تطرفٌ وانقسام هيكلي داخل جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر
أنيت رانكو– محمد ياغي
شبكة المدار الإعلامية الأوربية…_في 20 شباط/فبراير، نفّذت مصر حكم الإعدام بحق تسعةٍ من أفراد “الإخوان المسلمين” بعد إدانتهم بالتورط في اغتيال النائب العام المصري هشام بركات. ومع أن قيادات “الإخوان المسلمين” المعروفة نفت ضلوعها في الجريمة، إلا أنها لم تعد تسيطر على أعضاء الجماعة بالصرامة المعهودة. ذلك أن الجماعة انقسمت إلى تكتّلين في خضم القمع المتواصل الذي تتعرض له منذ الإطاحة بحكومة الرئيس محمد مرسي التابعة لها عام 2013، ولكل تكتل هيكليته التنظيمية المستقلة وآراؤه المختلفة حول كيفية التعامل مع الأوضاع الراهنة. إذ يعتقد أحدهما بضرورة أن تجابه الجماعة حكومة عبد الفتاح السيسي بالطرق السلمية، بينما يطالب الآخر بمسارٍ ثوري يشرّع العنف إنما بأسلوب مغاير عن أسلوب سفك الدماء الجهادي الذي اجتاح مصر في السنوات الأخيرة – مع العلم أن هذا المسار قد يلقى تجاوبًا أكبر من المواطنين الإسلاميين في البلاد.
أزمة هوية وانقسام هيكلي
بعد الإطاحة بمرسي وسط الاحتجاجات الشعبية والتدخلات العسكرية، شهدت جماعة “الإخوان المسلمين” إحدى أصعب حملات الاضطهاد منذ تأسيسها عام 1928، وكان الهدف من هذه الحملة تفكيك نظامها البيروقراطي وقاعدة شعبيتها الاجتماعية. فخلال عمليات التفريق القسري لمخيّمَي المتظاهرين في ميدانَي “رابعة” و”النهضة”، لقي 800 عضو من “الإخوان المسلمين” مصرعهم وزّج مذّاك نحو 40 ألف عضو ومناصر في السجن فيما المحاكمات الجماعية جارية والمحاكم تُصدر أحكامًا بالإعدام أو السجن المؤبد على أعدادٍ كبيرة من أفراد الجماعة، هذا وقد فرّ الكثيرون غيرهم من البلاد. وفي هذه الأثناء، أعلنت الدولة “جماعة الإخوان المسلمين” تنظيمًا إرهابيًا وصادرت أصولها وممتلكاتها، بما في ذلك 1225 جمعية خيرية و105 مدارس و83 شركة و43 مستشفى ومركزَين طبيين كبيرين.
وكان لهذه الاعتقالات وقعٌ وخيمٌ على الهيكلية التنظيمية للجماعة. إذ لم يَسْلَم من السجن بعد حملة القمع الجماعية إلا ستة من أعضاء مكتب الإرشاد البالغ عددهم واحد وعشرون عضوًا، وثلاثة منهم أصبحوا خارج البلاد. وكذلك لم يبقَ حرًا طليقًا حيًا يرزق إلا 14 من أصل 121 عضوًا من مجلس شورى الجماعة. وإذا بهذا الاستنزاف الذي طال مؤسسات الجماعة المركزية يُحدث انقسامات حادة داخلها – وهذه مشكلة غير مألوفة في منظمة اعتادت استنباط معظم قوتها من وحدتها وهيكليتها المتماسكة وولائها الداخلي.
ومع تعطّل مؤسسات “الإخوان المسلمين”، أصبحت التساؤلات عن الشخص الذي ستُسند إليه قيادة الجماعة محط جدال رئيسي أدّى إلى انبثاق كتلتين متخاصمتين تتنافسان على الأتباع وعلى الحق في استخدام اسم المنظمة. تشمل الكتلة الأولى ما تبقّى من قيادات الجماعة التي كانت موجودة قبل عام 2013 ويرأسها ثلاثة رجال هم المرشد العام بالتكليف محمود عزت – وهو مجهول المكان – والأمين العام محمود حسين المقيم في تركيا والأمين العام للتنظيم الدولي ابراهيم منير المقيم في لندن. ولا يزال أعضاء هذه الكتلة يعتبرون مكتب الإرشاد ومجلس الشورى الهيئتين الشرعيتين لجماعة الإخوان المسلمين، ويعتقدون أنه من المستحيل إجراء انتخابات داخلية جديدة في ظل البيئة الأمنية الراهنة في مصر. وربما أهم ما في هذه الكتلة هو أنها تسيطر على الأصول الخارجية للمنظمة.
