عام على “الحراك” في الجزائر: نجاحاته وإخفاقاته
زين العابدين غبولي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_قبل فترة عام، شهدت الجزائر انطلاقة أكبر احتجاجات شعبية وأكثرها سلميةً منذ استقلالها في العام 1962. ومنذ ذلك الحين، يملأ الجزائريون الشوارع كل ثلاثاء وجمعة من أجل التعبير عن رفضهم للنظام السياسي في البلاد والمطالبة بتغيير جذري. وفي العام الفائت، شهدت الجزائر تغييرات أكثر مما فعلت خلال السنوات الـ57 الفائتة. وكانت تلك الاحتجاجات قد أسقطت في نيسان/أبريل الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، الذي حكم البلاد لفترة طويلة وأدّت إلى انقسام غير مسبوق للنظام السياسي، غير أن التطورات المحتملة في 2020 تشير إلى مستقبل مقلق للبلاد ككل. وفي كانون الأول/ديسمبر، أوصلت الانتخابات الرئاسية التي كانت محطّ جدل كبير في الجزائر رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون إلى السلطة. غير أن الكثيرين رفضوا الانتخابات باعتبارها ردًّا لا يتناسب ومطالبهم، ولا يزال الجزائريون يلجؤون إلى الشوارع في ظل رفضهم المتواصل للنظام ونتائج الانتخابات التي أجراها. في الواقع، ساهمت انتخابات كانون الأول/ديسمبر في تعميق أزمة الشرعية في البلاد ولم تنجح في توفير الاستقرار السياسي في الجزائر التي هي بأمس الحاجة إليه. والآن، إن الجزائر عالقة بين نظام يحاول استعادة شرعيته بأي ثمن وشعب مصمم على استعادة بلاده بطريقة سلمية وحضارية. ولكن في ظل وضع يزداد عدائية في كل من ليبيا والساحل، وعلى ضوء الآفاق الاقتصادية القاتمة، لا يمكن للجزائر أن تتحمل سنة طويلة أخرى من التوترات السياسية. ففهم سياق السياسة الجزائرية المليء بالتحديات والتنبؤ به للسنة القادمة يتطلب تحليلًا دقيقًا لوقائع اليوم، على صعيد النظام وحركة “الحراك” الاحتجاجية على حد سواء.
النظام عند مفترق طرق
في أيلول/سبتمبر، طلب رئيس أركان الجيش السابق والرجل النافذ في النظام الجزائري أحمد قايد صالح أن تحصل الانتخابات قبل نهاية العام 2019. ومثّل قايد صوت الطغمة العسكرية التي رأت في الانتخابات الرئاسية الحلّ الوحيد للشلل السياسي الذي تعانيه البلاد. غير أن النظام لجأ إلى تدابير قمعية، بما فيها سجن الناشطين والحدّ من حرية الرأي والصحافة من أجل فرض أجندته الانتخابية. لم تستقطب الانتخابات، التي أجريت في 12 ديسمبر، سوى ما يقارب 40في المائة من الجزائريين المخولين قانونيا للتصويت. حصل عبد المجيد تبون على ثقة حوالي 20 بالمائة من الناخبين المسجلين. كما نظّم العديد من الجزائريين احتجاجات حاشدة خلال يوم الانتخابات.لقد أدّى تركيز النظام الجزائري على تكتيك الانتخابات إلى صعود رئيس ضعيف معدوم الشرعية الشعبية تقريبًا. كما أنه لم يُفض إلى حل الأزمة السياسية؛ وتثبت الاحتجاجات الأسبوعية المستمرة أن هذه الانتخابات كانت فشلًا للديمقراطية. وما زاد طين الاضطرابات بلةً، وفاة أحمد قايد صالح بشكل غير متوقع بعد أيام قليلة على تنصيب الرئيس الجديد – وهو حدث مهم للغاية بالنسبة للسياسة الجزائرية. فقد كان قايد صالح، بطريقة