كَيْف نُقَوِّي اليَسَار؟

عبد الرحمان النوضة

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_كَيْفَ نُعالج ضُعف قِوى اليسار؟
[في البداية، ولِتلَافِي أيّ سًوء تَفَاهُم، أُنَبِّه إلى أن نَـقدي لبعض أحزاب اليسار بالمغرب، لَا يعني أنني أَتَعَالَى عليها، ولَا أنني أَنْتَقِصُ من قيمتها. على عكس ذلك، أُكِنُّ إلى قوى اليسار كلّ الاحترام والتقدير، والمَوَدَّة. ولَا يُلْغِي الاحترامُ النـقدَ. أعتبر نفسي جزءًا من قوى اليسار، بإيجابيّاتها ونَـقَائِصِها. وحينما أنتقدها، فَإِنَّمَا أجتهد في نُصْحِهَا بهدف أن تَغْدُوَ أكثر عِزَّةً، وقوّة، وفَعَالِيَّة. وقد تكون بعض انتقاداتي صائبة، كما يمكن أن تكون نَاقِصَة، أو خاطئة]. مِنْ بَيْن أكبر المشاكل المطروحة اليوم على مناضلي اليسار بالمغرب، المُشكلات التالية: «ما هي المجالات التي يتجلّى فيها ضُعف قوى اليسار؟ وما هي أسباب ضُعف قوى اليسار؟ وكيف نُعالج ضُعف قوى اليسار»؟ ومُعظم مناضلي اليسار يعتقدون أن ضعف قوى اليسار يَكْمُنُ فقط في قِلَّة أعداد أَعْضَائِه وَأَنْصَارِه، أو في تَشَتُّت تنظيماته، أو في تَشَرْذُمِها. ويظنّون أن مُعَالجة هذا الضعف سَتَتَحَقَّق عبر «تَوحِيدِ» قوى اليسار، (مثلًا في إطار «تحالف»، أو «فيديرالية»، أو «جبهة مُوَحّدة»، أو «حزب واحد»). بمعنى أنهم يظنّون أن المُشكل هو تنظيمي مَحْض. فَتَرَاهُم يُرَكِّزُون كلّ جُهُودهم على القَضَايَا التنظيمية، ويهملون مَا سِوَاهَا. وهذا مَنْهَج محدود، أو غير كَافٍ، أو غير صَائِب. سَيَكُون من الوَهْم الاعتقاد أن «تَوحِيدِ» أحزاب اليسار في إِطَار مُوَحَّد سَيَـقْدِرُ آلِيًّا على مُعَالجة كلّ نُقَطِ ضُعْف قِوَى اليسار. لماذا هذا الاعتقاد غير سليم؟ لأن «تَشَتُّت» قوى اليسار هو “شَكْلٌ”، و«توحيدها» في إطار مُعَيَّن هو “شَكْل” آخر، بينما الجانب الأكثر أهمية، ليس هو “الشَّكْل”، وإنما هو “المَضْمُون”. وما معنى “المضمون” هنا؟ “المضمون” هو: نَوْعِيَّة الخط السياسي المَحْمُول من طرف مُنَاضِلي قِوَى اليسار، ونَمَط المَناهج التي يُفَكِّر وَيُمَارِسُ بها مُنَاضِلُو اليسار، وَصِنْف التَكْوِين المُتَوَاصِل الذي يَحْصُل عليه مناضلو اليسار. وهنا بالضّبط تَكْمُنُ أهمّ نُـقَط ضُعف قِوى اليسار، وهنا تَكْمُنُ سُبُلُ تَـقْوِيم وتَثْوِير قوى اليسار. وبِعِبَارَات أخرى، أقولُ أن الضُّعف الموجود في «كَمِّ» قوى اليسار، هو نَتِيجَة للضُّعف الموجود في «كَيْفِ»، أو في «نَوْعِيَّة»، قوى اليسار، أي أنه نَتِيجَة للضّعف الموجود في نَوْعِيَة تصوّرات قِوى اليسار، وفي أفكارها، ومناهجها، وأساليبها، ومُمَارَسَاتها. بمعنى أن قِلَّة أعداد أعضاء قوى اليسار يُخْفِى ضُعْفًا في نوعية خَطِّهَا السياسي. هذه هي الحقيقة الخَفِيَة. بالإضافة إلى ذلك، لَا يَكُون «تَوحِيد» تنظيمات اليسار دَائِمًا سَهْلًا، أو مُمْكِنًا. فَعندما يتـعلق الأمر مثلًا بتنظيمات يسارية مُكَوَّنَة من فِئَات طَبَقِيَّة مُتَـفَاوِتَة، أو مُتَنَاقِضَة، فإن «تَوحِيدها» سيكون صَعْبًا، أو مُهْتَزًّا، أو غير مُسْتَـقِرّ. وفي مثل هذه الحالة، سَيَكُون الحَلُّ، ليس هو «التوحيد»، بمعنى الاندماج التنظيمي التَامّ، وإنما الحلّ هو التَرْكِيز على التَشَاوُر، والتنسيق، والتَعَاوُن، بِهَدَف خَوْضِ أكثر مَا يُمكن من «الحِرَاكَات الجَمَاهِيرِيَة»، و«النضالات الجماهيرية المُشتركة». وكَثِيرِون من المناضلين يفهمون «التَوْحِيد» كَمُجَرَّد عملية «تَجْمِيع»، أو «مُرَاكَمَة»، لِـعِدَّة تنظيمات أو أشخاص، في إطار تنظيمي وَاحِد. وهذا تصوّر قَاصِر. وقد يُؤَدِّي إلى فشل هذا «التَوْحِيد». لأن «التوحيد» النَّاجِح هو الذي لَا يكتفي بِالتَجْمِيع، وإنما يَحْرُصُ أيضًا، وفي نفس الوقت، على تَـقْيِيم، وَتَـقْوِيم، وتَـثْـوِير، العناصر المَطروحَة للتَّوْحِيد. فَتَتَحَوَّل هكذا مناسبة «التوحيد» إلى فُرْصَة لِتغيير وتثوير كل العناصر المطروحة للتوحيد. ويُصبح «التوحيد» سَيِرُورة للتَفَاعُل الثوري، ولِلْارْتِـقَاء بِمُسْتَوَى كل المُكَوِّنَات الرَّاغِبَة في التوحيد إلى مُستوى أَعْلَى. ولكي يَنجح «توحيد» تنظيمات متنوّعة، يجب بالضرورة أن يسبقه التَـقَارُبُ المُتَبَادَل فيما بين هذه التنظيمات، والتَشَاوُر فيما بينها، وكذلك التنسيق، والنقاش، والتَـفَاعُل، وخُصُوصًا التعاون في مَجَال خَوْض «الحِرَاكَات الشعبية»، وفي إنجاح «النضالات الجماهيرية المُشْتَرَكَة». وبعض القِيَادِيِّين في “حزب النهج” ظنّوا أن مُعالجة ضعف قوى اليسار تَمُرُّ عبر تَـقَارُبِه، أو تَعَاوُنِه، أو تحالفه، مع “حزب العدل والإحسان” الإسلامي الأصولي. كأنهم يعتـقدون أن ضُعف قوى اليسار يَكْمُنُ في قِلَّة أعداد مُنَاضِلِيهَا، وأن الحلّ يُوجد في الاِسْتِعَاضَة عن ضُعف اليسار العَدَدِي، بِتَـقَرُّبِه، أو بِتَعَاوُنِه، أو بِتَحَالفه، مع حزب إسلامي أصولي، يُـفْتَرِضُ فيه أنه يتوفّر على قَاعِدة «حَاشِدَة»، أو «ضَخمة»، أو «جماهيرية». وهذا التصوّر هو أيضًا غير كُـفْؤ. لأنه لا يرى الضُّعف سوى في قِلَّة «العَدد» الكَمِّي للمناضلين، أو للأنصار، ولَا يتساءل حول «نَوْعِيَة» هؤلاء المناضلين. ولأنه لَا يهتمّ سوى بالجانب التنظيمي. ويُهْمِل مُهمّة الفَحص النَّـقْدي لِمُجمل المُكَوِّنَات الأخرى التي تُكَوِّنُ الخَطّ السياسي. إنه لَوَهْمٌ فَادِح، وكَابِح (inhibiteur)، الاعتقاد بإمكانية معالجة ضُعف قوى اليسار عبر تَعَاوُنه، أو تحالفه، مع القوى الإسلامية الأصولية. والضِّدَان في السياسة (اليسار والإسلاميين)، لا يتقوّيَان عبر توحّدهما، وإنما عبر صِرَاعِهِمَا الفكري والنضالي، وعبر الانتصار السياسي لأحدهما على الآخر. فَلَا يمكن التوفيق بين طَرَفَين مُتَنَاقِضَيْن (هما اليسار والإسلاميين)، بل يجب معالجة التناقض عبر هزم الطَّرَف المتخلّف، ومناصرة الطرف الأَكْثَرَ تَـقَدُّمِيَةً، أو الأَكْثَرَ ثَوْرِيَةً.