أما الكتلة الثانية فأنشأت هيكلية تنظيمية جديدة في عام 2014 ورسّختها في عام 2016. وانشقّت هذه الكتلة في البداية تحت إمرة محمد كمال (الذي قُتل لاحقًا في عام 2016) ومحمد طه وهدان (الذي سُجن لاحقًا عام 2015) وعلي بطيخ (المقيم في تركيا منذ عام 2015). ويستند أعضاء هذه الكتلة إلى نظام الجماعة الداخلي ليجادلوا بأنه لا يحق لمكتب الإرشاد ومجلس الشورى الانعقاد والعمل إلا بحضور نصف مسؤوليهم على الأقل. وبما أن هذا الأمر بات مستحيلاً بعد حملة القمع الجماعية ضد “الإخوان”، أعلنت هذه الكتلة عن انحلال الهيئتين القديمتين وأجرت داخل مصر انتخابات بدأت من المستويات الدنيا صعودًا من أجل انتخاب هيئتين جديدتين عام 2016. كما أقامت مكتبًا لها في تركيا لتسيير شؤون الجماعة خارج مصر، ويرأس المكتب المدعو أحمد عبد الرحمن.
ومنذ حصول هذا الانقسام وكل كتلةٍ تندد مرارًا بالكتلة الأخرى باعتبارها غير شرعية وتصرّح أن كبار مسؤوليها لم يعودوا من “الإخوان”، حتى أنه بات لكل كتلة ناطقٌ رسمي خاص وموقع إلكتروني خاص يدّعي أنه الممثل الرسمي للجماعة (“ikhwanonline.com” و”ikhwanonline.info”). مع ذلك، تعتبر كلتاهما أن مرسي هو الرئيس الشرعي لمصر وأن محمد بديع الموجود حاليًا في السجن هو المرشد العام للجماعة.
ميول التطرف
يتمحور الانقسام الإيديولوجي داخل جماعة “الإخوان المسلمين” حول مسألة استخدام العنف ضد حكومة السيسي. فالكتلة التي يرأسها عزّت دعت أعضاءها إلى السلمية مشددةً على أن الجماعة تغلبت على حملات قمع عديدة على مر تاريخها الطويل عبر الالتزام باستراتيجيتها المعروفة، وهي اتباع نهج ثوري لاعنفي لإحداث تغيير تدريجي من الأسفل عبر إصلاح الأفراد أولاً ومن ثم المجتمع، وصولاً إلى الهدف النهائي المتمثل بتغيير النظام السياسي. وعلى حد قول محمود حسين، “يجب أن يكون الصراع ضد الطغيان متأصلاً في السلمية المطلقة” حتى وإن تسبب ذلك “بالانتهاكات والاعتقالات والقتل والتعذيب والاضطهاد”. فضلاً عن ذلك، تسعى هذه الكتلة إلى إعادة تكوين ثقافة “المحنة” الفرعية أو الشعور الجماعي بالاستضعاف، وهو ما ساعد “الإخوان المسلمين” في السيطرة على أعضائهم وتهميش المنشقين العنيفين في الماضي (خلال حملة القمع التي قامت بها مثلاً حكومة عبد الناصر في خمسينات وستينات القرن العشرين).