أو بأخرى، حاكم الجزائر بحكم الواقع بعد استقالة بوتفليقة. واعتبر الكثيرون أن وفاته المفاجئة قد تمنح تبون مجالاً أكبر للمناورة السياسية وقد تدفعه بالتالي إلى الإصغاء بجدية أكبر لمطالب الشعب، ليفي بذلك بالوعد الذي قطعه خلال حملته الرئاسية. فمن جهة، شكّل تبون حكومة في غضون أيام قليلة وحث بحسب ما تردد على إطلاق سراح 76 سجينًا سياسيًا. غير أنه لم يتمكن حتى الآن من الوفاء بما وعد شعبه به، إذ لا تزال الحريات الأساسية مقيّدة. هذا ويشير الشهر الأول من رئاسة تبون إلى أن النظام يتطلع إلى كيفية استعادة الشرعية ويسعى إلى الحدّ من أي تغيير “جذري” و”غير ضروري” من خلال سلسلة من الإصلاحات السطحية والموجّهة. ويتمثل أحد أبرز جوانب هذا الأمر في تغيير دستور العام 2016. لهذا، أنشأ تبّون لجنة مؤلفة من 17 خبيرًا دستوريًا للقيام بهذه المهمة. بالموازاة، عقد تبون عدة اجتماعات مع شخصيات سياسية بارزة “محترمة” من طرف “الحراك”، بمن فيهم رئيسا الحكومة السابقان بن بيتور وحمروش فضلًا عن الوزير السابق طالب الإبراهيمي، في ما يبدو أنه محاولة لوضع حدّ للحركة الاحتجاجية. وعليه، يبدو أن أولويات النظام تنطوي على إسكات الحراك وتعديل الدستور بدلًا من إجراء حوار فعلي مع الجهات الفاعلة الاجتماعية والسياسية الرئيسية ضمن الحركة الاحتجاجية. ويمكن وصف ولاية تبون كرئيس في أفضل الأحوال على أنها مرحلة انتقالية “غير رسمية”. وما إن يقرر النظام أن هذه المرحلة الانتقالية قد انتهت، قد يستقيل تبون، ما سيؤدي إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وفي كافة الأحوال، وبغض النظر عن كيفية انتهاء ولاية تبون، فقد وضع النظام فعليًا نفسه والبلاد عند مفترق طرق مُهلك من خلال فرض الانتخابات. والآن، يعتمد النتاج المستقبلي للبلاد بشكل كبير على الحركة الاحتجاجية وقدرتها على تقديم بديل مستدام.
“الحراك”: حي ونافذ لكن قدرته محدودة سياسيًا
يُعتبر “الحراك” إحدى أطول الحركات السياسية وأكثرها صمودًا وسلميةً في التاريخ الحديث لكل من الجزائر والمنطقة ككل. وعلى الرغم من التوقعات بخلاف ذلك، أثبت قدرته على الحفاظ على قوته ووحدته. غير أنه في ظل استمرار المناورة السياسية التي يعتمدها النظام ومساهمة الانتخابات، المعترض عليها ولكن المفروضة، في تعقيد السياسة الجزائرية، يواجه “الحراك” الآن أكثر فترة مليئة بالتحديات منذ شباط/فبراير الفائت. ويتمثل مصدر قلقه الرئيسي حاليًا في غياب أي رؤية مستقبلية، إلى جانب بروز خلافات مكانية وإيديولوجية وعدم قدرة مستمرة على التطور والتحوّل إلى قوة سياسية.ولكن هذا لا يحجب ما نجحت في إنجازه الحركة الاحتجاجية الجزائرية لغاية الآن: أرغمت بوتفليقة على الاستقالة، وفكّكت جماعة بأكملها في النظام، ومارست ضغوطًا هائلة على القيادة العسكرية. مع ذلك، وفي ظل شكلها الحالي، تحصر الحركة نفسها في كونها أداة ممارسة ضغوط على أنظمة سياسية قائمة ومستمرة بدلًا من إيجاد بديل سياسي يمكنه أن يقدّم فعليًا خارطة طريق عملية وواقعية من أجل إحداث تغيير سلمي وديمقراطي. ولا شكّ في أن الاحتجاجات الحاشدة عجزت