المسرح الذهني وتوفيق الحكيم
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_لم يكن التطوُّر الذي طرأ على الأدب العربيِّ في أواخر القرن الماضي مجرَّدَ حركةٍ تطور كالتي كان يشهدها الأدب العربي دائمًا منذ نهاية القرن العاشر، وقد حاول جرمانوس فرحات والألوسي في العراق التجديد في القرن 18، لكنَّ الأدب العربي الحديث لم يظهر إلا بعد أن نجحت حركتان في مجال الأدب وهما: حركة إحياء التراث القديم، وحركة الترجمة عن الآداب الغربية بكلِّ أشكالها، وقد بدأ أنصارُ إحياء القديم نشاطاتهم منذ بداية القرن 19 ليقاوموا تدنِّي المستوى الأدبي وانحطاط أساليب الأدب، فأعادوا إحياءَ النماذج الأدبيَّة القديمة الممتازة وقلَّدوها، ومنهم: إبراهيم اليازجي، علي مبارك، محمود شكري الألوسي وغيرهم، وهذا المقال سيتحدث عن مفهوم المسرح الذهني وعن رائد المسرح الذهني توفيق الحكيم.
مفهوم المسرح الذهني: يعدُّ الفنُّ المسرحي أصل الفنون منذ أيَّام الإغريق والرومان، فقد كانت المسارح هي الوسيلة الوحيدة للتعبير الفنِّي بعد حلبات المصارعين والسباقات، فهو شكلٌ من أشكال الفنون ويؤدى أمام حشدٍ من المتفرِّجين، ويشمل المسرح كلَّ أنواع العروض من السيرك إلى المسرحيَّات، وبالتالي فإنَّ المسرحَ شكلٌ من أشكال الفنون يترجم فيه الممثلونَ نصًّا مكتوبًا إلى عرض تمثيلي متحرِّك على خشبة المسرح، وتتنوع العروض المسرحية بين الخفيفة كالعروض الموسيقية أو الكوميدية وبين العروض التي تبحثُ في السياسة والفلسفة وغيرها.والمسرحية شكلٌ من أشكال الأدب يكتُبها الكاتب المسرحي بطريقة تمكِّنُ الممثلينَ من أدائها على خشبة المسرح، وعادة ما يكون في المسرحية عدَّة أشخاص يدور بينهم حوار وتكون قابلة للأداء أكثر من القراءة.] أمَّا المسرح الذهني فهو على عكس المسرح التقليديِّ، فالغرض من المسرح الذهني أن يكون مقروءًا وليس قابلًا للأداء على خشبة المسرح من قبل مجموعة من الممثلين، وهو ما يسهُل تصوُّره وتأمله، لكن من الصعب أن يتمَّ أداؤه أمام الجمهور، قد ارتبط هذا النوع الأدبي من التخيُّل الروائي بالكاتب توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني؛ لأنَّ مسرحيَّاته تنتقل إلى داخل ذهن المشاهد وتأخذه في تفكيرٍ عميق وهي من النوع الذي يسهلُ تخيُّلها ويصعبُ أداؤهَا.