وَلَا تُمكن مُعالجة ضُعف قوى اليسار إلَّا عبر مراجعة نَـقْدِيَة، وشَامِلَة، لِكُلّ مُكَوِّنَاتِ خَطِّهَا السياسي (أي المُكَوِّنَات الفكرية، والنظرية، والسياسية، والتنظيمية، والنضالية، والتواصلية، والتطبيقية، إلى آخره). فَلَا مَـفَرَّ مِن مُراجعة، وَفَحْص، ونَـقد، وتَـقْوِيمِ، كلّ هذه المُكوّنات، وتَـثْـوِيرِهَا. وينبغي أن يكون التَـقْوِيم مُتَوَاصِلًا، وليس مؤقّتًا، أو استثنائيّا. وإذا لم تَـقُم قوى اليسار بإصلاح جذري في نوعية تعاملها مع «النضالات الجماهيرية المُشتركة» التي تنطلق من خارج أحزاب اليسار (مثل «حركة 20 فبراير»، أو «حِرَاك منطقة الرِّيفْ»، أو «حِرَاك جَرَادَة»، أو «حِراك زَاكُورَة»، إلى آخره)، فإن جميع الإصلاحات، أو التَـقْوِيمَات الأخرى، ستبقى غير كَافِيَة. وقد لَاحظ المناضلون أن مُجمل الانتفاضات الجماهيرية التي حدثت في كلّ مِن تونس، ومصر، والمغرب، وسوريا، والسودان، والجزائر، والعراق، ولبنان، إلى آخره، بين سنتي 2010 و 2019، انطلقت، ثم تَوَاصَلَت، بِمُبَادَرات من خارج أحزاب اليسار. وهذه الظاهرة ليست مُجَرَّد صُدْفَة. بل تُعَرِّي ضُعْف قوى اليسار. الوضع العَادِي أو المُبْتَغَى، هو أن تكون قوى اليسار طَلِيعِيَة، أي أن تكون سَبَّاقَة إلى إِطْلَاق مُبَادَرَات نِضَالِيَة جماهيرية. لكن عندما تَتَخَلَّفُ تدريجيًّا قوى اليسار، تصبح غير قادرة على المُبَادَرة النضالية، ويُصبح مناضلون مجهولون (كأشخاص متواجدين داخل الجماهير، سواءً كانوا مُتَحَزِّبِين أم لَا) أكثرَ حَيَوِيَّةً وإِبْدَاعًا من قوى اليسار (كمؤسّـسات)، ويَغْدُون قَادِرِين على إِشْعَالِ حركات جماهيرية نضالية. وهو ما حدث مثلًا في حِرَاكَات مثل “حركة 20 فبراير”، أو “حِرَاك منطقة الرِّيفْ”، أو “حِرَاك جَرَادَة”، أو “حِراك زَاكُورَة”، إلى آخره. وَيحتاج تَـقْوِيم قِوَى اليسار إلى خلق سَيْرُورَة شاملة، أو دِينَامِيكِيَة مُرَكَّبَة، تربط جدليًّا بين عدّة عناصر هامّة، وأبرزها: تَحْرِير النقاش والنَّـقد داخل أحزاب اليسار، والمشاركة الفَعَّالَة في مُجمل «النضالات الجماهيرية المُشتركة»، والتَـقْيِيم النَـقْدِي لكل مُكَوِّنَات الخط السياسي، والتَـقْوِيم الحازم والجذري لكل النَـقَائِص التي نَـكْتَشِفُهَا بالتَدْرِيج، سَوَاءً في التصوّرات السياسية، أم في أساليب النضال، أم في نَوْعِيَةِ النضالات المُمَارَسَة. وفي حَالَة غِيّاب هذا التَـقْوِيم، والتَثْوِير، فإن التَـقَارُب، أو التَعَاوُن، مع “الأحزاب الإسلامية” الأصولية، سيكون ضَارًّا لليسار. من الغريب أنه، بدلًا من أن يفكّر “حزب النهج” في «سُوء تَـفَاهُمُه»، أو في تناقضه مع الأحزاب الأكثر قُرْبًا منه (وهي أحزاب اليسار الثلاثة: “حزب الاشتراكي المُوحّد”، و”حزب الطليعة”، و”حزب المؤتمر الاتحادي”)، وبدلًا من أن يُحاول “حزب النهج” معالجة هذا التناقض بمنهج ثوري، فإنه استسلم لهذه الصُّعُوبَة، واختار قَبُولَ هذا الخِلَاف، والتعايُشَ مع هذا التَنَاقُض، والاستمرار فيه، خلال سنوات عَدِيدة، كأنه أمر حَتمي، أو عَادي. واعتبرت قيادة “حزب النهج” أن تـقاربها مِن “حزب العدل والإحسان” الإسلامي قد يُعَوِّض قَطِيعَتَهَا مع أحزاب اليسار الثلاثة. بينما كانت خُطورة هذا «سُوء التـفاهم» تستدعي من قيادة “حزب النهج” أن تُجَنِّدَ كلّ الطّاقات الفكرية المُمكنة لِفَهْم هذا التناقض، وللتَّغَلُّبِ عليه، ولِمُعَالجته بمنهج ثوري، وفي أقْصَرِ وقت ممكن. ومسؤولية عدم معالجة هذا «سُوء التـفاهم» (بين “حزب النهج” وأحزاب اليسار الثلاثة)، لَا تَعُودُ فقط إلى قيادة “حزب النهج”، وإنما تَعُودُ أيضًا، وبنفس الدرجة، إلى قيادات أحزاب اليسار الثلاثة (أي “حزب الطليعة”، و”حزب الاشتراكي الموحّد”، و”حزب المؤتمر الاتحادي”). لأن الفِعْل المطلوب من قيادة “حزب النهج” في مجال الخَلَاص من هذا «سوء التفاهم»، هو نفسه الفعل المطلوب من قيادات أحزاب اليسار الثلاثة. والمَرجو من “حزب النهج”، وكذلك من أحزاب اليسار الثلاثة، ليس هو بالضّرورة التَوَحُّد في «تَحَالُف»، أو «فيديرالية»، أو «جبهة»، أو «حزب مُوَحَّد»، وإنما المطلوب منهم هو خُصُوصًا بَلْوَرَة علاقات مُتنوِّعة، وسَهْلَة، ومَرِنَة، تَسْمَحُ بِتَنْسِيق مُتَوَاصِل، وبِتَعَاوُن صَادِق، وبِمُشاركة جماعية، ومُسَاهَمة فَعَّالة، في مجالات خَوْض، وَتَأْطِير، وإِنْجَاح، «النضالات الجماهيرية المُشتركة»، الجارية في المُجتمع. وبهذه المناسبة، نسأل قيادات أحزاب اليسار الثلاثة: هل تؤمنون بأن تجميع، أو توحيد، أحزاب اليسار الثلاثة في «حزب واحد»، الذي تُركّزون عليه كهدف أساسي، هل سيكون كافيا لمعالجة كل مشاكل اليسار بالمغرب؟ هل تَجِدُون الرَّاحة في إِبْعَاد “حزب النهج”، أو تهميشه، أو عزله؟ هل تَرْضَوْن، كقياديّين حزبيّين يساريين، أن تَرَوْا قوى اليسار بالمغرب تَتَشَتَّت، أو تَضْعُف، أو تَنْحَرِف، بسبب «سُوء تـفاهم» كان بسيطًا في بدايته، دون أن تـقوموا بواجبكم كاملًا في مجالات تـقارِب، وتعاون، وتَكَامُل، أكثر ما يمكن من مناضلي اليسار التـقدّميّين والاشتراكيين والثوريين؟ كيف يمكنكم أن تَتَـفَاهَمُوا مع جماهير الشعب، بينما أنتم تجدون صعوبة في التَـفَاهُم فيما بينكم داخل قوى اليسار؟ هل تعتـقدون صراحةً أن تَعْميق القَطيعة بين أحزاب اليسار الثلاثة (في الفيديرالية) و”حزب النهج” لن تكون له في المستـقبل أيّة تَدَاعِيَات سلبية، بل استراتيجية، على مُجمل مُكَوِّنَات اليسار بِالمغرب، وحتى على طموحات شعب المغرب؟ المسألة ليست فقط مسألة أحزاب مُتنافسة، وإنما مسألة نَوْعِيَة المَنْهَج المُستعمل في التفكير، وفي السُلُوك. وأقول صراحةً أنه لا يُعقل، ولَا يُقبل، مِن كل قيادات الأحزاب اليسارية الأربعة بالمغرب، أن تَتْرُكَ مثل هذا «سُوء التـفاهم» يحدث (بين أحزاب اليسار الثلاثة و”حزب النهج”)، أو أن تَدَعَه يَدُوم، ويَتَعَمَّق، ثم يتحوّل إلى شِبْه قَطِيعَة. بل يقتضي واجب النـقد الثوري، أن نـقول صراحةً، أن بعض القِيَادِيِّين في “حزب النهج” من جهة، وبعض القياديّين في أحزاب اليسار الثلاثة (المُتَـآلِفَة في “الفيديرالية”) من جهة أخرى، يَنْـقُصُهم التَوَاضُع، أو يَسْـقُطُون في الغُرُور، أو التَكَبُّر. ويظنّون أنهم هم وحدهم «ضَرُورِيُّون»، بينما المناضلون اليساريون الآخرون هم «هَامِشِيّون». وَيُمَارِسون تُجاه بعضهم بعضًا، التَعَالِيَ المُتَبَادَل، والتَجَاهُل المُتَبَادَل، والاحتـقار المُتَبَادَل، وأحيانًا التَشَفِّي المُتَبَادَل في مُعاناة مُنَافِسيهم ويتصرّفون في مجال العلاقات البَيْنِيَة (فيما بين قوى اليسار) بِمَنْهَج الـلَّامُبَالَاة، أو الاِنْتِظَارِيَة (wait and see)، أو الحَلَقِيَة (sectarisme)، أو العَصَبِيَة (وذلك عَمَلًا بمبدأ «أُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أو مَظْلُومًا»). وأحيانًا، يُمارسون حتى نوعًا من الكَراهية المُتَبَادَلة. كلّ فَاعِل منهم يتجاهل الطَرَف الآخر، ويُهْمِلُ أفكاره، ويَزْدَرِي أنشطته، ويَحْتَـقِرُ مساهماته النضالية. وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا من بعضهم بعضًا. ولَا يقبلون بأن يَنْتَـقِدَهم مناضلون آخرون. وهذا النَّوْع من المُعَامَلَات (المُمَارَسة فيما بين قوى اليسار) هي عَلَاقات من صِنْف طَبَـقِي «بُرْجْوَازِي»، وبعيدة عن أن تكون «ثورية». ويَفْضَحُ هذا الصِّنْفُ من المُعَامَلَات الطبيعةَ الطَبَـقِيَةَ لِجَانِبٍ مُهمّ من الخط السياسي المُطَبَّق. وبهذه العقلية «البرجوازية» سيكون مشروع «تَعَاوُن»، أو «تحالف»، أو «توحيد» قوى اليسار، صَعْبًا، أو شكليًّا، أو مُهْتَزًّا. قد يقول البعض أن هذه العبارات التي ذكرتُها سَابقًا قَاسِيَة، أو مرفوضة، أو خاطئة. وقد يقول البعض الآخر أنني أجهل بعض المُعطيات عن أحزاب اليسار، أو أنني أبالغ في وصف العُيُوب أو الخِلَافات. ولكن حتى وَلَوْ وُجِدَ جزءٌ يَسِير فقط من هذه الظَوَاهِر التي ذَكَرْتُهَا سَابِقًا، سواءً لدى هذا الحزب اليساري أو ذاك، فَسَيَكُون مَنْبُوذًا. وسَتكون هذه السُّلُوكِيَات مرفُوضَة من طرف المناضلين الثوريين. ونحن نُعَارض هذه السُّلُوكِيَات، ونعتبرها غير جَدِيرة بأحزاب تـطمح لكي تكون تـقدّمية، أو ديموقراطية، أو ثورية، أو يسارية، أو اشتراكية. ولَا نرضى أن تكون أيّة واحدة من بين قوى اليسار بالمغرب غارقة في مثل هذه السُلُوكِيَات الضَيِّـقَة الأُفُق (sectaires). ونُشَدِّدُ على أن المناضل الثوري المُنْسَجِم، هو الذي يرفض أيَّ عمل يؤدّي إلى تَـفَاقُم التَبَاعُد فيما بين المناضلين الثوريين. بل يَحْرُصُ المناضل المُنْسَجِم على تشجيع كل ما يُقَرِّبُ مُجمل المناضلين الثوريين، أو يجمعهم، أو يوحّدهم، في «النضالات الجماهيرية المُشتركة»، والمَلْمُوسة، والثورية. قد يـقول بعض القيادِيِّين في أحزاب اليسار أن ذلك «التَبَاعُد» (بين “حزب النهج” وأحزاب اليسار الثلاثة) ناتج عن تناقضات في الاختيارات السياسية، والتكتيكية، والاستراتيجية؟ طَيِّب، في هذه الحالة، لماذا لَم تَخُوضُوا الحِوَارَ حول هذه الخلافات؟ لماذا لم تَتَبَادَلُوا النـقدَ المكتوب، والرَزِين، والمُعَمَّق، لإقناع بعضكم بعضًا؟ لماذا لم تَـخُوضُوا الصراعَ السياسي النظري، والعَلني، وبأسلوب بَنَّاء، فيما بينكم حول خِلَافَاتِكُم؟ لماذا لَم تعملوا بهدف إزالة «سُوء التـفاهم» الموجود فيما بينـكم؟ لماذا لم تجتهدوا لِتَـقْلِيصِ المَسَافَات التي تَفْصِلُ فيما بينـكم؟ وإن اِدَّعَيْتُم أنـكم قُمتم في الماضي بذلك النـقد المكتوب، والرَّزِين والمُعمّق، فَاذْكُرُوا لَنَا: ما هي المراجع، أو ما هي الوثائق، التي نشرتم فيها هذا النـقد المُتَبَادَل؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ وكيف تـفاعَلت مُختلف قِوى اليسار مع هذه الوثائق النَاقِدَة (في حالة وُجُودِهَا)؟ وكيف كان رَدُّهُم، ثمّ رَدُّكُم عليها؟ وكيف كانت نتائجها؟ وما هي أسباب ضعف تأثير تَبَادُل هذه الانتقادات؟
وأثناء بعض نـقاشاتي الشخصية، مع بعض القياديّين في أحزاب اليسار الأربعة، وعندما ضَغَطْتُ عليهم لِتَلْخِيص مُبرّرات سُلُوكهم الانعزالي تُجاه بعضهم بعضًا، سَأَلْتُهُم: «لماذا كل هذا التَنَافُر، والتَبَاعُد، فيما بين أحزاب اليسار الثلاثة وحزب النهج»؟ فَـأَجَابُوني (بِمَا معناه): «نحن نختلف في كل شيء، فكيف تُريد منَّا أن نتـقارب، أو أن نَتَعَاوُن، أو أن نتوحّد»؟ ونَرْجُو هنا، من قيادات اليسار الأربعة، الانتباه إلى دِقَّة الانتـقادات المُوَجَّهَة إليها، والرَّامِيَة إلى إزالة جزء من «سُوء التـفاهم» الأصلي، الحاصل فيما بينها. وهنا قد يتساءل فَوْرًا القارئ: «وهل يوجد “سُوءُ تَـفَاهُم أَصْلِي” فيما بين قوى اليسار»؟ الجواب: نعم، تُوجد، مع الأسف، «سُوءُ تَـفَاهُمَات» كثيرة، ومُزْمِنَة، فيما بين قوى اليسار بالمغرب! ومن بين هذه «سُوء التَـفَاهُمات»: أن الأشخاص المسؤولين في قيادات أحزاب اليسار الأربعة لهم أفكار مُسْبَـقَة (préjugés) عن بعضهم بَعْضًا كَقِوَى يسارية. وأنهم لا يجتهدون بما فيه الكفاية للاتّصال المباشر بِنُظَرَائِهِم في أحزاب اليسار الأخرى، وَلِلتَّأَكُّدِ من مَدَى صحّة المواقف، أو التصوّرات، التي يحملونها عن بعضهم بعضًا. و«لَعَلَّ أهمّ أسباب الفشل في فهم الآخر، هو اختزاله في جانب واحد… وعدم الانصات… والتمركز حول الذَّات… والأحكام المُطلقة… و”الكْلِيشِيهَاتْ”، والصُّوَر النَمَطِيَّة التي تُدرج الآخر في خانتها… ويؤدّي سوء التفاهم في الغالب إلى قطع العلاقات وليس إلى إصلاحها»(1). ومن بين «سُوء التفاهمات» أيضًا أن قادة أحزاب اليسار الأربعة، ظلّوا يظنّون، خلال أكثر من عشرين سنة، أن ما يطلبه منهم جمهور المناضلين القاعديين في مُعَسْكَر اليسار، هو «التَوَحُّد» في «تَحَالُف»، أو في «فيديرالية»، أو في «جبهة»، أو في «حزب» واحد. وظَلُّوا يُرَكِّزُون جهودهم على نِـقَاش الإشكاليات التنظيمية لهذا «التَوَحُّد» في “جبهة مُوَحَّدة”، أو في “حزب واحد”، خلال أكثر من 20 سنة. وكان انشغالهم بمشاكل مشروع هذا «التَوَحُّد» على حساب جَوْدَة المُشاركة الفعّالة في «النضالات الجماهيرية المُشتركة» الجارية (مثل “حركة 20 فبراير”، و”حِرَاك منطقة الرّيفْ”، إلى آخره). وهذا «سُوء تـفاهم» كبير. لأن ما يطلبه معظم المناضلين القاعديين من قيادات قوى اليسار بالمغرب، ليس بالضّرورة هو «التَوَحُّد» في إطار «تحالف»، أو «فيديرالية»، أو «جبهة»، أو «حزب». وإنما المطلوب من أحزاب اليسار الأربعة هو خُصُوصًا التنسيق، والتعاون، والتَكَامُل، والمُسَاهَمَة في خَوْضِ وإنجاح «النضالات الجماهيرية المُشتركة»، الملموسة على أرض الواقع. هذا هو المطلب الرئيسي. أما إذا كانت بعض قيادات أحزاب اليسار تريد إنجاز أكثر من ذلك، مثل التَوَحُّد في «تحالف»، أو في «جبهة»، أو «حزب»، فذاك شُغلها. ونحن سَنُصَفِّـقُ لَها كُلَّمَا تَـقَارَبَت فيما بينها، أو تَعَاوَنَت، أو تَكَامَلَت، أو تَوَحَّدت. وسَنُدَعِّمُهَا كلّما اهتمّت بأوضاع الجماهير ونضالاتها. لكن ما يهمنا أكثر، هو خُصوصًا المشاركة المَلْمُوسَة، والمُكَثَّفَة، والفَعَّالة، لكل قوى اليسار، وبدون استثناء، في خوض وإنجاح «النضالات الجماهيرية المشتركة»، الجارية في الميدان، وعلى أرض الواقع. ولو كانت هذه النضالات الجماهيرية من مُبادرة فَاعِلِين غير أعضاء في أحزاب اليسار. وَلَوْ بَـقِيَت هذه «النضالات الجماهيرية المُشتركة» عَفْوِيَة، أو مُبْهَمَة، أو غير مُنظّمة، أو بِدُون قِيَادة، أو بدون مطالب مُوحّدة (مثلما كان الأمر في «حركة 20 فبراير»، أو في «حِرَاك منطقة الرِّيفْ»، أو في «حِرَاك جَرَادَة»، إلى آخره). وإذا كُنَّا نعترف بِحَقِّ كل شخص أو جماعة في لُجُوئِهِ إلى تأسيس حزب خاصّ به، أو نقابة خاصّة به، أو جمعية خاصّة به، فإن العَيْبَ الذي نَكْرَهُه هو تَهَرُّب أي شخص مناضل، أو جماعة مناضلة، من المُشاركة بِتَوَاضُع في خوض «النضالات الجماهيرية المُشتركة». وواجب كل مناضل ثوري نزيه، سواءً كان في هذا الحزب اليساري أو ذاك، هو أن يَحُثَّ حزبَه على أن يُشارك، بِتَوَاضُع، وِفَعَالية، إلى جانب مُجمل قوى اليسار الأخرى، في أكثر ما يمكن من هذه «النضالات الجماهيرية المشتركة»، دون أن يحاول احتكارها، أو استغلالها، أو السَّيْطَرة عليها.
ولتوضيح موقفي، أقول: إن «التنظيم» هو فِعْلًا ضَرُوري، ومُهمّ، وَحَاسِم. بل إنّ جَوْدَة «التنظيم» هي التي تُحدّد فِعْلًا حُظُوظ النّجاح أو الانتصار. لكن أهمية «التنظيم» تبقى، رغم ذلك، نسبية. لماذا؟ لأن «التنظيم» لَا يكفي وحده. ولأنه تُوجد عناصر أخرى تلعب هي أيضًا أَدْوَارًا مُهمّة، أو حاسمة. ولأنه إذا ما وُجِدَت نُقَط ضُعف في هذه الجَوَانِب الأخرى، مثل التصوّرات النظرية، أو نوعية التكتيك، أو أساليب النضال، أو صِنْف التحالفات، أو سَدَادة الأهداف، إلى آخره، فإن «التنظيم» سيصبح غير كَاف. وفي ظُروف القمع السياسي القائمة حاليا بالمغرب، أفضّل شخصيًّا أن لَا يتوحَّد اليسار كلّه في حزب واحد. لأنه في هذه الحالة، إذا تعرّضت قيادة هذا الحزب المُوَحَّد إلى قمع استئصالي، أو إلى تَسَرُّب بُوليسي، فَمِنْ المُحتمل أن تُصبح مُجْمَل قَوَاعِد هذا الحزب مَشْلُولة، أو عاجزة. أما إذا كان اليسار يتواجد في حزبين، أو في ثلاثة أحزاب يسارية متنافسة، لكنها مُتَعَاوِنَة ومُتَكَامِلَة فيما بينها، فإن قُدْرَتها على مقاومة القمع، وتجاوزه، قد تكون أحسن مِمَّا لو كانت على شكل حزب واحد. بمعنى أن المُهِمّ، ليس هو «اندماج اليسار في تنظيم واحد»، وإنما هو الوحدة في «النضالات الجماهيرية المُشتركة». وبعبارة أخرى، المهم، هو أن تُوجد «الوحدة الثورية» في العُقُول، وفي الطُمُوحَات، وفي الممارسة، ولا يكفي أن تُوجد الوحدة في الهَيَاكِل التنظيمية. وقد تَكَوَّنت مؤخّرًا في المغرب (في 09-11-2019) «الجبهة الاجتماعية المغربية». وضَمَّت قُرَابَة ثلاثين (30) تَنْظِيمًا. وشملت جَمْعِيّات، ونقابات، وتنظيمات شَبَابِية، وَتنظيمات نِسَائِية، وأحزابًا. وضَمَّت هذه «الجبهة الاجتماعية» أحزاب اليسار الأربعة. وهذا التَـقَارُب (بين أحزاب اليسار الثلاثة وحزب النهج) هو تَـقَدّم مَلْمُوس. وتتمثّل أهداف هذه «الجبهة الاجتماعية» في الدفاع عن الحقوق والحريات للجماهير الشعبية. وهذا التعاون اليساري «الجَبْهَوِي»، إيجابي، وَمُهِم. لكن لَا ينبغي أن تُخْفِيَ عَنّا ضَخَامَة هذه التَكَتُّلَات سَلْبِيَّاتِها. حيث يجب الانتباه إلى أن كلّ التكتّلات التي تَرْجِعُ العضوية فيها إلى هَيْئَات أو مُؤَسَّـسَات (حزبية، ونـقابية، وجَمْعَوِيَة)، ولَا تَعُودُ العضوية فيها إلى مُواطنين أشخاص، تَتَمَيَّزُ دائما هذه التَكَتُّلَات بِخَاصِّيَة سلبية. وهذه الخَاصِّيَة هي أن هذه التَكَتُّلَات تبقى دائمًا بَطِيئَة في تفكيرها، وفي تَحَرُّكِهَا، وفي اتخاذ قراراتها، وفي رُدُودِ أَفْعَالِهَا، وفي