البنى المعرفية الشعبية تنهار أمام ثورة الشباب
حسن خليل غريب
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية
…_أجيال طويلة
مرَّت على لبنان، وقرون أطول مرَّت على الأمة العربية، كان الشعب ينهل من ينابيع
ثقافة ضعيفة الأسس والأركان. ثقافة كانت السبب في إنتاج أنظمة سياسية متخلفة، تفكر
في مصالح نخبها الحاكمة، وتعتبر الشعب موظفاً لخدمتها. وعلى الرغم من أن الشعب كان
يعاني من تلك الأنظمة الشيء الكثير، لم يعتبر، استناداً إلى ثقافته، أن له حقوقاً
على حاكميه، وأن على حاكميه واجبات عليهم أن يقوموا بها تجاه الشعب المحكوم.وستة عشر سنة، وبعد إقرار نظام الطائفية السياسية في العراق بعد
الاحتلال، تعاني أكثرية الشعب من ثقافة ضعيفة الأسس والأركان، استباحت فيه السلطات
المركبة على مقاييس التحالفات الحاكمة كل الحقوق الشعبية. وعلى الرغم من ذلك، سكتت
الجماهير العراقية ولم تتطالب بحقوقها.ولأن
بنية الثقافة الشعبية في القطرين تستند إلى قيم ومسلمات بثَّها تحالف رجال الدين
مع النخب السياسية، تستند إلى نصوص واجتهادات قديمة يعود تاريخها إلى عشرات
القرون، لعبت الثقافة الشعبية في معظم الأحيان دوراً سلبياً في استسلام أوسع تلك
الجماهير لمشيئة رجال الدين، وعظاتهم وفتاواهم، فسكتوا عن مظالم الأنظمة السياسية.
وكان السبب في نتائج ما هو موجود الآن، ثقافة شعبية تسهم بانتشار قواعد الخضوع
والتسليم الشعبي لفتاوى رجال الدين، وأوامر وأحكام الطبقات الحاكمة. فما هو
تعريفنا لتلك الثقافة؟
حماية رجال الدين للسلطات السياسية:
عرف تاريخ البشرية الطويل تحالفاً
وثيقاً بين رجل السياسة ورجل الدين. كان رجال الدين فيها يلعبون دور الوسيط بين
الحاكم والمحكوم، وقلَّما ظهر من بين المؤسسات الدينية داعياً يحثُّ الشعب على
المطالبة بحقوقه، بل حثِّهم على طاعة الحاكم. وبدورهم، كان رجال السياسة يتقربون
من رجال الدين ويقدمون لهم الامتيازات ليسهل عليهم توظيفهم لإصدار الفتاوى التي
تصب في مصالحهم السياسية والاقتصادية.
تأثير رجال الدين في استسلام الشعب
لسلطة الحاكم:
بدأنا بوصف أسباب العلة في الثقافة
الشعبية من فوق، بالعكس مما يتطلبه البحث الأكاديميي القاضي بالبدء من تحت لتصل
إلى نتائج ما هو حاصل فوق. وذلك لأن لرجال الدين دور كبير في تثبيت ثقافة جامدة في
أذهان الناس، يعتبرون أنه لا يحق لغيرهم بأن يفتوا بها ويجتهدوا. فجمَّدوا الثقافة
عند حدود مئات القرون لتبقى لهم السلطة المؤثرة على شعب يعتبر الدين مسألة مقدسة،
فاستغلَّ رجال الدين تلك الثغرة ليصوروا أنفسهم أنهم الأكثر حرصاً على مصالح عامة
البشر.منذ قرون طويلة،
كانت الأسس المعرفية، للثقافة الشعبية، تقوم على أساس تقديس فتاوى رجال الدين،
وذلك كما تحسب غالبية الشعب أنها بعيدة عن الوقوع بالخطأ. وهي محصَّنة بأنها مبنية
على تعاليم وتشريعات إلهية، نصَّت عليها الكتب المقدسة. وإذا نظرنا إلى المجتمع
العربي، باستثناء شريحة صغرى من المثقفين المتنورين، لوجدنا مئات الملايين ممن
ينظرون إلى رجال الدين بعين القداسة لكونهم، كما يزعمون يمثلون الله على الأرض.
سمات الثقافة الشعبية، ومصادر
تأثيرها؟
تتميز المعرفة الدينية بالسمات
التالية:
-معرفة تسليمية: تتوقَّف على مدى إيمان
الشخص وتسليمه لرجال الدين بأنهم وحدهم من يستطيع معرفة القضايا الروحية غير
المنظورة.
-وهي معرفة تواكلية: لأن السلوك الفعلي
لأعداد كبيرة من المتدينين، ينطوي على الإيمان بالمكتوب والمحتوم. وإن أية محاولة
لتدخُّل الإنسان في تحديد مصيره، بمعزل عن المؤسسات الدينية، يُنْظَر إليها على
أنها خروج على المشيئة الإلهية.
-وأيضاً هي معرفة تقليدية: لأنه تمَّ
احتكار المعرفة من قبل المؤسسات الدينية، وما على التابعين لهذه المؤسسة أو تلك
سوى تقليدهم. وعلى الرغم من أنهم يزعمون بإعطاء دور لمنهج (الاجتهاد)، أي بمعنى
أنهم يجددون بأسس المعرفة، يُحرَّم غالباً مناقشتهم والشك بهم، وبذلك أصبح تقليدهم
علامة بارزة في الثقافة الشعبية.
فمبادئ المعرفة الدينية:
التسليم والتقليد والتواكلية، أدَّت
إلى تجميد قدرة العقل البشري، وبالتالي إلى تجميد حركة التاريخ. وبمثل تلك السمات،
استطاع تحالف السلطة والمؤسسات الدينية أن يحولوا أوسع الجماهير الشعبية للانقياد
والإذعان لأوامر هذا التحالف ونواهيه. فاستكانت تلك الجماهير، وغابت ظواهر
الاحتجاج والنقد والمطالبة بالحقوق المشروعة، تحت حجة أن هذا ما كتبه الله على
عباده، ومن يحتج على ذلك، فكأنه يخالف أوامر الله ونواهيه. وهذا ما نستطيع أن نعلل
به استسلام الأجيال السابقة، حتى هذه اللحظة، في الوطن العربي بشكل عام، وفي
العراق ولبنان بشكل خاص.وإنه
على الرغم من أن حركة التحديث الثقافي كانت تتوقع تغييراً ما في اختراق أسس
المعرفة الشعبية القديمة، جاءت اللحظة التاريخية في كل من العراق ولبنان، وانفتحت
الأبواب أمامها بشكل أذهل حتى الذين كانوا ينتظرونها.
حركة التغيير والثورة تعود إلى
الدوران في العام 2019:
مما تقدم، وبإيجاز، كان الهدف من
تعميم الأنظمة الطائفية السياسية، هو نشر ثقافة التسليم والتقليد والتواكلية
وتعميقها بين صفوف الشعب، لأنها أقصر الطرق إلى التجهيل المعرفي. كما أنها أقصر
الطرق لتفتيت المجتمع العربي بما تحمل من مقدسات وثوابت ليس عند الأديان فحسب، بل
عند المذاهب الدينية في الدين الواحد أيضاً. وكما أنها أيضاً تمنع من الثورة على
الحاكم.
وإذا كانت موجة الانتفاضات التي حصلت
في بعض الأقطار العربية، منذ العام 2011، قد اختُرِقت من قبل تيارات الإسلام
السياسي، وكانت ذات التأثير الكبير على نشر ثقافة تفتيت النسيج الاجتماعي العربي،
وبسببها انتشرت بشكل لافت الصراعات المذهبية، لعلَّ أبرزها كان الصراع بين
(الدعشوية) و(الحشدوية)، فقد بدأت موجة أخرى من الربيع العربي منذ العام
2019، تمتاز بالوعي والدخول في مرحلة التوحيد كرد على مرحلة التفتيت. فما هي تلك
الظاهرة؟
ظاهرتا العراق ولبنان: بداية الخروج
من الانسداد المعرفي:
وإذا كنا نركز على ظاهرتي العراق
ولبنان، فهذا لا يعني أن ظاهرتي السودان والجزائر غير مشمولتين بالمرحلة الجديدة،
بل كانتا البداية التي أسست لمرحلة الانتصارات بعد سلسلة من الانكسارات. وإن تخصيص
العراق ولبنان، في هذا المقال، كان لما يجمعهما من خصائص تصب في هدف ما أردنا
الوصول إليه في مقالنا هذا.
ما نود إبرازه في هذا المقال، هو
الظاهرة التي ابتدأت تشق طريقها بجدية وزخم وثورية لافتة، كان في إعلان الهدف
الرئيسي، هو اقتلاع نظامين طائفيين سياسيين يكمل فيهما المؤسسات الدينية وطبقة
النخب السياسية بعضها البعض الآخر. واقتلاع هذين النظامين يعني الثورة ضد البنية
الثقافية الشعبية التي كانت السائدة. ومن أبرز السمات التي نود التركيز عليها هو
قضية الانقلاب على البنى الثقافية الشعبية، ذات العلاقة بما أشرنا إليه في مقدمة
مقالنا.
كان منهج الاستسلام الشعبي في كل من
القطرين محكوماً بالسمات المعرفية التقليدية، وتلك سمات شكلت السبب في استمرارية
النظامين المذكورين.
كان الهدف أكثر وضوحاً على الساحة
العراقية، وأكثر حدَّة ضد طرفيْ التحالف لأن دور رجال الدين كان أكثر سوءاً من دور
رجال السياسة لأنهم كانوا يعمقون سياسة الاستسلام عند أوسع الجماهير الشعبية، في
الوقت الذي كانت سرقاتهم ومفاسدهم أكثر إيلاماً مما فعله السياسيون. فقبل ثورة
الشياب في العراق، وطوال مرحلة الاحتلالين الأميركي والإيراني، كان رجال الدين هم
الماسكين بزمام الأمور. ولم يعقدوا تحالفاً مع الشرائح السياسية بشكل تقليدي بل
كانوا هم الرأس المدبر في كل ما حصل من كوارث، بدءاً من التحالف مع الاحتلال،
انتهاء بتأسيس منظومات الفساد. فكانوا هم القائد والموجِّه، بينما النخب السياسية
كانوا يستمدون القوة من المؤسسات الدينية ويخضعون لتأثيرها، ويستفيدون من الفتاوى
العجيبة الغريبة التي كانوا يبررون بها رعاية تلك المنظومات.
وأما في لبنان، فكان تحالف المؤسسات
الدينية والمؤسسات السياسية الطائفية، يمثل الرأس فيها النخب السياسية، ويتخذون من
المؤسسات الدينية غطاء لمفاسدهم وجرائمهم. ففي لبنان قلَّما عرف مؤسسة دينية تنحاز
بشكل جدي لمصالح الفقراء بأكثر من دعوتهم للصبر على الفقر والحاجة. والعمل على
خلاص أنفسهم بعد الموت.وبالإجمال
جاءت ظواهر الثورة الشبابية في القطرين لتُنبئ بفجر جديد في عمقه، وهو التمرد
الاستراتيجي على الثقافة الشعبية التي كان آباؤهم أسرى لها، ويقبعون في سجونها.
فقفزوا فوق تابوهات التربية الطائفية السياسية، ونزلوا إلى الشوارع متحدين
متضامنين، أمام استغراب آبائهم ودهشتهم. وأمام دهشة حتى من كانوا يتوقعونها من
المفكرين والباحثين والأوساط الحزبية التي كانت تنتظر هذه الظاهرة.
(أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء
الحياة)، هذا ما قاله جبران خليل جبران منذ أكثر من قرن من الزمن. و(لا يستطيع حتى
الله أن يظهر أمام ملايين الفقراء إلاَّ بصورة رغيف الخبز)، وهذا ما قاله غاندي
قبل عقود من الزمن. وهذا ما يطفح الآن على سطح ظاهرة ثورة الشباب في العراق ولبنان.
ولعلَّ فيما قاله المفكران تكمن
الحقيقة التي تحث على إنتاج قواعد فكرية تتناسب مع ما عبَّرا عنه. وهذا ما يقودنا
إلى الاستنتاج بأن الأجيال الجديدة لن تنتظر وتصبر لتحصل على قصور في الجنة، وهم
لا يستطيعون أن يجدوا لقمة الخبز ليأكلوها.
استناداً إلى كل ذلك، وبالمعنى الفكري
يمكننا الاستنتاج أن ما يحصل في القطرين، لهو ثورة معرفية، يقودها الشباب. ومن
واجب جميع المؤسسات الفكرية والثقافية والحزبية الوطنية والقومية أن تعد لها العدة
الفكرية اللازمة لرعايتها وتنميتها وتعميقها، وابتكار منظومات فكرية ترتقي من
سطحية الثقافة الشعبية السائدة، والقائمة على مسلمات أكثرها دينية، إلى سقف
الثقافة الشعبية القومية والوطنية، وذلك بتعميم الخطاب القومي والوطني بقطع صلة
الوصل بين الثقافة القديمة المتأثرة بالمسلمات الدينية الجامدة إلى رحاب الثقافة
المنفتحة التي تخترق كل تلك المسلمات. وأن
لا تعنى بمسألة الدين بأكثر من حاجة الإنسان إلى الاطمئنان النفسي في مرحلة ما بعد
الموت. وهذا يتم تسليمه إلى مؤسسات تربوية تعمل على الارتفاع من سطحية المعرفة
الدينية إلى عمق الظاهرة الروحية القائمة على بنية القيم العليا. وعن ذلك اعتبار
الخيار الديني الروحي مسألة فردية تخص الفرد نفسه لا تدخل للدولة فيها بأكثر من
ضمان حرية الاعتقاد الديني وحمايتها.
الحوار المدني