رائد المسرح الذهني: توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني في الأدب العربي، وأحد الأسماء الشهيرة التي تركت أثرًا كبيرًا على المستوى الأدبي والشعبي، كاتب وأديب مصري ولد في الإسكندرية عام 1898م لأسرة ثريَّة من ملاكي الأراضي، وكان والدهُ قاضيًا في الإسكندرية، أظهر توفيق الحكيم حبًّا بالآداب فبدأ بارتياد المسارح وحضور العروض للمثلين الشهيرين مثل جورج أبيض، وكتب عدَّة مسرحيات قصيرة عندما كان يتابع تعليمه الثانوي وقام أصدقاؤه بأدائها، كتب في العديد من المجلات المقالات والقصص القصيرة وكلمات لأغانٍ وطنيَّة. دخل كليَّة الحقوق في جامعة القاهرة لكنَه لم يُفلِح فيها فانتقل لدراسة اللغة الفرنسية، فقضى ثلاث سنوات من عمره في باريس وحصل على شهادة الحقوق 1925م ولم يوفق في الحصول على وظيفة حكومية في ذلك الوقت، وعندما أجبره والده على العودة من باريس أصيب بصدمة ثقافية عكسية، وعمل عند عودته نائبًا للمدعي العام وتنقَّل بين أقاليم مصر فاستلهم روايته الشهيرة “يوميات كاتب في الأرياف”، وعمل بعد ذلك في وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التعليم، وبعد عام 1956م أصبح عضوًا في المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. وفي فترة حكم جمال عبدالناصر شَغَلَ منصب ممثل مصر في اليونيسكو، حصلَ في عام 1958 على قلادةِ الجمهوريَّة من الرئيس جمال عبد الناصر لإسهاماتِه المختلفةِ خاصَّةً عن عملهِ المميَّز “عودةُ الروح” الذي يُعتَقد أنَّه ألهَم عبد الناصر نفسَه إضافةً إلى الجيلِ بأكملهِ، توفي توفيق الحكيم في القاهرة عام 1987م ، وسيتمُّ الحديث عن أدبِ توفيق الحكيم وبعض مواقِفهِ فيما يأتي:
أدب توفيق الحكيم: توفيق الحكيم كاتب وأديب مصريّ وهو رائد المسرح الذهني وأحد روَّاد المسرحية والرواية العربية في العصر الحديث، وقد تناقضت الآراء التي استقبلت أعمال الكاتب فمنها ما رأى في أعماله نجاحًا باهرًا، ومن الآراء ما رآى فيها إخفاقًا واضحًا، كتب توفيق الحكيم عددًا كبيرًا من المسرحيات، لكنَّ عددًا قليلًا منها يمكنُ أن يؤدى على خشبة المسرح، لأنَّ مسرحياته كُتبت لتقرأ فقط، لكنَّها حملت كمًّا هائلًا من الدلالات والرموز التي يمكنُ إسقاطها على الواقع العربيِّ، بدأ الكتابة باسم مستعار وهو “حسين توفيق” وكانَت معظم هذه المسرحيات للمسرحِ العامِّ. لامسَت تلك المسرحيَّات الغنائيَّة والكوميديَّة جوانبَ اجتماعية وسياسيَّة، فتطرَّقت مسرحيةُ “الضيفِ الثقيل” إلى الروح القوميَّة المتزايدة الحماسِ في تلك الفترةِ في مصرَ إبَّان ثورة 1919م. وبالرّغمِ من عدمِ دراستهِ في كليَّة مسرحيةٍ رسميَّة، إلَّا أنَّه قضَى الكثيرَ من الوقت مستغرقًا بقراءةِ المسرحيَّات وحضورِ العروض المختلفةِ. ولم تنحصر قراءاته في الدراما بل امتدَّت لتشمل مختلفَ المواضيعِ في الثقافة الغربية، وكان لقراءة كتاب الطلائعيَّة “avant-garde” التأثير الأكبر على كامل حياتهِ الأدبيَّة. نشرَ أول مسرحيَّة فلسفية له عام 1933م وهي مسرحيَّة “أهل الكهف” وهي قصة مستوحاةٌ من القرآنِ الكريم، وكانت هذه المسرحيَّة بدايةً لعددٍ من المسرحيَّات التي أصبحتَ أسَاسًا كلاسيكيًّا للأدبِ العربيِّ الحديث، وقد مزج توفيق الحكيم في الكتابة بين الرمزية والواقعية علي نحو مميَّز يتَّسم بالخيال والعمُق من دون أي تعقيدٍ أو غموضٍ، وصارَ هذا الاتِّجاه هو محور مسرحيَّات توفيق الحكيم بذلك المزاج الخاصِّ به والأسلوب المتميز الذي عُرفَ بهِ. ويتميز الرمز في أدبه بالوضوحِ وعدم المبالغةِ والإغراق في الغموض. ومن أهمِّ مؤلفاته: أهل الكهف، شهرزاد والسلطان الحائر، عودة الروح، يوميات نائب في الأرياف، الأيدي الناعمة، عصفور من الشرق، عدالة وفن، الملك أوديب، سلمان الحكيم، وغيرها.
توفيق الحكيم وعبد الناصر: كان توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني من الأدباءِ الكبار الذين أثَّروا في السلطةِ وتأثَّروا بها، بالرغمِ من محاولاتِه الدائمة للهروب من الاحتكاكِ المباشر والحتميِّ بها، ومع ذلك فقد اعتبر الرئيس جمال عبد الناصر الكاتبَ توفيق الحكيم الأبَ الروحيَّ للثورة في مصر، بعدما تأثَر عبد الناصر في شبابهِ برواية “عودة الروح”، والتي تنبأَ فيها توفيق الحكيم ببطلٍ يخلِّصُ مصر مما هي فيه، ويصبحُ هو القائد الذي يخرجُ من بينِ أبنائِها. ولذلك فقد منحهُ عبد الناصر “قلادة النيل” عام 1958م، و”جائزة الدولة التقديرية في الآداب” عام 1960م، و “وسام العلوم والفنون” من الدرجة الأولى في نفس العام، ويظهرُ أيضًا أن عبد الناصر منحَ الحكيم كلَّ ما يمكن أن يمنحه زعيم لكاتب، فقد سمحَ له بمقابلته متى شاء، وأعطاه حرية النشر وأمنه من بطش محاكمات الثورة للسياسين والأدباء، وقد وصلت به الحال لأنْ يغضبَ له فعندما طلبَ وزير المعارف فصلَ الحكيم لأنَّه موظَّف غير منتج. قام عبد الناصر بفصل وزير المعارف، لكنَّ توفيق الحكيم ظلَّ يحاول الابتعاد عن عبد الناصر قدر المستطاع ويصرُّ على ذلك رغم تقديره لشخصيَّة الرئيس جمال عبد الناصر، وفسَّر ذلك في كتاب “عودة الوعي” ومحدِّدًا العلاقة الشائكة بين الحاكم والأديب. ولكن الغريب في علاقة الحكيم بالرئيس عبد الناصر هي أنَّه عندما توفي عبد الناصر صُدم توفيق الحكيم لدرجة الإغماء، لكنَّه بعد فترةٍ وجيزةٍ هاجمه في كتاب “عودة الوعي” عام 1972م، مبينًا فيه أبرز مساوئ عبد الناصر والتي يمكنُ تلخيصُها في وصول عبد الناصر إلى درجة الزعيم الملهم أو الزعيم المعبود، وقد حرصَ الحكيم رغم ميوله الليبرالية ووطنيَّته أن يبقى مستقلًا ساسيًّا وفكريًّا وفنيًّا، ولم ينتمي إلى أيِّ حزب من الأحزاب السياسية في حياته قبل الثورة، لكن بعد الثورة ارتبطَ بها وأيدها ووقف إلى جانبها لكنَّه رفضَ الجانب الديكتاتوري الذي اتَّخذته بعد ذلك
موقف توفيق الحكيم من المرأة: رغم ما شاعَ بين الناس عن رائد المسرح
الذهني بأنَّه كان عدوًّا للمرأة، لكنَّ معظمَ كتاباته كانت تشهد له بعكسِ ذلك،
فقد أحاط الحكيم المرأة بنصيبٍ وافرٍ من كتاباته التي يتحدَّث فيها عن المرأة
بإجلالٍ واحترامٍ قد يقتربُ من درجةِ التقديس وتناولَ قضايا تحرُّر المرأة في كتاباته،
وتتصفُ المرأة عنده بالإيجابية والتفاعل ولها تأثير واضح في الأحداث ودفع عجلة
الحياة، ويظهرُ ذلك جليًّا في عدد من مسرحيَّاته مثل: شهرزاد، إيزيس، الأيدي
الناعمة وغيرها. لكن بعد أن نشرَ مسرحيَّة “المرأة الجديدة” والتي
مثَّلت نوعًا من المحاكاة الساخرة للحركة الصاعدة التي قادها قاسم أمين، وغيرها من
المسرحيات الجدليَّة لقِّبَ بعدوِّ المرأة رغمَ أنَّه حاول كثيرًا أن يبعدَ هذه
الصفة عن نفسه، وقال إنَّ مواقفه من حركات تحرُّر المرأة كان ردًّا على مواقف
السيدة هدى شعراوي فقط لا غير، ورغمَ ذلك بقيَ توفيق الحكيم رائدُ المسرح الذهني
كاتبًا محبوبًا وشخصيَّةً مرموقةً في العالم العربي.
weziwezi