الأصمعي والشعر بالعصر العباسي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ لقد مرّ الشعر العربي بمراحلَ وعصور مختلفة من حيثُ نمط الحياة وطريقة العيش، فكانَ مرنًا يتلاءم موضوعيًّا مع كلِّ عصر من تلك العصور، وقد شهدَ الشعر في العصر العباسيّ تطوّرًا لافتًا من حيث أساليبه وموضوعاتِهِ، فانفتاح الدولة العباسيّة على الحضارات المجاورة مَهّد الطريق كثيرًا أمام الناس للاحتكاك بالثقافات الأخرى، ومع بساطة الحياة، ومع قليلٍ من التطوّر الحضاري، خرجَ الشعراء العباسيّون من الخيمة الجاهلية متّجهين بأشعارهم إلى الكلمات السهلة اللطيفة، خارجين على وُعورة اللفظ، ومُبتعدين عن البدويّة الصعبة، وهذا المقال سيسلّط الضوء على بعض شعراء العصر العباسي وتحديدًا الأصمعي الشاعر العباسي الشهير. شعراء العصر العباسي بعدَ انفتاحِ الدولة العباسية على الحضارات المجاورة، وبعدَ خروج شعراء العباسيين على وُعورة اللفظ البدويّة، وبعد اهتمام الخلفاء العباسيين بالشعر والشعراء، برزَ عدد كبير من الشعراء العباسيين الذين حفروا أسماءهم عميقًا في ذاكرة الأدب، مخلّفين نتاجًا شعريًّا عظيمًا، لم تزلْ تَتدارسهُ الأدباء والشعراء والمختصّون حتى هذه اللحظة، ولعلّ أبرز شعراء العصر العباسي الذين أثروا خزينة الأدب بمذهّباتِهم:
ابن الفارض: سلطان العاشقين، وأحد الشعراء المتصوفين الذين برزوا في العصر العباسي، وهو القائل في قصيدتِه: قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي روحي فداكَ، عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيهِ أسىً، ومِثلي من يَفي ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ البحتري: يعدُّ البحتري من أشهر شعراء هذا العصر، جرى على لسانه الشعر في سنّ مبكرة، وقد استسقى من الشاعر أبي تمام والتمسَ أثره، وهو القائل واصفًا الربيع: أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكًا من الحُسن، حتَّى كادَ أنْ يتكلما وقد نبّه النيروز في غَسَق الدجى أوائلَ وردٍ كنّ بالأمس نوّما
بشار بن برد: يعدُّ بشار من أبرز شعراء العصر العباسي إنْ لم يكنِ الأبرز، وهو الأكثر تأثيرًا في المشهد الشعري لذلك العصر، وكان بشار بن برد مقرّبًا من الخلفاء العباسيين لشاعريتِهِ الكبيرة، وقد اشتهر له بيت سرى على ألسنة الناس، ولم يزل ساريًا حتى اليوم، وهو: يا قومُ أُذنِي لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانَا
أبو الطيب المتنبي: هذا الجبل العظيم، وهذا الهرمُ الشعريّ الذي يعدُّ من أعظمِ وأشهر شعراء العربيّة على الإطلاق، وهو أبرزُ شعراء العصر العباسي دون شكّ، المتنبي الحكيم الشاعر، الذي لم يتركْ جملة شاعرية في المديح إلّا وتناولها، الشاعر الذي لم تزلْ أصداء كلماتِهِ تتردد في كلّ مدى من العالم العربي، كيف لا وهو القائل: على قَدْرِ أهلِ العَزْمِ تأتي العزائِمُ وتأتي على قَدْرِ الكِرامِ المكـارمُ وتَعْظُمُ في عَينِ الصغيرِ صغارُها وتَصْغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ والقائل أيضًا: أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدَبي وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَمُ الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعرفُني والسَّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقَلَمُ وقائمة شعراء العصر العباسي طويلة لا تعدّ ولا تُحصى، كابن الرومي وحمّاد الراوية وأبي العلاء المعري وأبي العتاهية وأبي نُواس وأبي فراس الحمدانيّ، وكثير من الشعراء الذي خلّدتهم أشعارُهم في عقول الناس جيلًا وراء جيل. [].
من هو الأصمعي
هو أبو سعيد عبد الملك بن قُريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، وسُمّيَ الأصمعي نسبةً إلى جدّه أصمع، وهو من قبيلة باهلة من قيس، ويعدُّ الأصمعي من أعظم الراوين الثقات لأخبار العرب وأشعارهم، وهو أحد أعظم علماء العرب في اللغة والأخبار والشعر، وقد عاش الأصمعي وكبر في مدينة البصرة جنوب العراق، وتتلمَذ على يد علمائها كأبي عمرو بن العلاء الذي كان أستاذه في علم التجويد وفي علوم الأدب والفصاحة والبيان، وقد تعلّم على يدهِ مدّة طويلة، وقد عشقَ الأصمعي اللغة وسافر وهاجر وتعب في سبيل تعلّمها، فأخذَ من سكّان البادية فصاحة اللفظ وبلاغة الكلام حيث عاد إلى العرب العتاق الذين يملكون زمام اللغة وأسرارها وخفاياها، فكانَ راوية عنهم، يسرد أخبارهم ويروي قصصهم، وقد تحدّث عنه كثير من علماء عصره وخلفاء الدولة في فترة حياتِهِ، ومما قيل عنه: سمّاه الخليفة هارون الرشيد شيطانَ الشعر. وقال الأخفش: “ما رأينا أحدًا أعلمَ بالشعر من الأصمعي”. وقال أبو الطيب اللغوي: “كان أتقن القوم للغة، وأعلمَهمْ بالشِّعر، وأحضرهم حفظًا”. وقال هو عن نفسه: أحفظُ عشرة آلاف أرجوزة. والخلاصة أنّه من أعظم علماء العربيّة بالرواية والشعر، وقد كانَ شاعرًا مُجيدًا، راويًا عظيمًا، خلّد اسمَه بقلمِهِ، فشرَّفَ نفسه حيًّا ميتًا أقدس تشريف. [].
الأصمعي والأعرابي
لقد وردَت في كتبِ الأدب قصة طريفة تتحدث عن حادثة حدثت بين الأصمعي وأعرابي مجهول، حيث سأل الأصمعي الأعرابي سؤالًا، قال له: “أتقول الشعر؟ ،قال الأعرابي: أنا ابن أمه وأبيه”، ومن هذا السؤال بدأت أحداث هذه القصة الطريفة التي كانت بالتفصيل كما يأتي: قال الأصمعي لأعرابي: أتقول الشعر؟ قال الأعرابي: أنا ابن أمه وأبيه. فغضب الأصمعي، فلمْ يجدْ قافيةً أصعبَ من الواو الساكنةِ المفتوحُ ما قبلَها مثل: “لَوْ”؛ قالَ: فقلتُ: أكمل. فقال الأعرابي: هات. فقال: قــومٌ بنجدٍ قد عهدناهــم سقاهم الله من النو فقال الأعرابي: النو تلألأ في دجا ليلةٍ حالكة مظلمةٍ لـو فقال: لو ماذا؟ فقال الأعرابي: لو سار فيها فارس لانثنى على بساطِ الأرض منطو فقال: منطو ماذا؟ فقال الأعرابي: منطوِ الكشح هضيم الحشا كالباز ينقض من الجو فقال: الجو ماذا؟ فقال الأعرابي: جو السما والريح تعلو به فاشتم ريح الأرض فاعلو فقال: اعلو ماذا؟ فقال الأعرابي: فاعلوا لما عيل من صبره فصار نحو القوم ينعو فقال: ينعو ماذا؟ فقال الأعرابي: ينعو رجالاً للقنا شرعت كفيت بما لاقوا ويلقوا فقال: يلقوا ماذا؟ فقال الأعرابي: إن كنت لا تفهمُ ما قلته فأنت عندي رجل بو فقال: بو ماذا؟ فقال الأعرابي: البو سلخ قد حشى جلده يا ألف قرنينٍ، تقوم أو فقال: أوْ ماذا؟ الأعرابي: أو أضرب الرأس بصيوانةٍ تقـول في ضربتها قـَوْ فقال الأصمعي: فخشيت أن أقول قو ماذا، فيأخذ العصى ويضربني!! [].
قصيدة صوت صفير البلبل
هي قصيدة ذائعة الصّيت على سذاجة مَبناها
ومَقصدها ومعناها، وهي منسوبة للشاعر الأصمعي في روايات عدّة، وتتلخّص القصة في
أنّ أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كانَ حافظًا للشعر سريعَ البديهة، يحفظ
الشعر إذا سمعهُ مرة واحدة، وعنده عبدٌ غلام يحفظ الشعر إذا سمعَهُ مرتين،
وعند الخليفة جارية تحفظ القصيدة من ثلاث قراءات، فكانَ إذا عرض شاعر قصيدة على
الخليفة كذّبَه وقال: هذا الشعر ليس لك، لقد سمعت القصيدة من قبل وأحفظها ويردّدها
مرة ثانية فيحفظها الغلام ويرددها فتحفظها الجارية وهكذا حتّى فقد الشعراء صوابهم،
وكان الأصمعي قد علم بالأمر، وعرف حيلة الخليفة فذهب فنظم قصيدة صعبة الحفظ،
متداخلة المفردات، شائكة الإيقاع، وعرة الكلمات وأنشدها للخليفة، فقال فيها: صَوتُ
صَفِيرِ البُلبُلِ هَيَّجَ قَلبِي التَمِلِ الماءُ
وَالزَهرُ مَعاً مَع زَهرِ لَحظِ المُقَلِ
وَأَنتَ يا سَيِّدَ لِي وَسَيِّدِي وَمَولى لِي فَكَم
فَكَم تَيَمَّنِي غُزَيِّلٌ عَقَيقَلي قَطَّفتَهُ مِن
وَجنَةٍ مِن لَثمِ وَردِ الخَجَلِ فَقالَ لا لا لا لا
لا وَقَد غَدا مُهَرولِ وَالخُوذُ مالَت
طَرَباً مِن فِعلِ هَذا الرَجُلِ فَوَلوَلَت وَوَلوَلَت
وَلي وَلي يا وَيلَ لِي فَقُلتُ لا تُوَلوِلي
وَبَيّني اللُؤلُؤَ لَي قالَت لَهُ حينَ كَذا
اِنهَض وَجد بِالنقَلِ وَفِتيةٍ سَقَونَنِي
قَهوَةً كَالعَسَلَ لِي شَمَمتُها بِأَنَفي
أَزكى مِنَ القَرَنفُلِ فِي وَسطِ بُستانٍ حُلِي
بِالزَهرِ وَالسُرورُ لِي وَالعُودُ دَندَن دَنا لِي
وَالطَبلُ طَبطَب طَبَ لِي طَب طَبِطَب طَب طَبَطَب
طَب طَبَطَب طَبطَبَ لِي وَالسَقفُ سَق سَق سَق لِي
وَالرَقصُ قَد طابَ لِي شَوى شَوى وَشاهشُ
عَلى حِمارِ أَهزَلِ يَمشِي عَلى ثَلاثَةٍ
كَمَشيَةِ العَرَنجلِ وَالناسِ تَرجم جَمَلِي فِي
السُواق بِالقُلقُلَلِ وَالكُلُّ كَعكَع كَعِكَع خَلفي
وَمِن حُوَيلَلي لَكِن مَشَيتُ هارِباً مِن خَشيَةِ
مُبَجَّلِ يَأمُرُ لِي بِخَلعَةٍ حَمراء
كَالدَم دَمَلي أَجُرُّ فيها ماشِياً
مُبَغدِداً لِلذِيِّلِ أَنا الأَدِيبُ الأَلمَعِي مِن
حَيِّ أَرضِ المُوصِلِ نَظِمتُ قِطعاً زُخرِفَت يَعجزُ
عَنها الأَدبُ لِي أَقولُ فَي مَطلَعِها صَوتُ صَفيرِ
البُلبُلِ وبعدَ أنِ انتهى عجز الخليفة والغلام والجارية عن حفظِها لصعوبتها، وهذا
ما وردَ في الروايات التي تحتمل التدليس والنحل، فهي روايات مرّت على كثير من
الألسن، وربّما كانت مكذوبة ومنسوبة زورًا وبهتانًا للشاعر الأصمعي فمبناها
ومعناها ومغزاها لا يدلُّ ولا يتناسب مع علم الأصمعي وفصاحتِهِ وبلاغتِه، والله
أعلم. [].
Weziwezi