رئاسة دونالد طرمب: الخلفيات والدلالات ومستقبل السياسة الأمريكية
فواز جرجس
شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_شكل فوز دونالد طرمب، المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية، زلزالاً سياسياً أشبه بالتسونامي. هذا الزلزال الأمريكي يمكن أن يشكل لحظة فارقة ليس فقط في السياسيات الداخلية الأمريكية ولكن أيضاً في العلاقات الدولية؛ ففوز دونالد ترمب رجل الأعمال البارز الذي لا يملك أي خبرة سياسية ولم يقم بأي دور في العملية السياسية الأمريكية، هو نوع من الهزيمة للحزبين الرئيسين في الولايات، سواء الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه أو الحزب الديمقراطي. لا يمكن فهم سبب فوز دونالد ترمب إلا من خلال فهم تعقيدات المجتمع الأمريكي الداخلي وما يحدث في المجتمعات الغربية ككل. هذه «الظاهرة الشعبوية» هي حالة وجزء لا يتجزأ من صعود الهويات القاتلة الضيقة والمحلية في المجتمعات الغربية، بما فيها أمريكا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وفرنسا وغيرها تحت تأثير عولمة رأسمالية أدت إلى شرخ اجتماعي عميق في المجتمعات الأمريكية والأوروبية من جرّاء تراكم الثروة في أيدي نخبة ضيقة وتقليدية مقابل طبقة متوسطة وطبقة عاملة هما المتضرر الرئيسي منها. ومن هنا استطاع دونالد ترمب الشعبوي بامتياز، وكذلك بعض الشعبوين المتطرفين في الدول الأوروبية، استغلال هذا الشرخ الاجتماعي وحشد عدد كبير من أفراد الطبقة المتوسطة والعاملة من خلال مزيج من صراع الهويات والمظالم الاقتصادية قدرتها على حشد الجماهير الغربية وتحقيق إنجازات انتخابية مهمة جداً.
أولاً: بين ثورة ذوي الياقات البيض وصعود اليمين المتطرِّف
يمكن اختصار فوز دونالد ترمب والصعود الهائل لليمين المتطرِّف في الدول الأوروبية من خلال ما يمكن اعتباره الثورة المضادة لشرائح بيض تتخوف على مستقبلها ومستقبل أولادها؛ حيث إن تراكم الثروة في أيدي زمرة قليلة أدت إلى شرخ اجتماعي عميق في المجتمعات الغربية. إن قدرة هذه الزمرة الشعبوية، من أمثال ترمب وغيره من الأوروبيين، تكمن في احتضار السياسة (الفئات أو الشرائح الاجتماعية المهمشة)، التي تحاول أن تؤسس أحزاباً سياسية لانتزاع السلطة من النخب السياسية الحالية وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى اتساع هذا الشرخ. أمثال ترمب ليسوا حلفاء الطبقة المتوسطة بل أعداؤها؛ فأهداف ترمب وغيره من الشعبويين هي تحقيق المزيد من الثروة لا التوزيع العادل للثروة. إلا أن عبقريتهم السياسية تكمن في اجتذاب الشرائح البيض واستغلالها. اللافت للنظر والمؤلم في الوقت نفسه أنه بدلاً من أن تلجأ الفئات الاجتماعية من الطبقة الوسطى أو العاملة إلى تأليف أحزاب وقوى اجتماعية لتشكيل جماعات تحمي حقوقها، يتم التنازل عن هذه الحقوق لمصلحة السياسة ويصوت الشعب ضد مصالحه الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة خطاب الهويات. المعادلة المضحكة والمبكية في الوقت نفسه هي التالية: إن الطبقة العاملة والمتوسطة صوتتا لمصلحة رجل الأعمال الملياردير الذي لم يقم بأي خدمات اجتماعية أو يقدم أي مساعدة لهذه الطبقات. بل كان همه الوحيد خلال الأعوام الأربعين الماضية هو جمع الثروة على حساب العمال والفقراء والطبقات الوسطى وهؤلاء الناخبين البيض الذين يعانون اقتصادياً ويتخوفون على مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم. هناك تضارب بنيوي في تصويت هذه الشرائح لدونالد ترمب رجل الأعمال، وهذا يضع قناعاً على الصراع الاقتصادي الحقيقي ويحوِّله إلى تصويت لترامب الذي يبدو وكأنه أصبح الرمز المخلِّص، المسيح المنتظر، الذي يقدم إليهم خطاباً يطمئنهم فيه بأنه الرجل الكارزمي والقادر على مساعدتهم على التعامل مع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعانونها.
من الأهمية بمكان، أن يتفهم القارئ العربي، أن ما يحدث في أمريكا والمجتمعات الأوروبية علامات أزمة اجتماعية ناتجة من نظام العولمة والنظام الرأسمالي المتوحش الذي أدى إلى تهميش الملايين من الطبقات المتوسطة والعاملة. يمكّن الخطاب الشعبوي وخطاب الهويات من إلقاء اللوم على الآخر (المهاجر من الشريحة اللاتينية أو المكسيكي – المسلم – الأسود) وتحميله جريرة كل المعضلات، وتحويل الأنظار عن الصراع الاقتصادي والتركيز على صراع الهويات. هذا هو لب وجوهر الخطاب الهوياتي الذي تمكَّن من إحراز تقدم في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة. فوز طرمب يمكن أن يؤدي إلى تزايد هذه الظاهرة وانتشارها على نحوٍ أوسع عبر أوروبا وإلى ظهور زعماء شعبويين آخرين، فالزمرة الشعبوية تتعامل مع القضايا السياسية بخفة ورياء وكذب لتتمكن من استغلال هذه الظروف من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية مهمة جداً.
ثانياً: السياسة الخارجية
إذا كان من الصعب فك طلاسم الظاهرة الشعبوية التي أدت إلى فوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة فإنه من الصعب استيعاب التوجهات السياسية الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر بنقطة في غاية الأهمية، وهي أن ما يميِّز دونالد ترمب هو التناقضات في تصريحاته السياسية، بما فيها تصريحاته خلال حملته الرئاسية، فهو رجل التناقضات بامتياز. إن أي قراءة متأنية ودقيقة لتصريحاته الإعلامية تشير بوضوح إلى أنه يقول الشيء ثم يناقضه بعد قليل. من الصعب وضع الإصبع على النقاط الرئيسية لرؤيته للسياسات الداخلية والخارجية، ولكن من الممكن فهم رؤيته من خلال التركيز على الخطوط العريضة، وهذا يعني أنه علينا توخّي الحذر والتأكد من أن هذه الخطوط العريضة ستشكل محاور رئيسية وأن نتذكر أن أهم نقطة في تصريحاته ترديده المستمر خلال الحملة الانتخابية القول إن «America is First» (أمريكا أولاً).
قراءتي التحليلية تقول إن رؤية ترمب للولايات المتحدة والعالم تنطلق، أولاً، من خلال أمريكا البيضاء، الكلاسيكية الهوية، التي تتموضع في أنها دولة قائمة على الهوية البيضاء ولا تؤمن بتعدد الهويات. هوية دونالد ترمب لأمريكا هي أمريكا البيضاء التي لا تؤمن بالتعددية الثقافية والدينية، فهو ينظر إليها بعقارب الساعة التي تدور إلى الوراء (حقبة الخمسينيات والستينيات). لكن يتوقع أن تركز سياسة ترمب على محاور التبادل التجاري لناحية إعادة النظر في مختلف الاتفاقيات التي وقعتها أمريكا مع المكسيك وأمريكا اللاتينية، وهي القضايا التي أدت دوراً أساسياً وقادت أوباما إلى الرئاسة. الملايين التي صوتت لدونالد ترمب من الطبقة البيضاء العاملة عانت هذه الاتفاقيات وهي التي ساعدته على الحصول على الملايين من الأصوات، وهي السلاح الأنجح الذي أسهم في تدمير شعبية كلينتون في مناطق كانت تعتبر ديمقراطية مثل بنسلفانيا وميشيغن وويسكونسن.
