أصابهم السحر منذ 3 قرون واكتشف انه مرض في عصرنا الحالي

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_وصف واحد من الأشخاص الذين عاصروا ما حدث للطفلة بيتي باريس وابنة خالها أبيجايل ويليامز، أولى من أصابهن السحر في مدينة سالم الأمريكية قائلًا: «التوت أطراف كلٍ منهما، وتألمتا بشدة.. وتحرك ذراعاهما وظهراهما بهذه الطريقة، ثم بتلك الطريقة.. ثم عاد جسماهما إلى وضعهما مرةً أخرى. توقف فاهما عن الحديث، واختنق الصوت في حنجرتيهما. وأُصيبا بعددٍ من النوبات المؤلمة». كتبتت جولز مونتاج، الكاتبة واستشارية علم الأعصاب، مقالًا على موقع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، تناقش فيه أحداث مدينة سالم بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وكيف أدت مجموعة من الأعراض التي ظهرت بصورة مفاجئة على فتاتين صغيرتي السن إلى شنق 20 شخصًا، وموت كثيرين آخرين.تنقل جولز كيف كان حديث الفتاتين مشوشًا، وكيف تلوَّت أطرافهما من الألم، وكيف كانت كلٌ منهما تصرخ وتعوي وتتشنج. كان ذلك عام 1692، حينما كانت بيتي في التاسعة من عمرها، وأبيجايل في الحادية عشرة.تروي الكاتبة أنَّ الأمر بدأ بأنَّ قال أحد الأطباء لصمويل باريس، كاهن القرية آنذاك: إنَّ الفتاتين، ابنته وابنة أخته، مسحورتان. وسرعان ما ظهرت أعراض مماثلة على خمس فتيات أخريات على الأقل من قرية سالم، وبدأت الفتيات في اتهام السكان المحليين بأنَّهم مسؤولون عما أصابهن؛ بما في ذلك امرأة مستعبدة تُسمى تيتوبا، ومتسولة بلا مأوى تُدعى سارة جود.تبعت ذلك موجة من الاتهامات، وتدافع سكان القرية للتنديد بأكثر من 200 شخص. سُجن أشخاصٌ من خلفيات مختلفة، سواءٌ من اعتُبروا في ذلك الوقت من «ذوي السمعة السيئة»، أو من كهنة الكنيسة على حدٍ سواء، وكانت بريدجيت بيشوب «التي وصفت حينها بأنَّها معروفة بانحلالها وحبها للنميمة» أول من شُنق في 10 يونيو (حزيران) من تلك السنة. ووفقًا لجولز، تسبب كل ذلك في إعدام 20 شخصًا إجمالًا، وموت آخرين في السجون.لكن ما الذي سبب هذه الأعراض الغريبة لدى بيتي وأبيجايل وصديقاتهن منذ أكثر من ثلاثة قرون؟ ثم أودى في النهاية بحياة كل هؤلاء الضحايا؟ تحاول جولز الإجابة عن هذا السؤال في مقالها.

تفسيراتٌ مختلفة

تشرح الكاتبة إحدى النظريات الشائعة التي اقترحتها ليندا كابوريل في مجلة «ساينس» عام 1976، وهي أنَّ تلك الأعراض ظهرت نتيجة الإصابة بفطريات الجاودار. يتسبب ذلك الطفيلي، إذا نجح في شق طريقه إلى الجهاز الهضمي نتيجة تناول أيٍ من المحاصيل المصابة، في الإصابة بـ«التشنج التنفسي»، الذي يظهر في التشنجات العضلية، والهلوسة، والنوبات.فيما ألقى آخرون باللوم على عشبة الداتورة أو «عشبة جيمسون»، التي لها تأثيرات نفسية واضحة (ما عرف بشرك إبليس). وفي وقتٍ لاحق، تردد تعبير «التسمم الدماغي، وهو نوع غامض من أمراض النوم، ينشأ نتيجة الإصابةبسموم بيئية، أو عدوى بكتيرية أو فيروسية، أو اضطراب في المناعة الذاتية.لكنَّ جولز تقول: «إنَّ تلك الأفكار دُحضت منذ ذلك الحين لعدة أسباب. أولًا، لم تظهر أي الأعراض الرئيسة للتسمم الأرجوني الذي يتسبب فيه فطر الجاودار على فتيات قرية سالم، التي تشمل شكاوى الجهاز الهضمي، وشحوب لون البشرة، والشره الشديد».وبينما قد يتسبب التسمم الأرجوني في اختلالاتٍ إدراكية كالتي تنشأ من تناول عقاقير الهلوسة، أو المعروفة اختصارًا باسم «LSD» (ألوان قوس قزحية، وهالات، وصور بعدية ثابتة)، روت الفتيات أنَّهن تعرضن للهجوم من شخصيات واضحة المعالم بدلًا عن ذلك.لكن ظهرت الآن نظرية جديدة، اقترحها طبيب الأعصاب في جامعة لندن مايكل زاندي، وتلميذه جوني تام، في «مجلة علم الأعصاب»، وهي: الإصابة بالتهابٍ دماغي ينتج من انتشار الأجسام المضادة لمستقبلات نمدا بالجسم.تحكي جولز ما مرت به كل من فتيات قرية سالم. في البداية يطور جسم الفتاة مرضًا شبيهًا بالإنفلونزا. وفي غضون أسابيع تُطور هوسًا بالإله أو الشيطان، ثم يستهلكها جنون الارتياب، والأرق. تبدأ في تكرار الكلمات نفسها، وبعدها تفقد القدرة على النطق. ما يحدث بعد ذلك هو أنَّها تصاب بالنوبات، ثم تتلوى أطرافها، وتصدر حركات غريبة متكررة بالفم واللسان. يزداد معدل نبضات قلبها أو ينخفض. ويرتفع ضغط دمها ثم ينحدر. تعرق، يسيل لعابها، تنخر، وتتجهم. يصاب جسمها بالشلل، ثم تسقط في غيبوبة.وبحسب الكاتبة، شُخصِّت إصابة هؤلاء المريضات بالخطأ في أحيانٍ كثيرة بالهيستريا والعصاب (الإصابة بمرض عصبي ما) لفترةٍ طويلة، وأرسلن إلى مصحاتٍ ساءت فيها حالاتهن، أو أودت إلى موتهن. لكنَّنا نعلم الآن أنَّ تلك الحالة تنتج من اضطرابٍ عصبي بعد صدور أبحاث رائدة في عام 2007، أظهرت أنَّ الأجسام المضادة المعطوبة تتفاعل ضد مستقبلات نمدا، ومن هنا جاء مصطلح التهاب مضادات مستقبلات نمدا الدماغي.

مرضٌ مناعي عصبي

تفسر جولز أنَّ هذه المستقبلات هي المسؤولة عن تحرُّك الإشارات العصبية الدماغية بين الوصلات العصبية، عبر التشابكات واللدونة العصبية (قدرة الدماغ على التكيف والتغيير، إضافةً إلى اكتساب السلوك، والتعلم، وتكوين الذكريات).ويبدو أنَّ هجوم الأجسام المضادة لدى المرضى الذين يعانون من التهاب مستقبلات نمدا الدماغي ينشأ كجزءٍ من الاستجابة المناعية للجسم، وهو ما يحدث في أعقاب الإصابة بعدوى (اقتُرحت أيضًا الإصابة بفيروس منشط مثل الهربس، لكن ما تزال هذه النظرية غير مؤكدة) .بين أنَّ بعض النساء اللواتي يعانين التهاب الدماغ، يعانين أيضًا من ورم في المبيض يسمى «الورم المسخي»، وتشرح جولز أنَّه عبارة عن كتلة تتكون من أنواعٍ مختلفة من الأنسجة، مثل الشعر والأسنان والعظام. تحتوي هذه الأورام أيضًا على نسيج عصبي يكوِّن مستقبلات نمدا. ما يعني أنَّ الجهاز المناعي قد يكون هو المذنب مرة أخرى، فمن المرجح أنَّ هذه المستقبلات تؤدي إلى إنتاج الأجسام المضادة، التي تتفاعل بعد ذلك مع مستقبلات نمدا في الدماغ، بالإضافة إلى مستقبلات الورم المسخي.ومن المثير للاهتمام أنَّ «الكيتامين» يعمل هو الآخر مضادًا لهذه المستقبلات، لهذا تُنتِج الجرعة الزائدة من الكيتامين أعراضًا مشابهةً للناجمة عن الإصابة بالتهاب مستقبلات نمدا الدماغي على حد قول الكاتبة.تنجح العلاجات القائمة على تثبيط نشاط الجهاز المناعي في مساعدة 75% من المرضى الذين يعانون هذا الالتهاب الدماغي على استرداد عافيتهم الكاملة، أو على الأقل شفائهم إلى حدٍ كبير (مع أنَّ بعض الحالات شهدت تحسنًا تلقائيًا).وبالنسبة للمصابات بالورم المسخي في المبيض، تُشفى المسحورات من السحر فور إزالة هذا الورم. وشُخِّصت إصابة عدد من الرجال، صغار و كبار، بهذه الحالة أيضًا، لكنَّ النساء أكثر عرضة للإصابة بها، وغالبًا ما يحدث ذلك في أوائل العشرينيات من عمرهن.وهنا تطرح جولز سؤالًا: هل يمكن ربط هذه الحالة بما حدث في سالم؟

حلل زاندي وتام أعراض بيتي وأبيجايل، ويعتقدان أنَّ احتمالية ذلك كبيرة للأسباب التالية:

  • يظهر القلق وأوهام التعرض للاضطهاد عند الإصابة بالتهاب مستقبلات نمدا الدماغي، ويبدو أنَّ فتيات سالم عانين من كليهما.
  • يصاب مريض التهاب مستقبلات نمدا الدماغي بنوبات، وسبق وذكرنا أنَّهن أصبن بـ«عدة نوبات مؤلمة».
  • قد يكون خلل الحركة (الحركات اللاإرادية للأطراف) الناتج من الإصابة بهذا الالتهاب الدماغي متطابقًا مع وصف حركات أجسادهن الغريبة.
  • تشابهت أعراض فقدان القدرة على ردع المحفزات والاضطرابات العقلية الناتجة من التهاب مستقبلات نمدا الدماغي مع هذا الوصف: «كانت في البداية تتحرك بسرعة وعنفٍ شديدين من الغرفة وإليها، ثم بدأت في إلقاء جمرات بالقرب من المنزل».
  • الاقتراح بأنَّ البنتين كانتا تهلوسان: «كانت تتصرف أحيانًا كما لو أنَّها تطير، وتمد ذراعيها قدر استطاعتها، وتصيح بكلماتٍ مثل: ويش، ويش، ويش!».
  • قد توحي حقيقة أنَّ البنتين كانتا في بعض الأحيان «عاجزتين عن الكلام» بأنَّهما كانتا تعانين «الجامود».
  • يمكن لتورم الدماغ أن يضعف القدرة على الكلام: «توقف فم البنتين عن الكلام، واختنق الصوت في حنجرتيهما».

يقول زاندي: «يبدو أنَّ مرضهما يتشابه تمامًا مع مرضٍ لم نفهمه إلا في القرن الواحد والعشرين. لماذا نفترض أنَّ التهاب مستقبلات نمدا الدماغي لم يكن موجودًا حينها؟».

خوفًا من السحر

يبدو هذا مقنعًا، لكنَّ الكاتبة ترى أنَّ بعض الأسئلة ما تزال دون إجابة. لماذا قد تطور فتاتان بينهما صلة قرابة حالة غير معدية في الوقت ذاته؟ يشير زاندي إلى إمكانية توارث بعض الأمراض المناعية، لذا فمن الممكن أنَّ كلتيهما كانت تعاني الحالة ذاتها، لكنَّه يعترف بأنَّ «الأكثر ترجيحًا هو أن تكون واحدة من الفتاتين فقط هي المصابة بالمرض».أما بالنسبة لبقية الفتيات، فما يزال هناك قدر كبير من الغموض بشأنهن كما يقول زاندي: «ربما أسهمت العوامل الاجتماعية والسياسية في ظهور حالات أخرى، وربما تكون هناك بعض الحالات المرضية الأخرى التي نُسبت خطأً للسحر، بما في ذلك الصرع».ولفت عالم النفس نيكولاس سبانوس إلى عوامل أخرى قد يكون لها دور في ذلك، واصفًا الحادثة بأنَّها: «دراما اجتماعية سياسية أنتجها المنظور العالمي الذي تَشاركه المتشددون في القرن السابع عشر». جسدت الفتاتان الكيانات الشيطانية، ربما عن غير قصد، وتبنت الطائفة الدينية بقرية سالم هذه الأدوار وشرعتها: «فور اقتراب (المتهمة بممارسة السحر)، أصيب جميع الحاضرين بنوبات».وذكروا أنَّهم شعروا بلدغة عندما عضت المتهمة على شفتيها في المحكمة. وعندما حركت إحدى يديها، ادعوا أنَّهم تعرضوا للقرص؛ إلا أنَّهم بدوا بصحة جيدة خارج قاعة المحكمة وفقًا للتقارير، التي تقول أيضًا: إنَّ «كثير من الأشخاص المصابين، الذين يصابون بالعشرات من النوبات الغريبة في اليوم الواحد، يبدون في أوقات أخرى معافين، وودودين، ونشطاء، كما لم يصبهم أي شيء».ومع ذلك، ترى الكاتبة أنَّ احتمالية إصابة واحدة من الفتاتين حتى بالتهاب مستقبلات نمدا الدماغي، وأن يكون له مثل هذا التأثير، أمرًا مثيلًا للفضول، حتى لو كانت التأثيرات الاجتماعية والسياسية والدينية هي التي أسهمت في ظهور بقية الحالات.تتبع ذلك نظرية مقترحة بأنَّ الطفل البالغ من العمر 14 عامًا، التي ألهمت قصته صناع فيلم «The Exorcist»، عانى حالة الالتهاب الدماغي نفسها. أُدخل الطفل إلى مستشفى ميزوري في عام 1949، حيث أبدى غضبًا عارمًا، و«صرخ بلغةٍ مجهولة»، و«التوت أطرافه لتشكل أوضاعًا يبدو مستحيلًا على جسم الإنسان العادي أن يتخذها».أما بالنسبة إلى سالم، فأدى قرارٌ بتأجيل الحكم، صدر في مايو (أيار) 1692، إلى إطلاق سراح نحو 150 من المتهمين بممارسة السحر. واعتذرت إحدى الفتيات «المتضررات»، وهي آن بوتنام جونيور، رسميًا في رسالة إلى الكنيسة بقرية سالم في عام 1706. ويُعتقد أنَّ بيتي باريس قد تزوجت في وقتٍ لاحق، وأسست أسرة لها في قرية صدبيري بالولاية نفسها، بينما يظل مصير أبيجايل وليامز مجهولًا.وختامًا، بينما تكثر النظريات حول «الفتيات المتضررات»، وبعدما أخذت نظرية التهاب مستقبلات نمدا الدماغي مكانها في الصف، تؤكد جولز أنَّ نظرياتٍ أخرى ستستمر في الظهور.

ساسا بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post بيئة العمل وعلاقتها بمزاياه في بلجيكا
Next post المبدعين يحتاجون للاضطراب والاكتئاب