عبير أمام زجاج السجن البارد
ابراهيم عطا:كاتب فلسطيني
كانت عبير في العاشرة من عمرها، مرحة جدا ومحبة للحياة وكانت تشارك في كافة النشاطات الاجتماعية في بلدتها وخاصة في المسيرات و الاعتصامات المطالبة باطلاق سراح الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، ولكن أكثر ما كانت تتمناه في هذه الدنيا هو أن تستطيع احتضان والدها الاسير منذ اكثر من سبعة اعوام في معتقل بئر السبع الصحراوي، نعم هذا كان حلمها اليومي، ان تضمه ويضمها وتقبله ويقبلها وتستمع لكلامه عن قرب دون حواجز، الا ان سلطات الاحتلال لم تكن تسمح لها بالاقتراب من والدها والتحدث معه إلا عبر الزجاج العازل الذي يفصل المعتقلين عن ذويهم خلال الزيارة…
كانت عبير تحاول دائما الاقتراب من الزجاج الى اقصى حد حتى تشعر بقرب والدها وبدفىء ذراعيه، وتضغط بكل ما اوتيت من قوة بيديها على ذلك الزجاج البارد محاولة الوصول الى حضن الاب الدافيء ، لتتفاجئ كما في كل مرة بالعسكري الاسرائيلي يقول لها ” الزيارة انتخى، روخ بيت روخ “، فياخذها جدها من يدها المرتجفة ويعود بها إلى المنزل…
وفي آخر زيارة لوالدها اقتربت عبير والتصقت بالزجاج الفاصل لتكون اكثر قربا منه إلا أن الحاجز الزجاجي وصلابته كانت أقوى من ذراعيها الضعيفتين، فأخذت تبكي وتصرخ وتضرب بيديها بقوة شديدة محاولة تحطيم زجاج ذلك السجن الذي حطم قلبها الصغير المشتاق لعطف ابيها وحنانه…
وبعد أيام لاحظت معلمة عبير انها لا تستطيع أن تتحكم بالقلم بيدها، ومن ثم صارت تعاني صعوبة في النطق، وبعد فترة قليلة بدأت تشعر بصعوبات كبيرة في الحركة بكامل جسدها الصغير، وعلى اثره تم نقلها الى المستشفى، وهناك اكتشف الأطباء انها مصابة بصدمة عصبية شديدة…
ظلت عبير على هذا الحال لعدة اشهر وقد تم نقلها الى اكثر من مستشفى في فلسطين وفي الاردن وكانت حالتها تسوء اكثر واكثر، إلى ان كان صباح يوم الجمعة الذي وجدت فيه عبير جثة هامدة في سرير مستشفى عالية وقد ضمت ذراعيها على صدرها بقوة كما كانت تفعل أمام زجاج السجن البارد الذي كان يحرمها من الشعور بدفيء صدر والدها وحنانه.
لقد رحلت عبير وهي تحلم بأن يأخذها والدها بين ذراعيه..لقد رحلت وفي قلبها شوق لعطف الاب ودفىء حديثه وكلماته…
سامحيني يا عبير لاني اضم ابنتي الى صدري كل يوم واحضنها واخبرها كم احبها من دون ان افكر كم عبير هناك في فلسطين حرمها الاحتلال الاسرائيلي من حضن ابيها الموجود في معتقلاته وزنازينه…سامحيني يا عبير لاننا كلنا اسرى ليس فقط لهذا الاحتلال البغيض وانما لهذا العالم المادي الذي يغطي على خرقه للقانون الدولي وجرائمه…سامحيني لاني لا أستطيع الوصول إليك هناك في مقبرة الرشيد بمدينة الخليل كي اقبل يدك الصغيرة الطاهرة التي حاولت بكل قوتها تحطيم زجاج العزل..
سامحيني يا عبير لان والدك يوسف اسكاف ما زال واحدا من بين اكثر من 6500 معتقل بينهم 350 طفلا ومئات النساء يقبعون في السجون الصهيونية دون ان يحرك العالم ساكنا.
لكم كل الاجلال والتقدير يا من قدمتم حياتكم وحريتكم فداء لحرية فلسطين ومقدساتها، ودفاعا عن المسجد الاقصى مسرى الرسول الكريم، والرحمة لك يا عبير ولكل عبير ما تزال هناك تحاول بصمت تحطيم زجاج السجون الصهيونية .