إطلاق مبادراتها. لأن كل هَيْئَة عُضْوَة في هذا التَكَتُّل تحتاج عادةً إلى بَلْوَرَة مَوْقِفِهَا الخاص بها كَهَيْئَة. وتحتاج إلى الرُّجُوع إلى تنظيماتها الخاصّة لِكَيْ تَتَّخِذَ فيها قرارات مركزية ومسؤولة. وتحتاج في ذلك إلى وقت، وإلى اجتماعات، وتَنْسِيقَات، ومشاورات، وإجراءات تنظيمية مُعقّدة. ومنطق تكوين هذه التَكَتُّلَات يؤدّي بها إلى تطبيق نوع من «المُحَاصَصَة» فيما بين مُكَوِّنَاتِهَا. و«المُحَاصَصَة» تُركّز على «العَصَبِيَة»، وليس على الكَفَاءَة. وَيَصْعُب إبقاء هذه التَكَتُّلَات الضّخمة على قيد الحياة خلال وقت طويل. بينما حَركات «النضالات الجماهيرية المشتركة»، التي تكون العضوية فيها مفتوحة لكل المواطنين الأشخاص التقدّميين (مثل «حركة 20 فبراير»، و«حِرَاك منطقة الرِّيفْ»، و«حِرَاك جرادة»، و«حِرَاك زَاكُورة»، إلى آخره)، تكون سَيِّدَة نفسها، وتُسَيِّرُها «تَنْسِيقَات» شبه سِرِّيَة، وَ«لِجَان مُتَخَصِّصَة»، و«جُمُعَات عامّة» غير مَضْبُوطَة. فتكون هذه «الحَرَكَات النضالية الجَمَاهيرية المشتركة» مُهَلْهَلَة، لكنها في نفس الوقت حَاشِدَة في تَحَرُّكَاتِها، وقويّة في تأثيرها، وسريعة في تَأَقْلُمِهَا مع تطوّر الأوضاع، وخِصْبَة في مجال إِبْدَاع أساليبها النضالية، وسَهْلَة في تَطْوِيرِ أهدافها. وكلّ واحدة من بين القِوَى السياسية المُشاركة في هذه «النضالات الجماهيرية المُشتركة» تظنّ أنها قادرة بوحدها على قيادة هذه «النضالات الجماهيرية المُشتركة»، لكنها تعجز عن ذلك. ونُـقْطَة ضُعف حركات «النضالات الجماهيرية المشتركة» تأتي بالضّبط من نُـقطة قُوّتها. وهي أنها مفتوحة لكل المواطنين (بما فيهم البُوليس السِرِّيِين، والمُخْبِرِين المُسْتَتِرِين، والبَلْطَجِيَة المُتَخَـفِّين)؛ ولَا تتوفّر على قيّادة موحّدة؛ ويَغْلُبُ أَحْيَانًا عليها الاِرْتِجَال، والعفوية، والغُمُوض؛ ويكون التحكّم فيها صعب، أو شبه مستحيل. فَلِكُل صِنْـف من «الحركات النضالية الجماهيرية المشتركة» إِيجَابِيَّاتُه وسَلْبِيَّاته. ويَكْمُن فَنّ القيادة الثورية في استعمال أصناف مُتنوّعة ومُتكاملة من هذه «الحركات النضالية الجماهيرية المُشتركة». وبعد الإعلان عن تأسيس «الجبهة الاجتماعية المغربية»، عبّر أحد أعضاء قيادة “حزب العدل والإحسان” (الإسلامي الأصولي) عن اِمْتِعَاضِه من عَدم دَعْوَة حزبه الإسلامي إلى العُضْوِيَة في هذه «الجبهة الاجتماعية». واتهم مؤسّـسِيها بـ «الإِقْصَائِيَة». وفي رأيي، يجب فعلًا على قِوَى اليسار أن «تُـقْصِيَ» كلّ تنظيم إسلامي أصولي لَا يَلْتَزِم رَسْمِيًّا، وفِعْلِيًّا، بمَنْعِ التَكْفِير، وبِالفَصْل بين الدِّين والدولة، وبالفصل بين الدِّين والسياسة، وبحرّية العَقِيدَة، وبحرّية العِبَادَة، وبحرّية عَدَم العبادة، وعدم الاستقواء بدول أجنبية. لأنه لَا يُعقل أن تتعاون حركة يسارية (تُناضل من أجل الديموقراطية، والحرّيات الشخصية، وحقوق الانسان، والاشتراكية)، مع حركة إسلامية أصولية (تُحَارِبُ تلك الحرّيات والحقوق). ولأنه سيكون من العَبَث أن يتعاون من يُشَيِّد، مع مَن يُخَرِّب. وسيكون مُنَافِيًّا للعقل أن يتعاون من يُجُرُّ إلى الأمام مع مَن يَجُرُّ إلى الوَرَاء. ولَا يُـقْبَل أن يَتَآزَرَ مَن يُحَرِّر، مع مَن يُكَبِّل. وتَجْذُر الإشارة إلى أن مَوْجَات «الربيع الديموقراطي»، أو «السَّيْرُورَات الثورية»، التي اِشْتَعَلَت في بعض البلدان الناطقة بالعربية، مثل تُونس، ومصر (في نهاية سنة 2010)، ثم سوريا (في سنة 2012)، ثم السودان، والجزائر (في 2019)، ثم لبنان، والعراق (في نهاية 2019)، سَتَحْدُثُ مَثِيلَتُهَا بالتَّأْكِيد في المستقبل بِالمغرب. وسَتَتَطَوَّرُ هذه «الحركات النضالية الجماهيرية المشتركة» بسرعة نِسْبِيَة من «الاحتجاج» ضدّ البِطَالَة والفساد والاستبداد، إلى رَفْع شِعَار «إسقاط النظام». ومن الواجب أن تكون قوى اليسار بالمغرب جاهزة لمثل هذه الاحتمالات أو “السِّينَارْيُوهَات”. كما ينبغي على قوى اليسار أن تتوفّر على تصوّر متكامل ومُسْبَق، وعلى برنامج ثوري دَقِيق وَجَاهِز. لن نقبل من قوى اليسار بالمغرب أن تُكرّر ما حدث في السودان، أو الجزائر، أو لُبنان، أو العراق، أي الاكتفاء بِالمطالبة بِـ «حكومة مكوّنة من كَفَاءَات أو تِـقْنُوقْرَاط» (technocrates)، وتنظيم «انتخابات نزيهة»، و«محاكمة الفاسدين»، إلى آخره. لأنه لَا يُعقل أن «نَطْلُب» من نظام سياسي فاسد، ومُستبد، ومُفْلِس، أن يُحقّق لنا نظامًا سياسيا دِيموقراطيا بديلًا. ولأنه لَا يُعْقَل أن تعترف قوى اليسار بِأَنّ «المُعَرْقِل لأيّ إقلاع اقتصادي أو دِيموقراطي… يُوجد في طبيعة النظام السياسي»، وأن تطلب، في نفس الوقت، قوى اليسار من هذا النظام السياسي القائم «أن يُنْجِزَ الإصلاحات الضرورية»(2). ولأن واجب قوى اليسار، خلال هذه الفترات الثورية، ليس هو أن «تُطالب» بإصلاحات، وإنما هو أن تُـقْدِمَ، هي بنفسها، وبِجُرأة، على «إنجاز» تلك التغييرات الثورية التي تَتَمَنَّاهَا. وعلى الشعب أن لَا يَكْتَفِيَ بِقَوْل «نُرِيد»، بل عليه أن «يُنْجِزَ» هُوَ نَفْسُهُ ما يُريد. بِواسطة ماذا؟ بواسطة «لِجان الكَادِحِين الثوريين» المُنَظَّمَة في كل مُؤَسَّـسَات المُجتمع. أمّا إذا استمرّ جزء من اليسار (مثل بعض أعضاء “الحزب الاشتراكي المُوَحَّد”، أو “حزب المؤتمر الاتحادي”) في إِصْرَارِهِ على عدم تَجَاوُز «سَقْف المَلكية البرلمانية»، رغم نُضْجِ شُروط الثورة المُجتمعية، فَسَتَحْدُث كارثة سياسية، أو نَكْسَة تاريخية. لكن هذا موضوع آخر (أنظر: “نقد سَقْف الملكية البرلمانية”، رحمان النوضة، على مدوّنته: https://LivresChauds.Wordpress)(3).
ويظهر أن جُزءًا من المناضلين، الموجودين في بعض قوى اليسار بالمغرب (مثلًا في “حزب الاشتراكي المُوَحَّد”، وفي “حزب المؤتمر الاتحادي”)، خَافُوا مِن عودة شعار «إسقاط النظام» الذي طرحه بعض المتظاهرين في “حركة 20 فبراير” (في سنة 2011)، وتَبَنَّوْا أُطْرُوحة «مَنْع النضالات مِن تجاوز سَقْـفَ المَلكية البرلمانية». وأصبحوا يُرَاهِنُون على «الانتخابات» المُؤَسَّـسَاتِيَة وَحْدَهَا؛ ويَتَـقَيَّدُون بالقوانين القائمة رغم أنها اسْتِبْدَادِيَّة؛ وَيُهَادِنُون الرأسمالية؛ وينفرون من «النضالات الجماهيرية المشتركة». ويظهر أن بعض المناضلين أَخْفَوْا تَخَلِّيَهم عن «الماركسية». ولم يَعُودوا يُؤْمِنُون بِـ «الاشتراكية»، رغم أن اِسم حزبهم مَا زال يحمل صِفَة «الاشتراكي». وَيُؤَوِّلُون «الاشتراكية» كَنَوع من «الرأسمالية المُلَطَّـفَة». ويحملون برنامجا سياسيا مُسْتَتِرًا يَتَلَخَّصُ في: «الفوز في الانتخابات، والوصول إلى الحكومة، وإِصْلَاح الرأسمالية، من داخل النظام السياسي القائم». إنهم يَظُنُّون أنه بِإمكانهم «تَلْطِيف الرأسمالية»، أو «إصلاحها»، أو «أَنْسَنَتِهَا». وهذا وَهْمٌ مَعْرُوف، وقديم، ومُتكرّر. بينما الحقيقة الأكيدة اليوم هي أنه لَا يمكن إصلاح الرأسمالية، ولَا تحسينها، ولَا أَنْسَنَتُهَا. بل يجب تحطيمها، واستبدالها بِـ «اشتراكية ثورية»، قبل أن تقضيَ هذه الرأسمالية كلّيًا على البِيئَة، وعلى البَشرية. وقد حَانَ الوقت لكي يُصبح مجمل مناضلي اليسار مُـقْتَنِعِين بأن الرأسمالية غَدَت اليوم عاجزة على مُعَالَجَة أيّ مشكل من بين المشاكل الأساسية المطروحة في المُجتمع (مثل الخُروج من التخلّف المُجتمعي المُرَكَّب، أو تحقيق التحرّر الوطني، أو التنمية الاقتصادية الشّامِلَة والعادلة، أو الخَلَاص من الفوارق الطَبَـقِيَّة، إلى آخره). وبعض المناضلين الآخرين في اليسار تَكَتَّمُوا عن تَخَلِّيهم عن «الثورية»، ولم يعودوا يُؤمنون بِـ «الثورة الشعبية». وبعض المناضلين يُناصرون «الثورة المُجتمعية» قَوْلًا، لكنهم يَتَلَافَوْنَهَا فِعْلًا. وإذا كانت هذه الظواهر موجودة حَقًّا في صفوف اليسار، فستكون مُؤْسِفًة، وخاطئًة. ونتمنّى أن يَتِمَّ تَطْوِيقُها، وتصحيحها، في أسرع وقت ممكن. وذَكَّرَتنِي هذه الظاهرة بأخرى مُمَاثلة لَاحظتُها في المغرب إبّان تَسَلْسُل الاعتقالات في صفوف تنظيمات «إلى الأمام»، و«23 مارس»، و«لِنَخْدُم الشّعب»، بين نهاية سنة 1974 وبداية سنة 1975. حيث بَيَّنت التَصْفِيَة القَمْعِيَة لِهذه التنظيمات أن نسبة هامّة من مسؤوليها وأعضائها لم يكونوا يؤمنون جِدِّّيًا لَا بالثورة، ولَا بالماركسية، ولَا بالاشتراكية. فلمّا تَعَرَّضُوا لِلتعذيب، اِنْهَارُوا، وأعطوا جزءًا من معلوماتهم إلى الجَلَّادِين. فَأَدَّى تَسَلْسُل الاعتقالات إلى تَصْفِيَة مُجمل هذه التنظيمات واسْتِئْصَالها. ولِتَلَافِي مَآسِيَ مُشابهة أو غير مَرغوب فيها، يجب على كلّ من لَا يؤمن حَقًّا بالثورة والماركسية والاشتراكية، وعلى كلّ من لَا يقدر على التَضْحِيَة بحياته دِفَاعًا عن الثورة المُجتمعية، أن لَا يُرَشِّح نفسه لِتحمّل أيّة مسؤولية في تنظيمات ثورية. إن مشكل نوعيّة الخط السياسي الذي يحمله الحزب اليساري، يرجع إلى مشكل الطبيعة الطبقية لقيادة هذا الحزب المعني. [ولَا أقصد هنا أن يكون قَادَةُ التنظيم الثوري عُمَّالًا بِمِهَنِهِم، وإنما أَعْنِي أن يكونوا “ابْرُولِيتَارِيِّين بِعُقُولِهم]. لأن الطبيعة الثورية، أو الطبقية، لقيادة الحزب اليساري، ليست مُؤَكَّدة، ولا مضمونة، ولا محسومة، بشكل نهائي. بل تخضع هذه الطبيعة الطبقية (لقيادة الحزب اليساري) لتأثيرات الصراع الطبقي الجاري داخل المُجتمع (وحتّى داخل الحزب الثوري)، بين طبقة المُسْتَغِلِّين وطبقة المُسْتَغَلِّين. ونتيجة ذلك هو أنه يمكن للحزب الثوري أو اليساري أن ينحرف، أو أن يَتَبَرْجَز، دون أن يَعِيَ أنه دخل في ذلك الانحراف. لأن الصراع الطبقي الجاري في المجتمع يَبْعَثُ بالضّرورة تأثيرات، أو مَفَاعِيل، تخترق هذا الحزب الثوري أو اليساري. فالحزب هو أيضًا ميدان للصراع الطبقي. ولا يستطيع أن يَنْجُوَ من مَفَاعِيل الصراع الطبقي. ومن الممكن أن يتحوّل الحزب الثوري أو اليساري إلى حزب انتظاري، أو إصلاحي، أو رأسمالي، أو يميني، دون أن يَعِيَ أعضاءه ذلك التحوّل (مثلما حدث لِـ «حزب الاتحاد الاشتراكي» ما بين سنتي 1975 و 1995). ولا تُمارس تنظيمات اليسار الصراع النظري والسياسي فيما بينها. ولا تنشر دراسات تُعَمِّقُ بعض الجوانب الغامضة في خَطِّهَا السياسي. وقد يكون أحد الأسباب في ذلك هو أن قوى اليسار لا تُدرك أنها هي نفسها مَيْدَان مُخْتَرَق من طرف الصراع الطبقي، وأن الخلافات الموجودة فينما بينها هي تعبيرات عن تناقضات طبقية قائمة في المُجتمع. فلا يمكن لأي تنظيم يساري أن يُحافظ على تَوَجُّه ثوري، إذا لم يُمارس الصِّرَاع السياسي النظري، وإذا لم يُخْضِع خطه السياسي (بجانبيه الرّسمي والفعلي)، وبشكل مُتَوَاصِل، إلى المُراجعة، والمُسَائَلَة، والتَـقْيِيم، والنـقد، والتَـقْوِيم، والتَثْوِير.ولِمُعَالَجَة مشاكل المُجتمع، لَا نتوفّر سوى على طَرِيقَيْن فقط: فَإمَّا أن نَتّبِعَ طريق الرأسمالية، وإمّا أن نَسْلُكَ طريق الاشتراكية الثورية. ولَا يُوجد خِيَّار آخر. وتُبَيِّن أوضاع معظم بلدان العالم أن الرأسمالية أعطت أقصى ما يُمكن أن تُعْطِيّه، وأصبحت تُنْتِج الكَوَارِث المُجتمعية أكثر مِمَّا تُنتج السِّلَع، والخدمات، والفوائد. خاصّة في بلدان “العالم الثالث” الخاضعة للتَّـبَـعِيَة للإمبريالية. ومن واجب قوى اليسار أن تُعِيدَ الاعتبار إلى النظرية الماركسية، لكن بِدُون دُوغْمَاتِيَة (dogmatisme). خاصّة وأن الماركسية مُؤَهَّلَة لِنَـقد نفسها بنفسها. ومن مصلحة قوى اليسار أن تنطلق من الماركسية (وليس من «الْلِّيبِيرَالِيَة» الرأسمالية). ومن مصلحة قوى اليسار أن تستوعب الماركسية، وأن تَسْتَرْشِدَ بها، وأن تُسَاهِمَ في إِغْنَائِهَا، وفي تطويرها، في ارتباط بتطور واقع المُجتمع، وفي ارتباط بتطوّر تاريخ الصراع الطبقي (محلّيًا وعالميًّا). وعلى خلاف الشَك النظري، أو التِّيه الفِكْرِي، الذي أَصَابَنَا جَميعًا داخل قوى اليسار، بِدَرَجَة أو بِأُخرى، بعد انهيار “الاتحاد السوفياتي”، في سنوات 1991، فقد أصبحنا اليوم نُدْرِكُ بِعُمْق أحسن التَـفَاوُتَ القائم بين النظرية والتطبيق. وَغَدَوْنَا نَسْتَـدْرِك أن النظرية والتطبيق هما معًا مَيْدَانَيْن للصراع الطبقي. وأن مَا انْهَار في الاتحاد السوفياتي هو «رأسمالية الدولة»، وليس «الاشتراكية الثورية»(4). ويَتَّضِحُ اليوم لِأعداد مُتَزَايِدَة من المناضلين أن المصدر الأساسي لمشاكل المُجتمع يَكْمُنُ في الرأسمالية. وأن السبب في انتشار الفَرْدَانِيَة، والانتهازية، والانهزامية داخل الشعب، يَكْمُنُ في الاِسْتِلَاب (aliénation) الذي تَفْرِضُه الرأسمالية على المُواطن. وحتّى اِضْمِحْلَال الديمقراطية وحقوق الانسان، الجاري حاليًّا، يَنْتُج هو نفسه عن تَوَحُّش الرأسمالية. وأن هذه الرأسمالية ذاهبة إلى الزَّوَال. وأن المُعطى الأساسي هو واقع الصراع الطبقي القائم. وكلّ شخص يَنْفِي وُجُود الصراع الطبقي، أو يَتَخَلَّى عن الماركسية، أو عن الاشتراكية، سيؤدّي به اختياره هذا إلى حَبْسِ نفسه داخل سِجْن الفكر الرأسمالي المُسْتَلَب (aliéné). وليس لنا اليوم من خيّار سوى هزم الرأسمالية، أو الاستسلام المُطلق لِوَيْلَاتِهَا المُتَوَالِيَة والمُتَعَاظِمَة. ونَرْفُضُ هنا منهج العملَ بِأَنْصَاف الحُلُول، لأنه يُؤَدِّي إلى فشل كَامِل. وقد أشرتُ (مثلًا في كتابي “نقد أحزاب اليسار”، ويمكن تحميله من المُدَوَّنة: https://LivresChauds.Wordpress)(5) إلى أن مستوى تكوين مناضلي أحزاب اليسار غير كَاف. وكل حزب يساري يَـفْـتَـقِرُ إلى أُطُر (أو كَوَادِر) ثورية كُـفْـئَـة، سيبقى ضعيفًا. وكلّ حزب يساري ضعيف، قد يَلْجَأُ إلى مُحاولة الاِسْتِـعَاضَة عن ضعفه بِـ «تـعاونه»، أو «تحالفه»، مع حزب يَمِينِي (سَواءً كان هذا الحزب “رَأْسْمَاليًّا”، أو إسلاميًّا أُصُولِيًّا). [ونُذَكِّرُ في هذا المجال أنه، إذا كان جزء من “حزب النهج” اليساري يُحَبِّذُ التعاون مع “حزب العدل والإحسان” الإسلامي الأصولي، فإن جزءًا من “الحزب الاشتراكي المُوحّد” اليساري يُحَبِّذُ التعاونَ مع “حزب الاِتِّحَاد الاشتراكي” اليميني. وهَاتَان الخُطَّتَان هما معًا مُتَشَابِهَتَيْن، وغير سَلِيمَتَين]. وسيكون الاحتمال الأكبر، في هذه الحالة، هو اِلْتِهَام الحزب اليساري الأَضْعَف، من طرف الحزب اليميني الأَقْوَى، أو الأكثر تَأْثِيرًا. وبدلًا من ملاحظة ضُعف حزب يساري مُحدّد، وبدلًا من الشُّرُوع فورًا في تقويم وتثوير هذا الحزب، يستعمل بعض قَادته حُجَّة «ضعف» هذا الحزب اليساري لتَبرير تقليص أنشطته، ولِتَـقْزِيم طُمُوحاته السياسية. فيدخلون هكذا في “حلقة مُفْرَغَة” سلبية (cercle vicieux): فَيَتَطَوَّرُ هذا الحزب من الضُّعف إلى الجُمُود، ومن الجُمُود إلى مزيد من الضعف. ومن بين أسباب ضُعف قوى اليسار، أنها لا تـقوم بِعَمَل مُمَنْهَج، وَمُتَوَاصِل، لتكوين أعضائها، وأنصارها، ولِتَحْوِيلِهِم إلى أُطُر (أو كَوَادِر) ثَوْرِيَة من مستوى عَالٍ. وفي مجال التَكْوِين المُسْتَمِر، تَتَشَابَه نِسْبِيًّا الأحزاب مع المُقاولات: حيثُ لَا يمكن لأيّ حزب أن يتقدّم، أو أن يَنْمُوَ، أو أن يَتَـقَوَّى، إِلَّا إذا كان هذا الحزب يُوَفِّرُ لأعضائه تَكْوِينًا مُتَنَوِّعًا ومُتَوَاصِلًا، بهدف تَـقْوِيَة قُدُرَاتِهِم، وتحسين فَعَالِيَّاتِهم. ويجب أن يكون وَاضِحًا لَدَى الجميع أن الأطر الثورية الكُفْأَة لَا تَنْشَأُ بشكل عَفْوِي، وَلَا تظهر بشكل اعْتِبَاطِي. والتكوين الناتج عن المشاركة في النضالات الجماهيرية ضَرُورِيٌّ ومُهِمّ، لكنه لَا يكفي. ولَا يجوز الاعتماد على هذه العَفْوِيَة. بل يحتاج تكوين الأُطُر الثورية إلى مدارس عِلمية ومضبوطة. كما يحتاج إلى مُكَوِّنِين ثوريين، ذوي تَجَارِبَ وخِبَرَات دَقيقة في مجالات النضال الثوري. ويَنْبَغِي أن يَتَـضَمَّنَ هذا التكوينُ تَدْرِيسَ مَعَارفَ مُعَمَّـقَة، وخِبْرَات ثَورية مُتَجَدِّدَة، ومناهج عِلْمِيَة دَقيقة. وأدنى ما يجب فِعله، هو مُرَاكَمَة التَجَارِب والمَعَارِف، وقِيَّام الأجيال المُسِنَّة من المناضلين الثوريين، بِتَمْرِير مَعَارِفِهَم، وتَجَارِبَهم، وخِبْرَاتِهَم الثورية، إلى أجيال المناضلين الشَبَاب. دون أن ننسى مُهمّةَ إخضاع تلك المعارف والتجارب للتَّـقْيِيم، وللنَّـقد، وللتَّـقْوِيم، ولِلتَّثْوِير. أما إذا كان الحزب يعتمد على كل وَاحد من أَعْضَاءِه لكي يُكَوِّن نفسه بنفسه، انطلاقًا من الصِّفْر، فستكون النتيجة هي هَيْمَنَة الرَّدَاءَة. وبالإمكان رفع مُستوى فَعَالِيَة مناضلي قوى اليسار، بشرط أن تهتمّ جِدِّيًا قيادات أحزاب اليسار بهذا النَّـقْص. وإذا قَامَت قيادات أحزاب اليسار بِتَنْظِيم مدارس مُشتركة (فيما بين قوى اليسار) لتكوين الأطر الثورية، وَإذا وَفَّرَت قيادات أحزاب اليسار تكوينا ثوريا، ورَفِيعًا، ومتواصلًا، لمُجمل أعضائها، وأنصارها (عبر هذه المدارس المشتركة فيما بين قوى اليسار)، فإن فَعَالِيَة مناضلي اليسار سَتَتَـفَوَّقُ عِدَّةَ مرّات على فعالية أي شخص حَرَكِي مُنْتَمٍ إلى أحزاب رَأْسَمَالِيَة، أو إسلامية أصولية. ويمكن في لقاءات داخلية أن نُحَدَّد شكلَ هذه المدارس، وأساليب تدريسها. ويُمكن أن تُـقَسَّم دُروس هذه المَدَارِس إلى صِنْفَيْن: صِنف مَفْتُوح مُوَجَّه إلى أعضاء مُبتدئين ومتوسِّطين، وصنف مُسْتَتِر مُوجه إلى أعضاء قُدَمَاء ومُتَمَرِّسِين. ويُستحسن أن يُدَرِّس في هذه المداس العُلَمَاء، والخُبَرَاء، وكذلك المناضلون الثوريون الأكثر تَجربة وَخِبرةً. ويمكن لأعضاء قِوَى اليسار، في حالة تنفيذ وإنجاح هذا التَكْوِين المتواصل، أن يكونوا أكثر تأثيرًا، وأحسن فَعَالِيَةً، بِالمُقارنة مع أُطُر الأحزاب الرأسمالية والإسلامية. ويمكن لِمِئَة مناضل ثوري أن يكونوا أقوى من ألف حَرَكِي رَأْسَمَالي أو إسلامي. لهذا أدعو، ومنذ سنوات، قوى اليسار إلى إقامة مدارس مُشتركة (فيما بين قوى اليسار) لِـتَـكْوِيـن الأطر الثورية. كما أدعو قوى اليسار إلى خوض «ثورة ثقافية مُتَوَاصِلَة» داخل كل قوى اليسار، وكذلك فيما بينها، وفي محيطها المُجتمعي، بهدف إِطْلَاق العِنَان لِلنِّـقَاش السياسي المُعَمَّق، وَنَـقْد، وتَـقْوِيم، وَتَثْوِير، كل مُكَوِّنَات قوى اليسار، ومجمل مُكَوِّنَات المُجتمع. كما يَنبغي خَوض هذه «الثورة الثقافية المُتواصلة» على كل المستويات: الفكرية، والنظرية، والسُّلُوكِيَة، والسياسية، والقِيمِيَة، والعَمَلِيَة، والتنظيمية، والنضالية، والابداعية، والجماهيرية، والفلسفية، والاقتصادية، والقانونية، والفَنِّيَة، إلى آخره (أنظر كتابي: “نـقد أحزاب اليسار”، على المُدَوَّنَة: https://LivresChauds.Wordpress). ويجب أن لا نَـقْنَعَ في الحزب الثوري بِوَفْرَة في «مُوَظَّفِي الحزب»، أو في «قُدَمَاء الحزب»، أو «مُتَـقَاعِدِي الحزب». بل يتوجّب علينا الحِرْص على تكوين جيش مُتَنَام من «ضُبَّاط الثورة المُجتمعية»، ومن «مُهَنْدِسِي الثورة المُجتمعية»، ومن «الفنّانين البارعين في ميدان صِنَاعَة الثورة المُجتمعية». وفي بعض قوى اليسار، أَلِفَ بعض المناضلين القِيَادِيِّين أن يَبْقُوا في مناصب المسؤولية على مَدَى الحياة. وَغَدَت بعض قيادات اليسار مُسِنَّة، أو هَرِمَة، أو مُتَرَهِّلَة. لأنها تعوّدت على الشَكِّ في قُدُرَات الشُبَّان الثوريين. ولَا تُفَكِّر في تجديد أجيال المناضلين الثوريين. بينما المُسْتَحَبّ هو أن نُخَصِّصَ دائمًا ثُلُث المناصب في كل الهيئات التنظيمية المسؤولة، بما فيها القِيَادِيَة، إلى الشُبَّان والشَابَّات الثوريين الذين تَقِلُّ أعمارهم عن ثلاثين سنة. لِكَي يتعلّم الشُبَّان من المُسِنِّين. ولأن تجديد أجيال المناضلين الثوريين يَسْتَوْجِبُ تشجيع الأُطُر والكَوَادِر الثورية الشَابَّة على تحمّل مسؤوليات قِيَادِيَة في أحزاب اليسار. مع الحِرْص على أن نُوَفِّرَ لها قبل ذلك التكوين الشَّامِل الضروري. وتَعَوَّدَت أحزاب اليسار، منذ عُقُود، على أن يشتغل قَادَتُهَا وأعضاؤها لِصَالِح مُشَغِّلِيهِم المِهَنِيِّين خلال سِتَّة أيّام في الأسبوع، ولَا يُفكّرون في قضايا السياسة والنضال سوى خلال يوم الرّاحَة الأسبوعية. ولَا تتوفّر أحزاب اليسار على قَادَة وأُطُر مُتَـفَرِّغِين للاشتغال على قضايا النضال والثورة المُجتمعية. وبدون وُجُود حَدٍّ أدنى مُحدّد من المناضلين الثوريين المُحْتَرِفِين، المُتَـفَرِّغِين للعمل الثوري، لَا يمكن للثورة المُجتمعية أن تَنْضُج أو أن تنجح. وما دام مثل هذا الوضع مُسْتَمِرًّا، فَلَنْ تـقدر قوى اليسار على تحقيق التَحَوُّل الثوري النَّوعِي المنشود في فكرها، وفي نضالاتها.وعملية «التَـقْيِيم»، و«التَقْوِيم»، و«التَثْوِير»، تُـقَوِّي الثوريين، وتُضعف الإسلاميين، وتُنْهِكُ الرّأسماليين. لأن الأحزاب الرأسمالية لَا تُهيمن إلّا إذا بَـقِيَ تكوين الثوريين رَدِيئًا. ولأن الأحزاب الإسلامية الأصولية لا تُصبح قوية إلَّا في إطار الجَهل المُـقَدَّس، أو في إطار مُجتمع مُتَخَلِّف، ومُتَمَيِّز بِتَعليم عُمومي مُفْلِس. ولَا تُمكن تَـعْبِئَة الشعب، وَلَا تَنْشِيط نضالَاته الدِّفَاعِيَة، وَلَا إِنْجَاح مَطَالِبِه، إِلَّا بِوَاسِطة العَـقْل، والمعرفة الوَاسِعَة، والعلوم الدَّقِيقَة، والطُمُوح إلى العَدْل، والجُرْأَة على النَـقْد، والقُدْرَة على الغَضَب ضِدَّ الظُّلم. لكن مَا دَامَ الشعب مُوغِلًا في الجَهْل (أنظر كتابي: “نقد الشعب”، على المُدَوَّنَة: https://LivresChauds.Wordpress)، فَسَتَعْجِزُ القوى التقدّمية، أو الثورية، عن فعل أيّ شيء. ومهما خاضت قوى اليسار من أنشطة لِتَوْعِيَة الشعب، أو لِتَثْـقِيفِه، أو لِتَنْبِيهِه، أو لِتَعْبِئَة مُـقَاوَمَتِه، فإن الشعب الجَاهِل سَوْفَ يُصَوِّتُ آلِيًّا لصالح الأشخاص والجماعات التي تُخَادِعُه، أو تضطهده، أو تَسْتَغِـلُّه. وبقدر ما يكون الشعب جَاهلًا، بقدر ما يَسْهُل على المُسْتَغِلِّين، وعلى إِعْلَامِهِم، وعلى تَلْـفَزَاتِهِم، أن يَتَلَاعَبُوا بِعُـقُول المواطنين، وأن يُغَلِّطُوا الشعبَ، فَيُصَوِّرُون له أعداءه كَأصدقاء، ويُصَوِّرُون له أصدقاءه كَأعداء. ويُطْرَحُ جزء مُعْتَبَر من مهام تَـثْـقِيف جماهير الشعب على عَاتِـق قوى اليسار، وليس على عاتـق النظام السياسي القائم. فماذا تـقوم به قوى اليسار في هذا المجال؟ وهل ما تقوم به مُلائم؟ وهل هو كَاف؟ ولماذا هذا التساؤل؟ لأن تحرير جماهير الشعب من الهيمنة السياسية لِلْقِوَى الرأسمالية، أو للقوى الإسلامية الأصولية، يَسْتَوْجِبُ تَثْـقِيف الشعب، وتَوْعِيَتَه، وَتَـثْـوِيرَه، وتَعْبِئَتَه، وتنظيمه. وعلى عكس بعض الظنون، لَا تقدر اليوم على تَـثْـقِيف الشعب، لَا الجرائد الحِزْبية، ولَا المَجَلَّات الورقية المُوَجَّهة إلى نُخَب محدودة، ولَا الصفحات على الإِنْتِرْنِيت. لأن نمط الإنتاج الرأسمالي لَا يَتْرُكُ لِجماهير الشعب الوقتَ المُلَائِم أو الكافي للقيّام بِالقراءة، أو بالتَأَمُّل. فَلَا بُدَّ لقوى اليسار أن تستعمل قَنَاة تَلْفَزِيَة ثورية ومشتركة (فيما بين قوى اليسار). وَاعْتِبَارًا لاحتمال قَمْعِهَا، يُمكن لهذه القناة التَلْفَزِيَة أن تَبُثُّ برامجها من خارج البلاد. وبواسطة الأنترنيت، يُمكن أن تعمل هذه القناة التَلْفَزِيَة كأنها موجودة داخل البلاد. وبفضل التقنيات الإلكترونية الحديثة، أصبحت هذه القَنَاة التَلْفَزِيَة المشتركة في مُتَنَاوَل إمكانات قوى اليسار. ولَا يقدر على تَوْعِيَة الشعب وتَعْـبِئَتِه سِوَى القوى الثورية الاشتراكية. وتَثْوِير قِوَى اليسار يُـقَوِّي الشعب، كما أن تَثْوِير الشعب يُـقَوِّي قِوَى اليسار. ولَا يمكن أن يُوجد حزب سياسي أَبَدِي. بل كل حزب يتطوّر، فَيَتَـقَوَّى، أو يَضْعُف، ثم يَفْنَى عند ظهور ظُرُوف مُجتمعية جديدة أو استثنائية. وكل حزب لَا يعمل من أجل تقوية نفسه، يُمكن أن يَضعف إلى أن يتلاشى، أو يزول. وإذا لم تعمل قيادات قوى اليسار، وبأساليب مَدْرُوسَة، وعَـقْلَانِيَة، بهدف رفع مُستوى مَعَارِفِ أعضاء أحزابها، وَتَجْوِيد مَنَاهِجِهِم، وأدائهم، وأَسَالِيبِهم، فَسَيَغْدُو الاحتمال الأكبر هو استفحال ضُعف هذه الأحزاب. وإذا ازداد ضُعفها، فَمِن الممكن أن تَنْدَثِر. وقد تُعَوِّضُها في المستقبل قِوَى يسارية ناشئة، ومن نوع جديد، للاستجابة لِحاجيَّات تغيير وتثوير المُجتمع. والجديد المَطْلُوب مِنَّا اليومَ، ليس هو فقط أن نُصَحِّح أخطائنا، ولكن المطلوب هو أن نُصَحِّحَهَا في أسرع وقت ممكن.

___
رحمان النوضة (وحرّر في الدار البيضاء، في أكتوبر 2019)
[مُـقتطف من كتاب جديد، لم يُنشر بَعْدُ، لِلكاتب رَحمان النوضة، تحت عنوان: «نـقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين»].
(1) حسن أومزيان، جريدة “الطريق”، العدد 322، 31 أكتوبر 2019، ص 9.
(2) افتتاحيّة جريدة “الطريق”، العدد 323، ليوم 26 نونبر 2019، ص 2.
(3) رابط مقال “نقد سقف الملكية البرلمانية” هو: (https://livreschauds.wordpress.com/2019/04/20/).
(4) رحمان النوضة، «هل ما زالت الماركسية صالحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي»، نُشِرَ في مجلّة “النهضة”، العدد 17 – 18، ويمكن قراءته على مدوّنة الكاتب: [https://livreschauds.wordpress.com/2019/04/28/].
(5) هذا رابط كتاب “نقد أحزاب اليسار بالمغرب”: (https://livreschauds.wordpress.com/2012/06/15/).

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post طلاق أصالة ورد نسرين طافش عليه
Next post بلجيكا تحتل رقماً قياسياً في ضبط المخدرات