عن تقديم رؤية سياسية خاصة بها، ما أتاح للقيادة العسكرية الحاكمة بحكم الواقع تجديد واجهتها المدنية من خلال الانتخابات. وتُعتبر هذه القيود السياسية لـ”الحراك” إلى حدّ كبير ناتجة عن عمليات القمع السافرة والحدّ من الحريات الفردية والجماعية التي يفرضها النظام. غير أن عاملًا آخر يتمثل في الخلافات الناشئة ضمن “الحراك” نفسه. فالجزائريون يتفقون على ضرورة تغيير النظام ولكنهم يختلفون على شكل هذا التغيير. وصحيح أن المحتجين يعلمون ما الذي لا يريدونه (استمرار الديكتاتورية) وما الذي يريدونه (دولة عادلة وحرة)، لكن كيفية تحقيق ذلك هي مسألة مختلفة تمامًا. وما يزيد من تعقيد هذه الانقسامات السياسية الناشئة واقع أن الجزائر هي دولة كبيرة ذات توجهات إثنية وإيديولوجية مختلفة. فقد بدأت الاختلافات الإقليمية التي لا تبدو للعيان في العاصمة في الظهور، خاصة وأن أعداد المحتجين في المناطق الداخلية والريفية بدأت في الانخفاض. بالإضافة إلى ذلك، تتنوع الرؤية المستقبلية و”النموذج الاجتماعي” للجزائر الجديد أيضًا بين المناطق التي لها تاريخ طويل من النشاط السياسي المستقل، مثل منطقة القبائل والمناطق الأخرى التي كانت، من الناحية التاريخية، أقل “معارضة” للنظام الحاكم. وفي حين قد تختار بعض المناطق “التعاون” مع النظام في ظل ظروف معينة بدافع الخوف من حدوث “فراغ” محتمل في السلطة، فإن المناطق الأخرى ما زالت تتخذ موقف متشدد رغم التكاليف. كما من الواضح أن الطبقة السياسية، الغارقة في خلافات إيديولوجية وتاريخية، مشلولة ولا يمكنها قيادة “الحراك” باتجاه منصة سياسية غير حزبية وقائمة على التوافق من أجل إحداث تغيير ذي معنى. وعلى ضوء هذه التحديات الداخلية التي تواجه “الحراك”، يبدو أن المحتجين لم يتمكنوا بعد من إدراك أن عجز الشارع عن اعتماد إرادة سياسية واضحة كان من بين الأسباب الرئيسية لانهيار “الربيع العربي” الذي انطلق في 2011.
تحديد المسار المستقبلي: عملية بطيئة وصعبة لإحداث تغيير محتمل
بين مطرقة مقاومة النظام المستمرة لأي تغيير جذري وسندان عدم قدرة “الحراك” على تشكيل إرادة سياسية جديدة، يبدو أن الجزائر تقف عند مفترق طريق. فما ستشهده الفترة المقبلة يكتسي أهمية كبيرة، ليس فقط بالنسبة للجزائر بل لمنطقة شمال أفريقيا برمتها. بعد حكم بوتفليقة الذي دام عشرين سنة، في ظل ظروف اقتصادية غير مشجعة وأطر عمل سياسية قديمة، هناك عمل يتم حاليا على مجموعة من التغييرات التدريجية، ولا سيما في ما يتعلق بالدستور والانتخابات التشريعية القادمة. وهنا ثمة العديد من نقاط التوافق: فكل من النظام والشعب يرغب في تعديل دستور بوتفليقة لعام 2016. وعلى ضوء اللجنة الدستورية التي أنشأها تبون حديثًا، يبدو أن الجزائر ستشهد على استفتاء عام حول الدستور الجديد قبل منتصف العام 2020. فضلًا عن ذلك، ستعني التعديلات الدستورية أيضًا أنه ستتم مراجعة قوانين أخرى، بما فيها تلك الخاصة بالانتخابات والجمعيات. وبالتأكيد، سيتم تخفيض صلاحيات الرئيس بشكل كبير، وسيتم أيضًا تعزيز دور المعارضة من الناحية الدستورية، والتأكيد مجددًا على الركائز الثلاث للهوية الجزائرية، الإسلام والعربية والبربرية (الأمازيغية). ومن شأن هذه العملية أن توفر مؤشرات مهمة على قدرة “الحراك” على الحصول على تنازلات دستورية من النظام، وبخاصةٍ في ما يتعلق بامتيازات الرئيس ودور البرلمان وضمانات الحريات الأساسية. ولغاية الآن، يبدو أنه من المستبعد أن تمسّ أي تعديلات دستورية بالصلاحيات السياسية التي يتمتع بها الجيش بحكم الواقع. كما يتضح بشكل أكبر أن الجزائر ستشهد انتخابات تشريعية وبلدية في غضون أشهر قليلة من الموافقة على الدستور الجديد في الاستفتاء. وحاليًا، تنتمي أغلبية 606 أعضاء من البرلمان الجزائري ذي المجلسين التشريعيين إلى حزبيْ “جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديمقراطي” اللذين سبق أن دعما حكم بوتفليقة. وبالتالي، وفي ظل الزيادة المتوقعة لدور البرلمان التي سيحملها الدستور الجديد، من شأن الانتخابات التشريعية المرتقبة أن تمهّد الطريق أمام رؤية الجزائر في المستقبل القريب. ومن المرجح أن تشهد الجزائر في ظل الانتخابات المقبلة موجة جديدة من الانقسامات الإيديولوجية والسياسية المحتدمة، الأمر الذي سيمارس المزيد من الضغوط على إجراء حوار بين أفراد “الحراك”. علاوةً على ذلك، من المتوقع أن تبرز أحزاب جديدة – وبخاصة أحزاب متحفظة – قبل الانتخابات، ما سيغير بشكل ملحوظ المشهد السياسي. وإذا لم يوافق النظام على بعض تدابير التهدئة الضرورية من أجل حماية الحريات الأساسية، مثل إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين دون قيد أو شرط، وتحرير الصحافة من جميع القيود وحماية حرية التجمع والإجراءات السياسية الحزبية، وإذا لم ينخرط “الحراك” بشكل ناشط وفعال في الاستشارات الدستورية ولم يرغب في أي تنظيم ذاتي، من المستبعد أن تهدئ هذه التغييرات المهمة المقبلة نفوس المحتجين. وفي هذه الحالة، قد تنتهي ولاية تبون في وقت أقرب مما اعتقد النظام. لقد قرر الجزائريون تطليق النظام؛ صحيح أن الاثنين منفصلين أساسًا، لكن عليهما الاتفاق على شروط هذا الطلاق، وهي مسؤولية أكبر ملقاة على عاتق “الحراك” من أجل وضع هذه الشروط. يجب أن تكون هذه العملية سريعة وفعالة وسلمية من أجل تجنب تحويل الجزائر إلى مثال آخر على دولة فاشلة. ويعتمد الجزء الأكبر من هذه العملية على ما إذا كان “الحراك” يفضل البقاء كأداة سياسية “تردّ” على مناورات النظام أو البروز كقوة سياسية تتحول في نهاية المطاف إلى بديل. في حال كان “الحراك” مستعدًا لتحمل مسؤوليات سياسية فعلية، سيكون حوار بين أفراد الحراك الخطوة الأكثر إلحاحًا. فالوقت ينفذ – نظرًا إلى أن الدولة تمضي قدمًا في مجموعة إصلاحاتها الخاصة وفي ظل ازدياد الأزمة الاقتصادية في البلاد سوءًا.إلى ذلك، يمثل تاريخ 22 شباط/فبراير انطلاقة “حرب استنزاف” سياسية وسلمية بين نظام يعود إلى 57 سنة وصحوة شعب. وما لم يتمّ التوصل على الفور إلى اتفاق ينص على تنازلات متبادلة، قد يكون ثمن هذه الحرب انهيار الدولة الجزائرية فور نفاذ احتياطي العملات الأجنبية.
منتدى فكرة هو مبادرة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى