شبكة المدار الإعلامية
الأوروبية …_تعتبر
هولندا بأنها من أقل البلدان الأوروبية التي يستخدم فيها الاضراب كنوع من
الاحتجاج، حيث لا يفضل الهولنديون الصدام مع أرباب العمل والحكومة، ويرغبون أكثر
بالجلوس على الطاولة والنقاش معهم للوصول إلى حل دون النزول إلى الشوارع. يعتقد الهولنديون أن الاضراب قد أصبح ترفاً ينتمي إلى الماضي.
إلا أنهم على مايبدو بدأوا في إحياء هذا الماضي في هذا العام، فمنذ بداية العام
الحالي هناك العديد من الاضرابات التي حصلت في عدة قطاعات. وعلى الرغم من الضيق
وتعثر سير الحياة اليومية بسبب هذه الاضرابات، كما حصل حينما أضرب عاملو شبكة
القطارات والنقل الداخلي، تلقى القطاعات المضربة، كالمعلمين والفلاحين، تعاطفاً ودعماً
من قبل شريحة واسعة من الهولنديين. تصنيف السعادة العالمي
يضع الهولنديين في المرتبة الخامسة عالمياً. إذاً الهولنديون سعداء! رغم ذلك
يتظاهروا ويحتجوا، ويعبرون عن عدم رضاهم على ظروف عملهم ويطالبون بالمزيد. بالنسبة
للكثيرين من الذين ما يزالون يكافحون في بلداننا التعيسة للحصول على احتياجاتهم
اليومية عندما يقرأون تصنيف السعادة الهولندي، إلى جانب أخبار الاضرابات فيها،
فبالتأكيد سوف يسخرون من الهولنديين، ويستنكرون عليهم احتجاجهم طالما أنهم من أسعد
الدول وينعمون برفاهية لا يحلم فيها أبناء الدول المتذيلة قائمة السعادة العالمية. في بلداننا وقبل الربيع العربي، لم يكن يحتج الناس أو
يضربوا عن العمل. هذا الفعل الاحتجاجي كان بعيداً عن مخيلتنا. القائل يقول أن
الربيع العربي قد بدأ ولذلك محى كل ماسبقه. لكن في بلداننا لم يتظاهر الناس إلا عندما
تصل الظروف الاقتصادية إلى مستوى لا يطاق أو عندما يتعرض الناس هناك لقمع دموي غير
انساني، والربيع العربي أساساً بدأ احتجاجاً على الوضع الاقتصادي عندما أحرق مفجر
الربيع العربي، محمد البوعزيزي في تونس، نفسه احتجاجاً على إهانته وحرمانه من
عمله. إن نظرة على مدى صخب الاحتجاجات في بلدان الشرق الأوسط، تظهر عمق احتقان
الناس ضد الطبقة الحاكمة، إلا أن أغلب احتجاجات شعوب المنطقة بدأت اعتراضاً على
تقصير في خدمات أو ضرائب أو فساد لم يعد يطاق، وكانت المطالب الاقتصادية من أهم
المطالب الأولية في المظاهرات. ولكن مع إجرام حكامهم كبرت مطالب المتظاهرين ككرة
الثلج حتى وصلت إلى المطالبة برحيل الطبقة الحكامة ومحاكمتهم، ولبنان والعراق
مثالان أخيران. ربما كانت الثورة السورية عام 2011 استثناءاً عن هذه القاعدة. في عام 1936 عندما كانت
سوريا تحت الانتداب الفرنسي، بدء ما يسمى بالاضراب الستيني في سوريا، هذا الاضراب
يعتبر علامة فارقة في التاريخ السوري. بدء هذا الاضراب احتجاجاً على رفع تكلفة
تذكرة الترامواي، ثم وصلت حدته إلى مطالبة السوريين برحيل الاحتلال الفرنسي عن
بلدهم. الاضراب امتد قرابة الستين يوماً ولذلك سمي بالاضراب الستيني، وأظهر
مدى رفض السوريين للاحتلال، حينما انتشر في أغلب المدن السورية، والطريف في ذلك أن
عصابات السرقة كانت قد تعهدت بالتوقف عن السرقة خلال أيام الاضراب وتكفلت عصابة
كبيرة في دمشق بحماية المحلات المضربة. لكن تاريخ الاضرابات يتوقف في سوريا لمدة طويلة، ليعود في عام
2012، عندما تمت الدعوة إلى “إضراب الكرامة” ضد
القمع الوحشي الذي مارسه النظام السوري في حق المتظاهرين. فارق السنوات بين
الاضراب الستيني وإضراب الكرامة هو 76 سنة. وهذا لا يعني بان
السوريين عاشوا خلال تلك السنوات في نعيم وبحبوحة لم تضطرهم للاضراب أو التظاهر.
الأمر كله كان أن عدم استقرار هذا البلد سياسياً واقتصادياً وقمع السلطات
المتعاقبة أثبتت عدم جدوى الاضرابات.
الفارق هنا بيننا نحن
وبين الهولنديين يكمن في مدى الشعور بالانتماء إلى مايسمى بالوطن والذي نحن يفترض
أننا مواطنون كاملو الأهلية فيه. وأيضاً مدى ثقة الناس بأن احتجاجهم لن يرد عليه
بالنار والسجون. لا يجرأ سياسي وحتى الملك أن يقول أن ما يحصل عليه الهولنديون من
رفاهية وضمان صحي واجتماعي هو بفضله. بينما نحن كنا نعيش ونتنفس الهواء بفضل
القائد المفدى. الوطن ليس لنا، هو مزرعة أو اقطاعية مملوكة للقائد، وأما نحن فمجرد
أجراء او فلاحين فيه. وكل ما نحصل عليه من حقوق هو مكرمة منه، ولا يحق لنا الاعتراض
أو المطالبة بالمزيد. في إحدى المرات تساءل الصحفي البريطاني روبرت فيسك، لماذا
بيوت العرب نظيفة جداً وشوارعهم تملؤها القاذورات؟ ويجيب هو على سؤاله: “هذا
الأمر في غاية الدقة، والسبب أنهم يشعرون بأنهم يملكون بيوتهم، ولكنهم لا يشعرون
بأنهم يملكون أوطانهم.”
هولندا الآن