب البدوي في الصحراء فيراه ماء .
وهنا وظف الكاتب رؤية سعيد لعروس البحر , يقول سعيد :” أنا أعشق عروس البحر , لكنها غير العروس التي رأسها امرأة وذيلها سمكة …إنها امرأة حقيقية وستخرج يوماً من البحر ”
حنا مينة , هذا الكاتب العظيم الذي يعدّ من رواد البحر في الأدب العربي جعل من البحر هوية له واستعرض حياة البحر والبحارة ورسم صوراً أخاذة للأمواج والعواصف وكان واقعياً إلى أبعد الحدود , يصور حركة الواقع في ثورتها الدائمة بكل مافيها من تفصيلات دقيقة.
_…شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_