الملف الثاني هو الهجرة؛ فلا نعرف تماماً إذا ما سيحاول طرمب بناء جدار على حدود المكسيك كما أدلى بتصريحاته، ولكن الهجرة تبقى موضوعاً مهماً في ظل وجود الملايين من المهاجرين من المكسيك وغيرهم، وهذه تؤذي مصالح الطبقة المتوسطة والبيضاء والعاملة.
الملف الثالث هو إلغاء كل ما قام به أوباما (الملفات الاجتماعية): إلغاء التأمين والطبابة (إرث أوباما). إذاً الأولوية لدونالد طرمب ستكون للسياسات الداخلية (الاقتصاد والعمالة ومحاولة دق إسفين في برنامج أوباما وتعيين قضاة في المحكمة العليا سيميلون لمصلحة الجمهوريين ودونالد ترمب) التي أدلى بها خلال ترشحه، لكنه ما لبث أن عدّل موقفه حيالها بعد انتخابه، ليعدِّل هذه القوانين بحيث يبقي قسماً منها.
هنا، لا بد من التوضيح أنه لا توجد رؤية واضحة لدى دونالد ترمب إزاء العلاقات الدولية والخارجية، فهو ليس لديه معرفة في العالم ولا يهتم كثيراً بمعرفة العالم – لا منطقياً ولا مفهومياً، فهو رجل أعمال اهتمامه الأول والأخير في الثروة. بالفعل هناك صعوبة خطيرة في محاولة فهم أو استشراف سياساته المستقبلية، إذ تشير تصريحاته الانتخابية إلى أنه لا ينتمي رئيسياً إلى أي من الحزبين، حيث كان ينتقد موقف الحزبين في العلاقات الدولية، إذ انتقد الحرب في العراق (ما قام به بوش والجمهوريون) كما انتقد أوباما لانسحابه من العراق وحمّله مسؤولية قيام تنظيم داعش.
يقول إنه يفقه أو يعرف عن تنظيم داعش أكثر كثيراً مما يعرفه الجنرالات الأمريكيون وأن لديه خطة لكسر شوكة داعش في 100 يوم. ولكنه يبقيها سراً ولا يبسطها على الطاولة. تصريحاته تشير بوضوح إلى أنه ينظر إلى العلاقات الدولية والسياسات الخارجية كرجل أعمال، ويمكن القول عنها إنها فجة. مقياسه اقتصادي حتى في العلاقة بحلفائه والاتحاد الأوروبي والأطلسي، فهو يقول إنه لن يقدم الحماية إلى حلفائه إلا إذا دفعوا ثمنها. وهذا ما يدل على عدسة رجل الأعمال الذي يختزل السياسات الدولية والخارجية بمصادر الدخل وقوة المال. تحول رؤيته الولايات المتحدة إلى إجير مرتزق تحمي من يدفع الفواتير. وهذه هي السياسة الخارجية التي تحولت إلى اقتصادية.
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط والوطن العربي، فلا شك في أن سياسته سلبية إلى درجة أنه ينظر إلى المنطقة والحضارة والشعوب على أنها مصدر خطر وإرهاب وقلق للولايات المتحدة. فهو يكره التعددية، وبالتالي صراع الهويات؛ هو يرى أن داعش جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، من هنا حديثه عن أنه سيمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وأنه سيمنع دخول المواطنين من دول تصدر الإرهاب. وهذا يؤدي إلى تداعيات خطيرة في العلاقات الأمريكية – العربية.
وفي السياسة الخارجية أيضاً لا يتردد ترمب في توجيه انتقاداته إلى كلا الحزبين، فهو لا يؤمن بتأدية الولايات المتحدة دور الشرطي العالمي، كما لا يؤمن بتغيير الأنظمة بالقوة؛ فإطاحة نظامَي صدام حسين والقذافي ساهمت في بروز جماعات إرهابية. وهو لا يرى بديـلاً من النظام في سورية وبالتالي يحبذ التعاون مع روسيا هناك. من هنا وجهة نظر ترمب أن على الولايات المتحدة أن لا تحاول تغيير الأنظمة بالقوة وأن تمارس هندسة سياسية للأنظمة في المجتمعات الأخرى. وهذا يعني أنها لن تحاول التدخل العسكري في سورية ولا الاستثمار العسكري. اللافت للنظر أن ترمب وجّه نقداً لاذعاً لسياسات أوباما الخارجية، وبخاصة حيال منطقة الشرق الأوسط، حيث صرح أن باراك أوباما هو شخصياً ساعد على قيام تنظيم داعش وصبّ الزيت على النار. ولكن إذا حاولنا فك طلاسم هذه التصريحات، فنرى أن سياسته ستكون أقرب إلى أوباما منها إلى بوش، وأن سياسته ستكون انطوائية وانعزالية. فالأولوية بالنسبة إليه هي السياسة الداخلية وتحسين الأوضاع وهذا يعني التركيز على الملفات الداخلية لا الإستراتيجية. هو شعبي بامتياز ويساري بامتياز ورؤيته أمريكا أولاً، وسياسته لن تتسم بالعزلة فقط، بل بعدم محبة العالم.
من هنا علينا أن نكون حذرين حين نحاول استشراف سياسات دونالد ترمب الخارجية، وبخاصة في ما يخص الوطن العربي، فهل سيترجم تصريحاته السياسية إلى أفعال أم أنها ستبقى حبراً على ورق، كما هي العادة في سجل الانتخابات الأمريكية. والنقطة الثانية لا نعرف تماماً من سيكون فريق عمله للسياسات الخارجية. ولكن يبدو أنه سيعتمد على نخبة من المحافظين المتشددين الذين هم أكثر تشدداً من فريق جورج دبليو بوش. ولكن يمكننا وضع النقاط على الحروف إزاء الخطوط العريضة لتوجهات دونالد ترمب. ففي الملف السوري يبدو أن تركيزه سيكون على محاربة الإرهاب، وبخاصة داعش والنصرة، والتعاون مع روسيا في محاصرة داعش. لا يبدو أنه مهتم كثيراً في الضغط العسكري على النظام السوري أو أنه يفكر في تغييره كما قال أكثر من مرة. فهو لا يؤمن بتغيير الأنظمة عسكرياً ويرى أن نظام الأسد هو بديل أفضل من داعش والكيانات الإسلامية. بل من المرجح أن تحاول إدارة ترمب عدم تسليح سوى المعارضة المعتدلة. وفي مقابلته مع صحيفة وول ستريت جورنال قبل انتخابه بيومين تحدث عن وقف إرسال المساعدات التي ترسلها أمريكا إلى قوى «المعارضة المعتدلة». ويبدو بالفعل أن المشهد الأمريكي سيشهد تغيراً في الموقف حيث سيكون هناك تعاون أمريكي – روسي لمواجهة الإرهاب وغض النظر عن نظام الأسد لأنه لا يشكل أولوية لإدارة الرئيس الجديد.
في المسرح العراقي، لا تبدو توجهات ترمب تختلف جذرياً عن توجهات إدارة أوباما في الاعتماد على الحشد الشعبي والقوى المحلية مع دعم الطيران العسكري الأمريكي ومراكز الاستخبارات، وستكون استمراراً للإستراتيجية الأمريكية الحالية وعدم الاستثمار العسكري والاستراتيجي في العراق. يبدو أن العلاقات الأمريكية – الإيرانية ستكون أكثر تعقيداً خلال الأسابيع القادمة؛ فالكل يعرف توجهات ترمب النارية تجاه إيران التي قالها أكثر من مرة، فهو يرى أن إيران تمثل خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة. وهو يركز على إيران وكوريا الشمالية كداعمين للإرهاب.
إن إلغاء الاتفاق النووي مع إيران سيؤدي إلى تصعيد عسكري ثم إلى المواجهة العسكرية، كما أنه اتفاق دولي، وإلغاؤه له تبعات دولية. من هنا سيكون ترمب متردداً في اتخاذ خطوة خطيرة كهذه. وربما تدخل روسيا على الخط وتحاول إيجاد مقاربة جديدة بين إيران والقيادة الأمريكية الجديدة. ولكن من المؤكد أن العلاقات بين الطرفين ستشهد تصعيداً كلامياً خطيراً خلال الأشهر القادمة، وبخاصة أنه ومستشاريه معروفون بمعاداتهم لإيران. باختصار العلاقات الإيرانية – الأمريكية يسودها الشك والخوف ولكن المصلحة المتبادلة للأطراف ستؤدي إلى الإبقاء على شعرة معاوية.
أما بالنسبة إلى الملف الإسرائيلي فهو كالعادة ولا يوجد الكثير من الاختلاف عليه عن النخبة الأمريكية، فترمب قال بوضوح إنه سيحاول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإنه ليس لديه مشكلة مع بناء المستوطنات، وهذا يعني أن الفلسطينيين سيواجهون 4 سنوات صعبة، حيث سيقوم اليمين في بناء المستوطنات ويحاول منع قيام دولة فلسطين ولن يكون هناك معارضة من الإدارة الأمريكية.
السؤال الرئيسي، هل بالفعل ستُترجَم هذه التصريحات إلى أفعال؟ رأيي أن ترمب سيكون متسامحاً مع إسرائيل وسيضغط على الفلسطينيين لدخول مفاوضات غير متكافئة معها.
كان ملف العلاقات الخليجية مع أوباما معقداً. ومن المعروف أن ترمب وفريق عمله ينظرون إلى السعودية على أنها تدعم الإرهاب وأنها المسؤول الأول عن قيام الإرهاب ونظرته إلى السعودية لا تختلف عن نظرته إلى ايران، وهو لا يراها حليفاً لأمريكا. ولكن علينا أن نكون حذرين؛ ففريق عمله سيركز على المصالح، وهو رجل أعمال، والخليج دول اقتصادية، هذا يعني التوجه الحذر وعدم الدخول في مشادّات كلامية.
أما الملف التركي – الأمريكي فيمكن أن يشهد انتقاله نوعية، حيث يرى فريق ترمب أن تركيا حليف استراتيجي ولها دور فاعل في حلف الأطلسي، وقال أحد الجنرالات المقربين من ترمب إن الولايات المتحدة يمكن أن تسلم بشأن تركيا؛ فالعلاقات بينهما شابها الخوف والحذر خلال السنتين الماضيين. ولكن السياسة الفجة لترمب ستقرب بين الدولتين، وهذا يعني أن التضحية قد تكون بالأكراد.
بصرف النظر إذا كان بوسعنا أن نستشرف توجهات سياسة دونالد ترمب الخارجية ونحدد معالمها بقوة، فمن الأفضل تحليلياً ونظرياً أن نركز على الثابت والمتحول في السياسات الأمريكية، لأن ذلك يساعد القارئ العربي على فهم دور المؤسسات والرئيس تحديداً في رسم وصياغة الاستراتيجيات الدولية. ومن الأهمية بمكان التشديد على أن السياسات والاستراتيجيات ترسمها المؤسسات. فما هو الثابت والمتحول في السياسة الأمريكية؟
الثابت أن إسرائيل ستبقى الطفل المدلل لدى الإدارات الأمريكية بمن فيها ترمب. السؤال الأول لدى إسرائيل ليس الدعم الأمريكي بل طبيعة الدعم. فكل الإدارات الأمريكية تتعهد أمن إسرائيل واستقرارها وحمايتها. ولا فرق بين إدارة جمهورية أو ديمقراطية بهذا الشأن. ولكن المتحول أنه سيزايد على كل ما سبقه من رؤساء، فسيعطيها شيكاً على بياض في بناء المستوطنات، كما يمكن أن ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
ثانياً: إن مواجهة الإرهاب ستبقى أولوية للقيادة الأمريكية بصرف النظر عن طبيعة هذه القيادة، وبخاصة أن مواجهة الإرهاب أصبحت من ملف الأمن القومي.
والثابت أيضاً أن ترمب سيتابع هذه السياسة وسيحاول الإيحاء للشعب الأمريكي بأنه متشبث جداً في هذا الشأن، ولكن من خلال الاعتماد على القوات المحلية في الشرق الأوسط وعلى سلاح الجو والقوات الخاصة ودور الاستخبارات في رصد بعض الفصائل المتطرفة وتعقبها.
الثابت كذلك أن ترمب لن يتدخل عسكرياً مباشرة، وهذا يعني أنه سوف سيكون استمراراً لإستراتيجية أوباما في مواجهة الإرهاب.
أما المتحول في توجهات ترمب، تصريحه أكثر من مرة أنه سيمنع سفر المسلمين إلى الولايات المتحدة وأنه سيمنع معظم الزوار الذين يأتون إلى الولايات المتحدة، وهذا يعني أنه ينظر إلى الإرهاب نظرة ثقافية، وهذا إذا ما تُرجم على أرض الواقع، فسيعني صداماً بين الولايات المتحدة والشعوب العربية، وسيسهم في تنمية الفصائل الإرهابية في الصدام والترويج ضد الولايات المتحدة.
من الصعب التكهن في إمكان ترجمة وعود ترمب الانتخابية إلى سياسات، ولكن يمكن أن تشكل تحولاً جذرياً في تعاطي الولايات المتحدة مع البلدان العربية.
ثالثاً: ما لا شك فيه أن العلاقة الجدلية بين الولايات المتحدة وإيران ستبقى علاقة تعتمد على الشك والخوف والمصلحة في وقت واحد وتجنّب الصدام العسكري المباشر. وتشير إلى أنه على الرغم من تصريحاته النارية وعدوانيته تجاه إيران فهو سيتجنب الصراع العسكري المباشر معها، ولكنه يمكن أن يقوم بخطوات استفزازية ترضي جمهوره اليميني من دون دفع تكاليف إستراتيجية خطيرة.
الثابت أن الولايات المتحدة ستحاول حماية مصادر النفط في الخليج وتبقي على أساطيلها وقواتها العسكرية في معظم الدول الخليجية، لأن هناك مصلحة إستراتيجية للولايات المتحدة في حماية مصادر الطاقة في العالم، ولأن منطقة الخليج هي في غاية الأهمية، إذ إن دول الخليج تستثمر مئات المليارات من الدولارات وتشتري السلاح الأمريكي. صحيح أن ترمب لا يحترم ولا يكترث بالخليج، ولكنه رجل أعمال وهو يدرك جيداً أن البلدان الخليجية العربية لديها قدرات مهمة جداً للاقتصاد الأمريكي. ولا أعتقد أن ترمب سيدخل في أي مواجهة كلامية علنية معها، لأن فريق عمله المحافظ يدرك جيداً حدود العلاقة بين الولايات المتحدة والخليج.
هناك أسئلة كثيرة طرحها ترمب إزاء العلاقات الدولية أثناء حملاته الانتخابية، حيث انتقد دول حلف شمال الأطلسي لعدم دفعها فواتيرها للحماية الأمريكية إضافة إلى دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية، إذ تتخوف أوروبا واليابان كذلك، وكوريا الجنوبية بخاصة، من أن رؤية ترمب للعالم تنبع من عدسة اقتصادية وأن كل شيء له ثمنه وأن من لا يدفع فاتورة الحماية الأمريكية لن يحصل عليها.
إعادة تثقيف الرئيس أو تعليمه بالعلاقة التاريخية مع الاتحاد السوفيتي
لدينا الكثير من الأسئلة التي من الصعب إيجاد أجوبة عنها، ولكن النقاط الرئيسية التي يمكن التركيز عليها هي أن أولويات ترمب هي داخلية، وأمريكية أولاً؛ وستركز توجهات سياسته الخارجية على الحصول على امتيازات اقتصادية وتجارية تساعده على تنفيذ وعوده.
كل شيء سيكون ثانوياً لوفاء ترمب بوعوده ومساعدة الطبقة البيضاء في المناطق الصناعية التي انتخبته، مثل بنسلفانيا وميشيغن ونورث كارولاينا…، وسياسته الخارجية ستكون امتداداً لسياسته الداخلية، ألا وهي الاقتصاد الاقتصاد الاقتصاد. ويبدو من التعيينات الأولى لدونالد طرمب أنه يحاول المزاوجة بين فريق عمل ينتمي إلى النخبة التقليدية في الحزب الجمهوري وفريق أيديولوجي أيضاً، وهذا التزاوج بين التقليدي والأيديولوجي سيؤدي إلى تناقضات خطيرة، ليس في خطاباته فقط بل في سياساته الخارجية أيضاً.
إنه رجل التناقضات بامتياز، وعلينا أن لا نستغرب إذا كان فريقه للسياسات الخارجية يتأرجح بين النهج التقليدي المحافظ والأيديولوجي المتطرف. ويبدو أن ترمب يعتمد على مراكز الأبحاث اليمينية المتشددة مثل Hazege الذي يعتمد عليه آلاف من ذوي المناصب ومن المؤسسات الحكومية. وهذا سيجعل ترمب يؤدي بعداً أيديولوجياً أكثر تشدداً من إدارة جورج بوش.
هذا التأرجح بين التقليدي والأيديولوجي ستنصب أولوياته الداخلية على ثلاثة ملفات مهمة:
- التأمين الصحي – إيجاد فرص عمل للطبقة البيضاء.
- إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية المبرمة.
- الهجرة.
إننا نشهد تقهقراً وتراجعاً للقوة الأمريكية بالفعل. وإذا كان انتخاب ترمب يشير إلى شيء، فإلى أن أمريكا لم تعد راغبة أو قادرة على قيادة النظام العالمي كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 2003. ويتشكل نظام دولي جديد أمام أعيننا، لا نعرف طبيعته، ويفتقر إلى قاعدة صلبة/قيادة موحدة هي الولايات المتحدة. انتخاب ترمب دليل على تراجع القوة الأمريكية، وعلى أن الشعب الأمريكي لم تعد لديه الرغبة والقدرة والإرادة والشهية على قيادة النظام الدولي. سياسة دونالد ترمب قد تشكل انطواءً وتراجعاً. حيث إن حلفاء الولايات المتحدة في سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية يتخوفون. حتى إن أوروبا تدعو إلى إنشاء جيش موحد لحماية مناطقها، وهذه دعوة تظهر أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. حيث تقول بعض القيادات الأوروبية إنه يجب عدم الاعتماد على مظلة الحماية الأمريكية. وهذا يعني أننا يمكن أن نشهد بداية تراجعات في العلاقات بين أمريكا وأوروبا. كما أن صعود القوى الأخرى مثل روسيا والصين والهند يدل على بداية نظام جديد أما بالنسبة إلى العرب، فهل هناك إستراتيجية عربية وهل يمكن أخذ العبر وإعادة بناء العلاقات الإقليمية على أسس سليمة، ووقف الحرب الأهلية العربية، وبناء الدولة الوطنية على أسس جديدة، وإعادة اللحمة العربية. كل هذه الأسئلة أهم كثيراً من محاولة فك طلاسم سياسة ترمب الخارجية. فالمستقبل العربي يعتمد على القدرات العربية أولاً وأخيراً
مركز دراسات الوحدة العربية