بيد أن الكتلة الثانية ابتعدت عن هذا التقليد وسعت إلى إظهار “الإخوان المسلمين” في حلة جديدة كحركة ثورية – حركة مخوّلة لاستخدام التكتيكات العنيفة ضد حكومة السيسي إذا لزم الأمر. ولم تستند في تشريع العنف على مفهوم “التكفير” الجهادي الذي يصنّف المسلمين الآخرين بالكفار، إنما استخدمت مفهوم “القصاص” المذكور في الشريعة الإسلامية انطلاقًا من فتوى صدرت عام 2015 وأجازت استخدام العنف في حالات القمع الشديد التي يشهدها السياق المصري الاستثنائي. ويشار إلى أن هذه الفتوى موقعة من قبل 150 علّامة إسلامي، ومن بينهم شخصيات إقليمية بارزة تنتمي إلى “الإخوان المسلمين” (مثل أحمد الريسوني، وهو المؤسس الشريك لـ”حزب العدالة والتنمية” في المغرب، وعبد المجيد الزنداني، وهو مؤسس حزب “التجمع اليمني للإصلاح”)، وبعضهم الآخر دعاة وأساتذة جامعيون (أمثال حمدي أرسلان في تركيا وصلاح القادري في ماليزيا) أو ممثلون عن منظمات إسلامية موالية لجماعة “الإخوان المسلمين” (على غرار حسين حلاوة أمين عام “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث”).
ويمكن القول على وجه الخصوص إن مفهوم “القصاص” الذي تتبناه الكتلة المنشقة يجيز قتل عناصر الأمن التابعين للدولة والقضاة وحتى الصحفيين الذين يشاركون في التحريض ضد الجماعة. فأعضاء تلك الكتلة يعتبرون أنه يجب تطبيق القصاص على الفور وبأيديهم عوضًا عن اللجوء إلى القضاء.
وباستناد هذه الكتلة الثورية إلى مفهومَي القصاص والدفاع عن النفس اللذين ينسجمان أكثر مع عامة المسلمين، فإنها فتحت المجال أمام التعاون مع تنظيمات أخرى من أجل الوقوف بوجه الحكومة. وبالفعل، انبثقت عدة تنظيمات معارضة مسلحة عن الاندماج بين أعضاء من “الإخوان المسلمين” وشخصيات أخرى، ومنها “لجان المقاومة الشعبية” وحركة “العقاب الثوري” – وقد استهدفت هذه التنظيمات الجهاز الأمني والبنية التحتية المحلية (كشبكات الكهرباء). هذا وتوفّرت أدلة على عمليات مشتركة بين أعضاء الكتلة الثورية وتنظيمَي “حسم” و”لواء الثورة” المصّنفين على لائحة الإرهاب الأمريكية.
وعلاوةً على الدور الذي تؤديه إيديولوجيا الكتلة الثورية، تسهم لامركزية هيكليتها القيادية في تسهيل إقامة هذه الروابط، إذ لم يعد الأعضاء بحاجة إلى الحصول على إذن مسبق من القيادة للتحرك على الأرض طالما أن أعمالهم تتماشى مع الرؤية العامة للكتلة.
الخلاصة
من المستبعد أن يصل الصراع بين كتلتَي “الإخوان المسلمين” السلمية والثورية إلى حلٍ قريبًا. فالأولى تجادل أن الكتلة الثانية تنحرف عن تقاليد الجماعة السلمية وحريٌّ بها تشكيل منظمة جديدة خاصة بها، بينما تنهمك الكتلة الثورية في وضع نسخة جديدة عن إرث مؤسس “الإخوان المسلمين” حسن البنا، مسلّطةً الضوء على الفترات المسلحة في تاريخه وتاريخ الجماعة. والواقع أن هذه النظرة تؤثر على الكثير من “الإخوان” في ظل القمع الراهن الذي حرمهم من فرص عديدة في مجال العمل الاجتماعي والمعترك السياسي. ومن الممكن لهذا التأثير أن يطال مع الوقت تنظيمات أخرى وأفرادًا آخرين بما أن مسؤولي الجماعة يحرصون على تفادي المفاهيم الجهادية والتماس القبول الإيديولوجي من مصادر عامة أخرى. ولذلك يجدر بصانعي السياسات الدوليين أن يتنبهوا جيدًا إلى كيفية تبلور هذا الانقسام وإلى الطرف الذي يتعاطف معه الرأي العام المصري.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى