دور المثقّف العربي في التّغيير: المثقّف و الوعي المطابق لحاجيّات الواقع

كمال بالهادي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_إنّ المخاض الذي تعيشه المنطقة العربيّة منذ العام2011، يعيد تقليب العديد من الأوراق، وينفض الغبار عن عدّة قضايا، ساهم تسارع الأحداث في طمرها. ومن بين القضايا التي تستحقّ في نظرنا، إعادة دراستها، هي مسألة المثقّف و أدواره أو وظائفه في عملية التّغيير الحاصلة الآن. فهل يمكن للمثقّف العربي اليوم أن يجد له دورا ومكانة في صناعة هذا التّغيير؟ وهل المثقّف العربي، يساهم فعليّا في التّأسيس لأرضيّة صلبة يقوم عليها مشروع التّغيير في المنطقة العربيّة، أم أنّ هذا المثقّف، قد تجاوزته الأحداث؟ ثم هل أنّ حالة التّغيير الحاصلة الآن، هي نتيجة طبيعية لمنتجات فكريّة، استطاع العقل العربي أن يراكمها خلال عقود ما بعد نشأة الدّولة الوطنيّة، و استطاع أن يترجمها في حركات اجتماعيّة أو سياسيّة تبنّت فكرة التّغيير، أم أنّ التّغيير الحاصل الآن هو عملة مستوردة، أي يطغى فيها العامل الخارجي، على مطالب الدّاخل و قدراته، لذلك أصيبت عمليّة التّغيير في مقتل، رغم أنّها مطلب جماهيري قديم؟
في واقع الأمر، تتزاحم الأسئلة و تتدافع عند إثارة، موضوع المثقّف و أدواره في صناعة التّغيير الاجتماعي و السّياسي. لأنّ أدوار المثقّف ليست محددّة ضمن قائمة خاصّة و مضبوطة ، و لأنّ مجالات التّدخّل ليست محدّدة أيضا، فالحديث عن أدوار المثقّف و وظائفه في عالمنا اليوم، هو حديث عن مسألة متشعّبة، ومتداخلة الخيوط و الأبعاد. ولكن على الباحث أن يسعى إلى حصر المسألة، و أن ينتقي من النّماذج ما يخدم مساره البحثي، فالمدوّنة حافلة بالآثار الفكريّة العميقة، و عالم اليوم ليس هو عالم الأمس، لأنّ التّغييرات التي حصلت، سواء في بعدها الإيجابي أو السلبي هي تغييرات نوعيّة، مسّت بنية الفكر و بنية الدّولة و بنية المجتمع. و ضمن هذه التّغييرات الكثيرة، نعود لنستدعي، إشكاليّة “المثقّف و أدوراه”، لأنّ أيّ عمليّة تغيير حضاري للمجتمع و الدّولة لا نستند فيها إلى المثقّف، هي عمليّة فاشلة عاجلا أم آجلا. وكلّ عمليّة تغيير لا تستند، إلى بُنى مرجعيّة، نابعة من الواقع، و “مطابقة لحاجيّات الواقع” كما يقول المفكّر الرّاحل ياسين الحافظ، هي عمليّة تغيير للقشرة الخارجيّة للمجتمع، و لا تمسّ الجوهر، فكأنّما هي عمليّة تزيين للمظهر الخارجي مع المحافظة على الأصول القديمة للمجتمع. فنكون كما كنّا منذ محاولات النّهضة الأولى، نخوض معركة خاسرة للتّوفيق بين الأصالة و الحداثة، فلا نحن كسبنا حداثة أصيلة و لا نحن استطعنا المحافظة على أصالة قادرة على إثبات ذاتها في المجتمعات المعاصرة.
إشكاليات البحث
إنّ الحديث عن “دور المثقّف ووظيفته في المنطقة العربيّة في عالم اليوم” يستدعي بالضّرورة، تحديد المفاهيم و المصطلحات، حتى نقدر على بناء مشروع بحثي متكامل يحقّق أهدافا معرفيّة و إضافات فكريّة، تثري النقاش الدّائر في المنطقة العربيّة حول وسائل التغيير الحضاري و أدواته. وهنا علينا منهجيّا تحديد مفهوم المثقّف أوّلا، فمن هو المثقّف في عالمنا اليوم؟ و ما هي مواصفات المثقّف المعاصر و المطلوب؟ و الحديث عن المثقّف يستدعي ضرورة الحديث عن مفهوم أوسع وهو مفهوم الثّقافة. فأيّ ثقافة نريد؟ و أيّ مشروع ثقافي يمكن أن ينجز عمليّة التّغيير المنشودة؟ فهل نريد مثلا إحياء المثقّف العضوي؟ وهل نحتاج ثقافة ثوريّة ؟ و ما هي حدود تلك الثّقافة وحدود أدوار ذلك المثقّف؟
لقد سعى المثقّف العربي، متسلّحا بانتشار التعليم في المجتمعات العربيّة، إلى أن يكون له دور الرّيادة في قيادة المجتمعات، من أجل اللّحاق بالمجتمعات المتقدّمة، ولكن المثقّف كان في حالة صدام مستمرّة مع السّلطة السّياسية ممّا عطّل أدواره، ومنعه من المشاركة الفعليّة و العَمليّة في قيادة التّغيير. وعليه، فإنّ الحديث عن أدوار المثقّف و وظائفه، يثير إشكاليّة علاقة المثقّف بالسّلطة، وهي علاقة عرفت الكثير من التّغيّر خاصّة في مرحلة ما بعد 2011.
الإشكاليّة الثّانيّة التي نروم ملامستها في هذا البحث، تتعلّق بوظائف المثقّف و أدواره. و بمعنى آخر ماذا ننتظر من المثقّف؟ وماذا نريد منه؟ وهل للمثقّف الإمكانات التي تجعله يستجيب لمطالب الواقع المترجرج؟ إنّ واقع المنطقة العربيّة اليوم يحتاج، من المثقّف أن ينهض بعدّة أدوار، قصد إعادة ترتيب البيت العربي، بعد الزلازل التي هزّت هذه المنطقة منذ نهاية القرن العشرين و تتواصل إلى حد الآن. إنّ المثقّف الذي ساهم في عملية بناء الدولة الحديثة، عقب انتصار حركات التّحرّر الوطني، مطالب اليوم بالمشاركة الفعّالة في إعادة إعمار الحياة الثّقافية بمنتجات فكريّة مواكبة للحالة الرّاهنة، وهو مطالب أيضا بالمساهمة في إعادة ترميم البنى الاجتماعيّة، التي شهدت عمليّات ” تكسير اجتماعي” – كما يسمّيها الرّاحل ياسين الحافظ- ممنهجة، وظّفت فيها العناصر الدّينيّة و المذهبيّة و الطّائفيّة، بغاية تفجير المجتمع من الدّاخل و إعادة بنائه وفق خرائط و تقسيمات جديدة. والمثقّف مطروح عليه في خضمّ حالة التّغيير العاصفة، أن يفكّر في إيجاد وسائل تحقيق التّنمية الشّاملة و المستدامة. وهنا، علينا إعادة طرح مفهوم التّنمية في أبعاده الجديدة و الشّاملة، وهو مطلب رفعه ياسين الحافظ منذ عقود من الزّمان.
إنّ تحقيق التّنمية الشّاملة و المستدامة في المنطقة العربيّة، و في اللّحظة العربيّة الرّاهنة، هو أحد أهمّ الاستحقاقات التّاريخية، التي على المثقّف أن ينهض بها، و أن يساهم فيها مساهمة فعّالة. فلا معنى اليوم لكلّ تلك المفاهيم التي حفل بها الفكر العربيّ المعاصر، من قبيل الحداثة و العصرنة و العلمانيّة و الأصالة و التّراث، ما لم تكن محقّقة لهدف التّنميّة و محقّقة لمقصد التّنميّة البشريّة. و النّظر في تقارير التّنميّة البشريّة التي تصدر سنويّا، نلاحظ أنّ عدّة مجتمعات، قد استطاعت أن تحقّق ما بات يسمّى “نهضة الجنوب”. و هذه التّجارب التي باتت تسبقنا في معارف العصر، وتسبقنا في الاقتصاد، إنّما استطاعت أن تصنع تغييرها انطلاقا من تجاربها الخاصّة لا من المشاريع المسقطة عليها إسقاطا. وهنا يتبوّأ المثقّف في هذه التّجارب، مكانة مهمّة. فهو صانع التّغيير، وهو قائده.
إن أحد أهمّ أهداف هذا البحث، هو إماطة اللّثام عن دور المثقّف في صناعة التّغيير، وهذا الدّور يستوجب في نظرنا قيامه بعدّة وظائف، هي من متطلّبات المرحلة التي نعيشها.
الإشكاليّة الثّالثة، التي نروم درسها في هذا البحث تتعلّق بالإمكانات المتاحة للمثقّف حتى ينهض بوظائفه في عصرنا الحالي. وفي هذا المستوى تثار عدة إشكاليّات يمكن أن تكون فروعا لبحوث مستقلّة لكن نوجزها في النّقاط التّاليّة:

  • المثقّف في عصر الحرّيات:
    إذا نجح “الربيع العربي” في تقليم أظافر السّلطة السّياسيّة و منح المثقّف هامشا أكبر من الحرّيات، للتّعبير عن رأيه دون رقابة، و للانخراط في الفعل الثقافي و الاجتماعي و المدني و السياسي، فهل يعني ذلك أن بلوغ مستوى” صفر سلطة سياسيّة قهريّة”، يفهم منه آليا أن المثقف قد تحرّر من كلّ القيود، و يستطيع أن يصدع بكلّ أفكاره بحريّة تامّة؟ ألم يخلق غياب السّلطة السّياسيّة، حالة فراغ ملأتها أشكال جديدة من الرّقابة ومن أدوات العقاب، التي تجعل مثقّف اليوم يعود إلى انكماشه، ويغيب عن ساحة الفعل ليترك للغوغاء فرصة الاستفراد بالفعل السّياسي، وفرصة إعادة تشكيل المجتمع وفق غايات هي بعيدة عن مرامي المثقّفين.
  • المثقف و الثّورات:
    إذا كان المثقف، لم يشارك في حراك التغيير، الذي نعيشه، فهل استطاع أن يجد لنفسه موقعا في “حالة الهيجان الثّوري” و أن يخطّ له طريقا للإصلاح، في خضمّ هذا الخراب الحاصل؟ المثقّف في هذا المستوى، قد يكون فاعلا بدرجة كبرى، دون أن يصعد إلى الواجهة، لأنّ المطالب المرفوعة، الخاصّة بتحقيق العدالة و الدّيمقراطية و المواطنة و المشاركة الجمعيّة للمجتمع المدني، فضلا عن مطالب تشريك المرأة و الشّباب في الحياة العامّة، و رفع الظّلم و التّهميش، و تقليص الهوّة بين الرّيف و المدينة – وهي أفكار ومطالب نجد صداها يتكرّر في كتابات ياسين الحافظ- لا يمكن أن ترفع من فراغ، فهي نتائج حتميّة لمراكمات فكريّة صاغها الفكر العربي منذ عقود، وترجمتها الأشكال الاحتجاجيّة و الفعاليّات الثورية، قبل سنة 2011 وبعدها.
  • المثقّف في عصر الرّقمنة
    إنّ الحديث عن التّغيير لا يرتبط فقط بالأفكار و المطالب التي ترفعها الجماهير و الثّوّار في كلّ مكان، بل يرتبط اليوم ارتباطا وثيقا بالحدث الرّقمي، أي بالثّورة الرّقميّة. فمطالب اليوم هي قديمة، ولكن منصّات إطلاقها تغيّرت، فوجود وسائط التّواصل، نقلنا إلى ما يعرف بالمجتمع الشّبكي، وهنا يكون المثقّف أمام تحدّ جديد و خطير في ذات الوقت. فهو إمّا أن ينخرط في الرّقمنة، و يكون فاعلا فيها، بما يتطلبه ذلك من تغيير خطابه، لأنّ المجتمع الشّبكي مغاير تمام المغايرة للمجتمع النّخبوي الذي كان المثقّف يتفاعل معه. و إمّا أن يظلّ المثقّف محافظا على خطابه المتعالي، فيكون خارج دوائر الفعل و القرار. ويكون خارج المجتمع الرّقمي، وخارج ما يسمّيه عبدالله العروي “الدّولة القائمة ” و “المجتمع القائم”.
    إنّ جملة النصوص التي كتبت تفاعلا مع أحداث المنطقة العربية، المستمرّة منذ منذ سنة 2001، وما تلاها من احتلال العراق، وبروز مخطّطات لإعادة تشكيل المنطقة العربيّة. ثم أحداث “الرّبيع العربي”، تتقاطع في مطلب التّغيير و إن اختلفت الرؤى و المناهج و الوسائل. وهذا المطلب هو من ركائز وظائف المثقّف العربي قديما وحديثا و راهنا. ولذلك فإن اختيارنا لدراسة موضوع “المثقف و التغيير: المثقف و الوعي المطابق لحاجيات الواقع”. إنّما هو محاولة لاستخلاص، هواجس المثقّف، في ما يتعلّق بمطلب التّغيير، و هو محاولة لاستخلاص، الوظائف و الأدوار المنوطة بعهدة المثقّف، وهو أخيرا وليس آخرا محاولة في فهم الإمكانات المتاحة أمام المثقّف، لتجسيد الطّموحات التي شغلت فكره منذ بواكير عصر النّهضة.
    إنّ “الحالة العربيّة” الرّاهنة، كما يسمّيها المفكّر التّونسي هشام جعيّط، تستوجب شرحا تفصيليّا، للمنطلقات و الوسائل و الغائيّات. ففهم هذه التحوّلات المتسارعة، و التي تدفع إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم، هو في النّهاية مسعى من أجل محاولة استكشاف مستقبل هذا التّغيير الذي يتداخل فيه الدّاخلي و الخارجي على قدر المساواة. فمن المهمّ في هذه المرحلة أن نسأل “العرب إلى أين؟” ومن المهمّ أيضا أن نسأل عن الغائيّات التي تقف وراء كل هذا الحراك، و التي يبدو أنّ المثقّف العربي، قد أفلت من يديه زمام الأمور، مبادرةً و قيادةً.
    ΙΙ مفاهيم نظريّة
    إنّ الخوض في إشكاليّة ” دور المثقّف العربي في التّغيير: المثقّف و الوعي المطابق لحاجيّات الواقع”، يدفعنا بدءا لتحديد بعض المفاتيح الاصطلاحيّة التي تمكّننا، من ولوج هذه الدّراسة، ونحن مطمئنّون إلى تحقيق المقاصد الأساسيّة من بحثنا. و قد اخترنا أن نقصر هذا العنوان في تحديد ثلاث مصطلحات، نراها أساس إشكاليّة” المثقّف الدّور و الوظيفة في عالم اليوم”. المصطلح الأوّل الذي سنشتغل عليه، يخصّ مفهوم المثقّف، باعتباره مفهوما متحرّكا، أسال الكثير من الحبر، و أثار جدلا واسعا، من أجل تحديده تحديدا دقيقا. أمّا المصطلح الثّاني الذي نراه ركنا أساسيّا في دراستنا هذه، هو مصطلح التّغيير، وهو مصطلح جدليّ أيضا، فالتّغيير هو محرّك الحضارة الإنسانيّة عبر تاريخها الطّويل. و خصّصنا المبحث الفرعي الثّالث، لندرس علاقة المثقّف بالتّغيير.
    1- المثقّف الوظيفيّ من هو ؟
    لا يمكن أن نجد تعريفا واضحا و دقيقا، لمفهوم المثقّف، رغم وجود عديد المؤلّفات التي تناولت هذا المفهوم. لأنّ زاوية النّظر إلى المثقّف تتغيّر حسب خلفيّة الكاتب، وحسب زاوية النّظر التي يُنظر منها للمثقّف و لوظائفه في المجتمع. و هذا المفهوم منذ ظهوره في بدايات القرن التّاسع عشر، يشهد تحوّلات جذريّة، مواكبة لتغيّر جملة من المفاهيم. و الثّابث أنّ مفهوم المثقّف الرّاهن، يجعلنا نأخذ بعين الاعتبار جملة العناصر المتغيّرة، و في ظلّ انتشار التّعليم ووسائط التواصل الحديثة. إنّ مدار الاهتمام، ينصبّ على وظائف المثقّف، أكثر من تحديد مفهوم المثقّف عموما. لذلك نجد في التّسميات نعوتا تلتصق بمصطلح المثقّف من قبيل، “المثقّف العضوي” و “المثقّف النّقدي”، و “المثقّف الفاعل”، وهي كلّها توصيفات تتعلّق بالوظيفة و الدّور، لأنّ طبقات الوعي العميقة، إنّما تنظر للمثقّف باعتباره حمّال الأفكار، و مبدع الحلول، ومخلّص الأمّة من الهموم، و راسم طريق التّنوير، و قائد عمليّة التّغيير. ودون هذه الوظائف الجسيمة، لا ينظر للمثقّف باعتباره كائنا ذا هويّة، بل ينظر إليه من حيث، علاقات تقرّبه حينا من جمهور المريدين، وحينا آخر تضعه في بوتقة السّلطة، فيصبح مدافعا عنها، مبرّرا لسلطتها القهريّة، فيكون عداء الشّعب له، أكثر حدّة من عدائه للسّلطة. وضمن هذه الصّور المتعدّدة، تحرّك مفهوم المثقّف ليكتسب في كلّ مرحلة معنى. و نجد في كتاب ” مفاتيح اصطلاحيّة جديدة” تعريفا للمثقّف، فهو مصطلح يدلّ ” على فئة من النّاس تعتمد منزلتها الاجتماعيّة على دعواها بالخبرة الفكريّة.” و نجد في ذات الكتاب، تدقيقا أكثر وضوحا للمثقّف وللدّور المنوط بعهدته. إذ يقول المؤلّف،” مع ذلك من الضّروري التّمييز بين هذه الطّريقة الاجتماعيّة الواسعة في التّفكير بالمثقّفين، ) intellectuals ( و أهل الفكر كجماعة، و تصوّر أضيق و أكثر معياريّة عن المثقّفين كنخبة صغيرة من رجال الأدب و نسائه ممّن يتصرّفون كناطقين عامّين باسم حقول المعرفة الرّفيعة، كالفلسفة و الفنون و العلوم الاجتماعيّة و العلوم الطّبيعيّة الأرقى، ويعلّقون على سائر الشّؤون الفكريّة و العامّة. وفي هذا المعنى الأخير، تفهم مهمّة المثقّف في تحقيق التّنوير و الحداثة.”
    بهذا التّعريف، يتحدّد المطلوب من المثقّف فينزاح “المثقّف” إلى المفهوم الماركسي، الذي عبّر عنه غرامشي بصورة جليّة و واضحة، أي ذاك “المثقّف العضوي” الذي ينتصر لآلام شعبه، و يسعى للدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطن. يقول الدكتور سيّار الجميل، في مقال له بعنوان “مفهوم المثقّف العضوي و دوره في التّغيير”، ” أمّا مشكلة المثقّفين فهي أساسيّة وجوهريّة، إذ يرى غرامشي أنّ كلّ البشر مثقّفون بمعنى من المعاني، ولكنّهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعيّة للمثقّفين، وهي وظيفة لا يمتلكها إلاّ أصحاب الكفاءات الفكريّة العاليّة الذين يمكنهم التّأثير في النّاس .. ومن هنا يُستخلص الفارق بين المثقّف التّقليدي والمثقّف العضوي .. الأوّل يعيش في برجه العاجي ويعتقد أنّه أعلى من كلّ النّاس، في حين أنّ الثّاني يحمل هموم كلّ الطّبقات وكلّ الجماهير وكلّ الفقراء والمحرومين والكادحين .. وعليه، فإنّ المثقّف الحقيقي هو المثقّف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمّته .. إنّ أيّ مثقّف لا يتحسّس آلام شعبه لا يستحقّ لقب المثقّف حتّى وإن كان يحمل أرقى الشّهادات الجامعيّة “.
    ضمن هذا السّياق، يمكن قراءة، مفهوم المثقّف. إذ ما أهمّية النّخبة المثقّفة أو الإنتلجنسيا، ما لم تكن فاعلة و دافعة لحركة التّغيير؟ وما أهمّية النّخب المثقّفة إن لم تكن قادرة على قيادة الجماهير نحو مستويات حياتيّة أفضل؟ إنّ جانبا من هذه الهواجس نجدها عند أنطونيو غرامشي في رسائله، عندما يؤكّد على أهمّية أن تكون هناك علاقات ترابط وثيقة تصل حدّ الاتحاد بين “الجماعة الفكريّة أو النّخبة المثقّفة و جماهير البسطاء، إذ يقول:” و لا يمكن على أيّة حال، تحقيق الاستقرار الثّقافي و خلق فكر عضوي organic، ما لم توجد بين المثقّفين و البسطاء ذات الوحدة، التي ينبغي أن تكون بين النّظريّة و الممارسة. أي ما لم يصبح هؤلاء المثقّفين العضويين لتلك الجماهير، وما لم يصوغوا المبادئ و القضايا التي تثيرها الجماهير في نشاطها العملي صياغة محكمة، و بهذا يشكّلون كتلة ثقافيّة و اجتماعيّة (cultural and social bloc )” .
    إنّ المثقّف الرّاهن المطلوب، في خضمّ هذه التحوّلات التي يعيشها المجتمع العربي، يدفعنا دفعا إلى استحضار المثقّف العضوي، بمفهومه الغرامشي. ولكنّ المفهوم يشهد تتحوّلات هو أيضا، فالمطلوب هو المثقّف الملتزم بقيادة المجتمع نحو الواقعيّة السّياسية و نحو العقلانيّة الفكريّة. لأنّ مهمّة البناء و الإصلاح للدّولة و للمجتمع، ستتطلّب جهدا فكريّا و ثقافيّا، ربّما يتجاوز ما تمّ بذله من المثقّفين العرب طوال العقود السّابقة. إنّ مشروعا ضخما، يتمثّل في إعادة بناء أمّة منكسرة و مهزومة حضاريّا، هو مشروع يتطلّب وجود “قادة فاعلين”، منخرطين في قضايا تاريخهم الرّاهن، ساعين إلى تقديم حلول جذرية لمشاكل واقعهم. و ضمن هذه السّياق يستبق المفكّر الرّاحل ياسين الحافظ عصره، منبّها إلى ضرورة أن نبدأ بداية صحيحة، فيقول عن ضرورة تأهيل النخبة المثقّفة: ” ونقطة البداية، هي قلب الاستراتيجيّة العربيّة قلبا كلّيا، و بالتّالي اعتبار تحديث و عقلنة و كوننة وعي الانتلجنسيا العربيّة مقدّمة لا بدّ منها لتعديل ميزان القوى لصالح الأمّة العربيّة”.
    هل يمكن للمثقّف الرّاهن أن ينزوي، أو أن ينقطع عن الواقع ليهتمّ بقضايا فكريّة أو فلسفيّة، ليست ذات علاقة بحاجيّات الواقع؟ إنّه لو فعل ذلك يعني أنّه يضيّع على نفسه لحظة تاريخيّة فريدة يمكن أن يكون فيها هو القائد الفعليّ و المحرّك للتّاريخ. إنّ المتغيّرات الحادثة في الوطن العربي، تنزع عن المثقّف كلّ المفاهيم التي التبست به، و لا تترك مجالا، إلاّ لذلك المثّقف الوظيفي، أي الذي يمتلك أفكارا عمليّة، و مبادرات للإصلاح. و عليه فإن المثقّف الرّاهن، هو مثقّف منخرط في عمليّة التّغيير و البناء. يقول المفكّر محمّد عابد الجابري، في مسعى لتحديد مفهوم دقيق للمثقّف:” و هكذا، فالمثقّف بهذا المعنى “القوي” يتحدّد وضعه لا بنوع علاقته بالفكر و الثّقافة، و لكونه يكسب عيشه بالعمل بفكره و ليس بيده، بل يتحدّد وضعه بالدّور الذي يقوم به في المجتمع كمشّرع و معترض ومبشّر بمشروع، أو على الأقلّ كصاحب رأي وقضيّة.”
    إنّ هذا التحديد “الجابري”، لمفهوم المثقّف، يربط الصّلة بين المثقّف و بين المجتمع، وتقوم العلاقة بينهما على التشريع، أي سنّ القوانين التي تغيّر من واقع المجتمع، أو أن يمارس دور المعارضة، فيبني علاقة نقديّة مع الدّولة- السلطة، أو هو حامل لمشروع جديد أو بديل، و في نهاية المطاف هو صاحب رأي و موقف من الواقع الذي يعيشه بكلّ تمثّلاته السّياسيّة و الاجتماعيّة و الثّقافيّة. وهذا التّحديد، يربط ربطا آليّا – مكانيكيّا بين المثقّف و التّغيير. فمهمّة المثقّف الرّاهن أو الوظيفيّ، هي تغيير المجتمع و الدّولة، و السّعي بهما إلى محطّات حضاريّة أكثر تقدّما و تطوّرا و حداثة. ونجد مثل هذا التّحديد عند علي أسعد وطفة الذي يقول “ومن المؤكّد أنّ مفهوم “المثقّف” الفعّال يتجاوز حدود العلاقة الطبيعيّة بين الفرد والثّقافة إلى حد الإنتاج الثّقافي، وهذا يعني أنّ “المثقّف” لا يقف عند حدود تمثّل الثّقافة و التّماهي بها، بل لا بدّ له أن يتجاوز هذا المستوى إلى درجة المشاركة في إنتاجها وإبداعها و تجديدها.”
    و إذا ما اعتبرنا أن التّغيير هو، سيرورة عمل و إنتاج لثقافة جديدة، فإنّ المثقّف في المجتمع العربي، بات محكوما في مفهومه، بالدّور الذي يتوجّب عليه أن يلعبه كمحرّك للتّغيير، وكفاعل اجتماعيّ و ثقافيّ و سياسيّ، في هذه السيرورة الطّويلة. و لنكن براغاماتيين في قراءتنا لهذا المفهوم، لنقول إن المثقّف عليه أن يردّ الدين الذي على رقبته، للمجتمع الذي أنتجه. فحالة الاستقالة و الانكفاء التي التبست بالنخبة المثقّفة في الوطن العربي في عقود ما بعد استقلال الدّولة الوطنية، هي التي فسحت المجال أمام سيطرة العسكر، و الحاشيّة و طبقة الانتهازيين على كلّ مفاصل الدّولة و وجّهتها نحو خدمة مصالح فئة ضيّقة. إنّ المثقّف بما هو القوّة الاجتماعيّة، النيّرة، قد لعب دورا سلبيّا في عدّة مراحل تاريخية، لأنّه لم يستطع أن يحقّق الوحدة، مع طبقة الجماهير الواسعة، فكان مساهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في منع التقدّم و في تأجيل التّنمية و في تعطّل التّغيير. و حتّى نختم هذا العنصر، نسمح لأنفسنا بتحديد جديد لمفهوم المثقّف، نحصره في مصطلح “المثقّف الوظيفي”، أي ذاك المثقّف الذي ينهض بوظائفه في المجتمع، و يساهم في فتح نقاشات عامّة حول مسائل تتصّل بشواغل الإنسان في لحظته الرّاهنة التي يعيشها. و نحن نميّز تمييزا دقيقيا بين مفهوم المثقّف العضوي، ذا البعد الإيديولوجي الضيّق، و بين مفهوم المثقّف الوظيفي، بما هو التزام بقضايا الإنسان عامّة خارج الحدود التي ترسمها إيديولجيّة معيّنة. وحتّى يكون المثقّف وظيفيّا، عليه أن يكون مساهما في معركة التّغيير الجذريّة التي تحتاجها مجتمعاتنا، التي تمرّ بمرحلة تاريخيّة فاصلة.
    2 – التّغيير، سيرورة أمل
    نعترف أنّ عدة مصطلحات و مفاهيم، نالت حظّها من النّقاش الفكري، حيث كتبت فيها عدّة دراسات. و لكنّ مفهوم التّغيير ظلّ مفهوما غير مدروس بدقّة، رغم أنّنا نجده مبثوثا في كثير من الدّراسات، الفكريّة و الاجتماعيّة. فالفكر العربي المعاصر تناول مفاهيم النّهضة و التقدّم و الحداثة بإطناب، لكنّ الدّراسات التي تتناول مفهوم التّغيير تظلّ شحيحة إن لم نقل نادرة. و عليه فإنّ من واجب الباحث أن يبذل قصارى جهده من أجل رسم جهاز مفاهيمي، محدّد ودقيق لمصطلح التّغيير.
    نجد في لسان العرب في مادّة “غ/ ي/ ر”، أنّ “غير ” تعني التّهذيب، و الغِيَرُ، من تغيّر الحال، و تَغيّرَ الشيء عن حاله: تحوّل، و غيَّرَهُ: حوّله و بدّله كأنّه جعله غير ما كان. و غَيّرَ عليه الأمر: حوّله و المُغيِّرُ، الذي يغيّر على بعيره أداته ليخفّف عنه، و غِيَرُ الدّهر أحواله المتغيّرة، و الغِيَرُ الاسم من قولك غيّرت الشّيء فتغيّر” . و التّغيير مصدر من غيّر، أي حوّل وجعل الأمر على صورة جديدة. فالتّغيير بهذا المعنى يكتسب عدّة معاني منه الاختلاف و التحوّل، و لكن جوهر التغيير، بما هو تحوّل، هو الحركة، فالانتقال من حال إلى حال يعني الحركة. و لكنّ الإنسان عندما يسعى إلى تغيير الحال، فإنّه يجهّز بدءا، وسائل تلك الحركة التّغييرية، التي تضمن له تحقيق أهدافه و مقاصده من تلك الحركة التي أنجزها. و إذا انتقلنا من مجال الفرد إلى مجال المجتمع فإنّ التّغيير سيكتسب معاني أوسع، و أشمل. لأنّ تغيير مجتمع أو دولة، يقتضي ضرورة جملة من العلاقات المفاهيميّة التي نرصدها في هذا المبحث و إن بإيجاز، يقتضيه حجم هذه الدّراسة.
    التّغيير من هذه الزّاوية، هو فعل في الواقع الاجتماعي و الثّقافي و السّياسي، من أجل تحقيق هدف التّنمية أو التقدّم أو التّحديث. فكلّ حركة تغييريّة، هي سعي بشري من أجل تحسين ظروف عيش الفرد ومن أجل الرّقي بالسّلوك و الأفكار. ومن هذا المنطلق فإنّه يمكن اعتبار التّاريخ البشري الطّويل هو مسار تغيير متواصل، و غير منقطع و يمكن اعتبار الثّورات الكبرى، التي حدثت هي عناوين كبرى نقلت الحضارة الإنسانيّة من طور إلى طور جديد مختلف. إنّ الثّورة الزّراعيّة و الثّورة الصّناعية، و الثّورة التّكنولوجيّة، و الثّورة الاتّصالية و المعلوماتيّة، التي نعيشها في هذا التّاريخ الرّاهن، هي حركات غيّرت التّاريخ، ولكنّ تلك الحركات، سبقتها ممهّدات، أي ظروف و عوامل كانت ضاغطة و دافعة للإنسان، لعدم القبول بوضعيته تلك، و دافعة لذاك الإنسان بالبحث عن آفاق حياتيّة أرحب. و هذا يعني أنّ التّغيير لا يكون ناجعا أو ناجحا، ما لم تكن هناك عوامل دافعة إليه، وما لم تكن هناك أفكار تمهّد للتّغيير و تقوده في المراحل الانتقاليّة. وهنا ننزع عن التّغيير، إحدى الجوانب التي تعلّقت به وهي التّغيير الفجئي أو الانقلابي، وهو صورة من بعض صور حركة الطّبيعة. فكلّ تغيّر فجئي في حركة الطّبيعة، أفرز نتائج سلبية و مضرّة بالاستقرار البشري. كذلك فإن التّغيير الاجتماعي أو السّياسي إذا نزع للفجئيّة أو الانقلابيّة، كانت آثاره مدمّرة للمجتمع و للدّولة.
    للتّغيير قوانين، دقيقة ومحكمة، و أيّ انزياح عن تلك القوانين، سيعني فشل حركة التّغيير و عجزها عن تحقيق أهدافها. لذلك لا بدّ من توافر الشروط الموضوعيّة، حتى يكون التّغيير ناجعا. ومن أهمّ هذه الشّروط العامل الثّقافي، وهنا نعود إلى طرح علاقة المثقّف بالتّغيير، باعتبار المثقّف منتجا للثّقافة و للفكر. يقول الدّكتور يوسف عناد زامل:”إنّ أساس أي تغيّر أو تطوّر اجتماعي يعود إلى العامل الثّقافي وهذا ما يراه أنصار هذا العامل فكلما حدث تغيّر ثقافي في داخل المجتمع سواء أ كان هذا التغير ماديّا أم معنويّا أدى إلى إحداث تغيّرات اجتماعيّة”.
    و التّغيير، يرتبط ارتباطا وثيقا بتحوّل الحياة الاجتماعيّة، بعد توفّر العوامل الضّرورية الضّاغطة و الدّافعة للثّورة على الوضع السّائد إذ يقول،عبادة كحيلة ” فإذا توفّرت الشّروط الكمّية في مجتمع حالة الثّورة، تقع الثّورة حتما، أمّا إذا لم يتوافر شرط أو إثنان فإنّ هذا لا يعني خطأ القانون (قانون الثّورة) و إنّما يعني أن تراكمات الحالة لم تكتمل بعد.”
    إنّ الحديث عن ضرورة توفّر التّراكمات بما هي منتجات فكريّة أو أوضاع سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة ضاغطة، معناه أنّ المجتمع هو حالة حركة دائمة تتفاعل داخليّا، من أجل التغيّر الدؤوب و ضمن هذا المعنى تقول دلال محسن استيتية” وظاهرة التّغيّر أوضح ما تكون في مناحي الحياة الاجتماعيّة، و هذا ما أدّى ببعض المفكّرين إلى القول بأنّه ليس هناك مجتمعات، ولكنّ الموجود تفاعلات و عمليّات اجتماعيّة في تغيّر دائم و تفاعل مستمرّ.”
    إنّ هذه الديّناميكيّة المستمرّة، و التّفاعلات الدّاخليّة النّاشئة بسبب مجموعة العناصر المركّبة للحالة الاجتماعيّة أو السيّاسية القائمة، هي التي تدفع بقوة نحو الثّورة و التّغيير، و نقصد بالثّورة هنا عمليّة إعادة بناء الإنسان و المجتمع و إصلاح الأنظمة الاقتصاديّة و التعليميّة القائمة، دون القطيعة مع الماضي، بل بإحياء “بعض المقاطع الممتازة” في ذلك الماضي، مثلما يرى الدكتور هشام جعيط، في كتابه “الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة و المصير العربي.
    إنّ التّغيير الذي نفهمه هنا، هو ذلك التّغيير البنّاء و العقلاني، و هو الذي يستوجب قادة فاعلين هم المثقّفون، و يستوجب توفّر منوال تغيير أو تصميم دقيق، لما نريد أن بلغه في المستقبل. فالتّغيير البنّاء أو النّاجع هو الذي يهدف إلى تحقيق منجزات حضاريّة ترتقي بالفرد، و تُصلح المجتمع. و لا يمكن هنا أن نصنع تغييرا ناجعا، ما لم يكن للمثقّف الوظيفي فيه دور مركزيّ.
    3 – المثقّف الوظيفي و التّغيير أيّ علاقة؟
    إنّ الحديث عن التّغيير، يتجاوز الحديث عن ثورة سياسيّة لقلب نظام حكم، أو ثورة اجتماعيّة لتحقيق مكاسب ماديّة لطبقة ما. فالتّغيير هو مشروع حضاري شامل، يهدف إلى تحقيق التّحول الحضاري، ونجد تأييدا لهذا الرّأي في ما أشار إليه الدكتور حسين مؤنس، في كتابه “الحضارة، عندما عرّف التّغيير بالقول:” و المراد بالتّغيير و الحركة هنا، التّغيير الحضاري أو الحركة الحضاريّة، لأنّ كل تحرّك تاريخي لا يصحبه تحوّل حضاري لا يحسب له حساب في أحداث التّاريخ.” و لذلك يؤرّخ المفكّرون للثّورة الفرنسيّة باعتبارها مثلت حالة تحوّل حضاري نقلت فرنسا و أوروبا و الإنسانيّة عامة من حالة حضاريّة قديمة إلى حالة حضاريّة جديدة. و كذا فهم المفكّرون الثّورة الأمريكيّة، باعتبارها مثّلت منعطفا هامّا في بناء الدّولة العصريّة. ولا يمكن فهم الدّعوة المحمّدية و رسالتها الخالدة، خارج هذه المنعطفات التّاريخيّة العظيمة التي نقلت البشريّة إلى أوضاع أفضل، وحققّت تقدّما نوعيّا في وسائل عيشهم و في أنماط السّلوك و في أنماط التّفكير. و عليه فإنّ التّغيير باعتباره، حركة حضاريّة تسير دوما نحو الأمام، فإنّه يتطلّب مقدّمات صحيحة من أجل أن تكون النّتائج صحيحة أيضا. و هذه المقدّمات تتمثّل في توفير أسباب التحوّل النّاجع، ومن بين هذه الأسباب، هي النّخبة القائدة لحركة التّغيير، وهي المثقّفون. و يقول الدكتور حسين مؤنس:” لابدّ إذن من تمهيد أو إعداد فكري حضاري لكلّ حركة تاريخيّة ذات مغزى حضاري، حتّى تأخذ الحركة معناها و مكانها الكاملين في مجرى التّاريخ، و هذا التّمهيد و الإعداد الحضاري هو الذي يسمّى الوعي الحضاري، و ليس من الضّروري أن يكون هذا الوعي قائما في أذهان الجماعة كلّها لتتحرّك، بل يكفي أن تكون هناك أقليّة قائدة واعية. وهي قائدة لأنها واعية، و لا يعرف التّاريخ حركة ذات معنى حضاري أو أثر في تقدّم الجماعة الإنسانيّة كلّها إلاّ نهضت بعبئها هذه الأقليّة الواعية التي تسمّى عادة بالصّفوة أو الإيليت.(élite .
    و يضيف في موضع آخر من كتابه، مبيّنا العلاقة الوثيقة بين النّخبة المثقّفة و بين حركة التغيير أو التحوّل الحضاري قائلا” و عندما قامت الثّورة الفرنسيّة على قاعدة من تفكير المجموعة المعروفين بالموسوعيين(يقصد فلاسفة الأنوار)،فكذلك قامت فكرة الثّورة الأمريكيّة الجديدة على أساس من كتابات المجموعة التي عرفت باسم الاتحاديين( ( the federalis، و هؤلاء رسموا الصّورة الحضاريّة للدّولة الجديدة ومجتمعها.”
    إنّ أهمّية الدّور الذي تلعبه النّخبة المثقّفة هو نشر الوعي بضرورة قيام حركة تغييريّة لمغادرة ما يمكن تسميته “منطقة الرّكود الحضاري”، ومهمّة المثقّف العربي، من خلال هذه الحركة المسّماة “الرّبيع العربي”، تلقي على عاتقهم هذه المسؤوليّة الكبرى و الخطيرة، وهي قيادة الحضارة العربيّة إلى أفق جديد. فالنّخبة المثقّفة في المجتمع العربي الرّاهن تلقى عليها هذه المسؤوليّات الجسام، حتى لا نظلّ ندور في حركة دائرية مغلقة، أساسها مقدّمات خاطئة و نتائج سالبة. و النخبة المثقّفة العربية التي امتلكت أدوات التّفكير و استطاعت أن تحوز على قدرات علميّة غير مسبوقة عليها ” أن تقود و توجّه و تبتكر و تبني و تنظر إلى الأمام و تحسب حساب الحاضر و المستقبل، ففي عصور النّهوض و التقدّم الحقيقي يكون العبء ملقى على كاهل الصّفوة.”
    إنّ مشروعا للتّغيير الحضاري، في عناوينه الكبرى و في تفاصيله الدّقيقة، يتطلّب التزاما من النّخبة المثقّفة العربيّة، بالدّفاع عن حقّ هذه الشّعوب في حياة أفضل. و دون ذلك لن ينجز التّغيير و لن تتحقّق النهضة، و سيظلّ التّقدّم حلما بعيد المنال. و أيّا كان الموقف من “الرّبيع العربي”، فإنّ هناك مكاسب لا يمكن إنكارها. و أهم مكسب هو فرض الخيار الدّيمقراطي، الذي منح بعض الشعوب العربيّة مجالات واسعة من الحرّية، فيما تناضل أخرى من أجل كسب معركة الديمقراطيّة و الحرّية. و إن كانت الشّعوب قد ثارت على أوضاعها المزرية، فإنّ مهمّة النّخبة المثقّفة هي التّأسيس لمرحلة جديدة، يكون فيها للفرد العربي درجة المواطنة الكاملة. و إذا لم تفعل النّخبة المثقّفة ما يجب أن تفعله في هذه اللحظة المفصليّة من التاريخ العربي المعاصر، فإنها ستكون قد خانت شعوبها مرّة أخرى، و أضاعت فرصة التقّدم. وقد كتبنا عن هذه المسألة، في مناسبة سابقة، حيث قلنا” إنّ كسب معركة الدّيمقراطيّة، باعتبارها كلمة السرّ في معركة التقدّم، هو أمر هو أمر موكول لا فقط إلى السّديم الهائل من الشّعب، بل هو أمر منوط بالنّخبة أو بعهدة الإنتلجنسيا.”
    و لكن، على هذه النّخبة أن تكون هي أيضا واعية بضرورة التّغيير الحضاري و بضرورة نقض حالة الرّكود. و إلاّ فإنّ هذه النّخبة المثقّفة ستتحوّل إلى سلطة تبريريّة للوضع القائم، و ستكون “خائنة”، لطبيعة الأشياء وهي التّغيّر. يقول ياسين الحافظ في الأعمال الكاملة، منتقدا النّخبة الفكرية العربيّة التي لا تتحمّل مسؤولياتها التّاريخية في كسب معركة الدّيمقراطيّة:” لكنّ العامل الأكثر شؤما، هو خيانة الإنتلجنسيا العربيّة لقضيّة الدّيمقراطيّة، أو على الأقلّ افتقارها إلى وعي ديمقراطي يجعلها تعتبر التّغيير الدّيمقراطي للمجتمع جزءا أساسيّا من سيرورة التّقدّم العربي، و حجر الزّاوية في البناء الجديد للنّهضة العربيّة المنشودة.”
    إنّ التّغيير حركة، و الحركة تتطلّب محرّكات دائبة الاشتغال، وهذه المحرّكات هي النخبة المثقّفة المؤمنة بأنّ مهمّتها الأساسية في المجتمع، هي إصلاح الأوضاع الاجتماعيّة و الاقتصاديّة، و عقلنة الثّقافة و علمنة التّعليم، و إعلاء قيم المواطنة و المساواة و تعزيز قيم العدالة و الديمقراطيّة، و تحقيق المساواة بين المرأة و الرّجل، و تعديل علاقة “المركز بالأطراف” بين المدينة و الرّيف، و بين مراكز العواصم والجهات التي تعيش تحت وطأة عقود من التّهميش.
    إنّ مهمّة المثقّف في مشروع التّغيير الحضاري، لهي على درجة من الأهميّة القصوى، بحيث يجب على المثقّف أن ينهض بأعباء الإصلاح، و التّنميّة، و أن يقود الفكر و الثّقافة إلى مستويات إبداعيّة أرحب. إنّ واجب المثقّف، يكمن في صياغة رؤية مستقبليّة، تحقق التّغيير الجذري الذي يمنع العودة إلى دولة الاستبداد و الفاسد، ويمنع العودة إلى واقع التهميش وواقع غياب العدالة. وهذه الرّؤية المستقبليّة غايتها “الخروج من شرنقة الحكم السيّئ المتّسم بالاستبداد الفردي أو الجماعي و الفساد الاقتصادي و الاجتماعي، نحو فضاء الحكم الرّشيد القائم على إرساء دولة الحقّ و القانون و المؤسسات.”
    إنّ التّغيير المنشود، بما هو إصلاح و تنمية و تحديث، يستوجب مواجهة جذريّة مع قوى “القصور الذّاتي” و يستوجب تمهيدا لمخاض طويل وعسير هو مخاض ولادة وطن عربي جديد، مغايِرٍ، للواقع الذي تمّ الانتفاض عليه. في أكثر من دولة عربيّة. يقول الدكتور عبد الحسين شعبان:” إنّه مخاض قد يكون طويلا و عسيرا لولادة جديدة لوطن عربي لم يعد بالإمكان الإبقاء عليه خارج الزّمن و التّاريخ، و يعيش في جزر معزولة بعيدا من التّأثير، و لعلّ تلك واحدة من الاستحقاقات المؤجّلة منذ نحو ربع قرن و ترافقا مع موجة أوروبا الشرقية للتّغيير.”
    ΙΙΙ المثقّف، أدوارا و وظائف
    إنّ أسّ هذه المقالة، يتمحور على الدّور الجديد الذي يجب على المثقّف أن يلعبه، ليساهم في بناء مشروع حضاري عربي جديد. و في واقع الأمر، فإنّ توصيفات الدّور عديدة و متعدّدة، لكنّها ترتكز أساسا على ما يحتاجه المجتمع العربي، ما بعد أحداث الرّبيع العربي من هذا المثقّف. إنّ المطلوب من النّخبة المثقّفة هو إعادة الرّوح للثّقافة العربيّة حتى تعاود حركة الإنتاج و المساهمة في بناء الحضارة الإنسانيّة عموما. وحتّى تتحقّق هذه الغائيّات السّامية، يجب على المثقّف أن يكون مثقّفا مبدعا و مبتكرا، و “المثقّف المبدع هو الذي يعي دوره و يحدّد ما عليه أن يقوم به في مجتمعه.”
    و في مثل هذه المرحلة الانتقاليّة التي يمرّ بها الوطن العربي، فإنّ مهمّة المثقّف و دوره و وظيفته، إنّما تتطلّب “إصلاح الخلل بين المفكّر المجتمع، بمعنى أن ينزل إلى أرض الواقع لوصفه و تحليله و فهمه، ثم هناك تشييد مشروع حضاري قومي كتتويج لعلم المفكّر.” و الإصلاح لا يكون إلاّ بالعودة إلى ما دعا إليه المفكّر الكبير ياسين الحافظ، في مشروعه الحضاري المنسي، و القائم على ضرورة أن يكون الوعي مطابقا لحاجيات الواقع. و المثقّف المبدع هو الذي يكون قادرا على أن يبتكر حلولا لمشاكل الواقع انطلاقا من الإمكانات الذاتيّة المتوفّرة، و اعتمادا على القدرات المتاحة، في الزّمان و في المكان. و يتحدّث فريديريك معتوق عن ضرورة إصلاح العلاقة بين المثقّف و المجتمع، بالحديث عن تجارب حضاريّة أخرى، مثل ألمانيا و بريطانيا و الولايات المتحدة ليصل إلى خلاصة يقول فيها” وهذا يؤكّد أنّ مثقّفي هذه البلدان، أدركوا طبيعة الواقع و قضاياه، و من ثمّ وضعوا تخطيطا واقعيّا لما يريدونه من العلم السّوسيولوجي، بما يتّفق مع متطلّبات هذه المجتمعات” .
    إنّ الحدث العربي، المتواصل منذ العام 2011، يهدف في ما يهدف إلى إحداث تغيير جذري في بُنى المجتمع و الدّولة، وهذا التّغيير يستوجب أن يصوغ المثقّف مقولاته الجديدة. فليس هناك من هو مؤهّل، لأن يلعب هذا الدّور أكثر من المثقّف، المتسلّح بأدوات معرفيّة و تحليليّة تمكّنه من رسم الخطوط الكبرى العريضة للمشروع الحضاري الجديد. و المعيار الحقيقي لنجاح كلّ حركة تغيير، يكمن في قدرة فاعلي تلك الحركة على تحقيق المنجزات الحضارية الكبرى التي يحدّدها عبد الإله بالقزيز في قوله، “المعيار الحقيقي للتّغيير لا يتمّ عبر الإطاحة بالأنظمة الحاكمة السّابقة، بل بمدى ما يمكن إنجازه من عمليّة التّغيير الاجتماعي، الاقتصادي، السّياسي، و الثّقافي القانوني، و لا سيّما على صعيد التّنمية و الرّفاه الاجتماعيين.”
    إنّ مثقّف هذه المرحلة المفصليّة في تاريخ الوطن العربي، يتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة، في النّهوض بهذه المجتمعات، أو بالمساهمة في إعادتها إلى مراحل التوحّش و الجاهليّة. و لا خيار أمام هذا المثقّف الذي كانت علاقاته بالسّلطة و بالمجتمع تتغيّر مدّا وجزرا لفائدة هذا الطّرف أو ذاك، إلاّ أن ينتصر هذه المرّة لخيارات الشّعوب، و أن يكون في صفّها، مدافعا عن قضاياها متحمّلا مسؤوليّة الإصلاح و التّنمية.
    1- المثقّف و الإصلاح في مجتمعات ما بعد 2011
    لقد استقرّ الرّأي عندنا في توصيف المثقّف بـ”الوظيفي”، و الوظيفيّة ترتبط بالنّفعيّة، أي بالنّفع المنتظر جنيه من علم المفكّر و ثقافته. فالانتفاضات التي اندلعت من تونس إلى صنعاء مرورا بطرابلس الغرب و بالقاهرة و بدمشق، و التي مسّت دولا أخرى، قبل أن يتمّ وضع حواجز أمام انتشارها، كانت أسبابها متشابهة، وكان المثقّفون بعيدي الصّلة عن حركاتها على الأقلّ في البدايات. ولكنّ هذه الثّورات منحتهم فرصة غير مسبوقة تاريخيّا، لاختبار قدرتهم على الإصلاح، و على تنفيذ أفكارهم و تجسيدها في الواقع. تقول الدّكتورة إسعاف أحمد،” لم يسبق للمثقّف العربي أن وُضِع على المحكّ كما يحصل الآن، في ظلّ التحوّلات التي تشهدها المنطقة العربيّة، مع انتهاء العقد الأوّل من القرن الحادي و العشرين، و لم يسبق لمقولاته و قضاياه و آلياته أن تعرّضت للاختبار و امتحان المصداقيّة كما تتعرّض الآن.”
    لقد منح الحراك الشبابي في الوطن العربي، المثقّف، عدّة وسائل تمكّنه من التحرّر من تلك القيود التي ظلّت تأسره في علاقة محدّدة، فهو إمّا نصيرا للسّلطة السّياسيّة، مبرّرا لأفعالها و حتّى لأخطائها و جرائمها، و إما نصيرا للطّبقات المهمّشة، فيكون مغضوبا عليه، مهمّشا. و الحقيقة أنّ ذلك العهد انطلق منذ أن اشتعلت النّيران في جسد الشّاب التونسي محمّد البوعزيزي في 17 كانون الأول من سنة 2010. و علينا أن نقّر أنّ الزّمان الذي تلى تلك الحادثة مغاير لكلّ الحقب التي سبقته، فبقدر ما أنّ المثقّف لم يكن مساهما بصفة مباشرة في الحراك الثّوري، إلاّ أنه هو المستفيد من ذلك الحراك لأنّ مجالات المساهمة في الإصلاح باتت تستدعي دورا رئيسا للمثقّف. فما الذي يمكن أن يصلحه المثقّف في مجتمعات ما بعد 2011؟
    إنّ أوّل مجال للإصلاح، هو إعادة ترميم علاقة المثقّف بمحيطه. فالمثقّف المصلح عليه أن يعيد بناء جسور العلاقة مع محيطه الاجتماعي من أجل بلورة أفكار تستجيب للواقع المتغيّر. و على المثقّف المصلح أن يعيد ربط الجسور مع بقية مكوّنات طبقة المثقّفين. لأن مهمّة الإصلاح، في مجتمعات ما بعد 2011، لا يمكن أن تكون إلا تشاركيّة و توافقيّة أيضا. وهذه الحقيقة تفترض أيضا أن يعيد المثّقف النّظر في تموقعه كفاعل اجتماعي مساهم مع بقيّة فاعلين اجتماعيين، و بالتّالي عليه تغيير نظرته إلى نفسه باعتباره مركز المجتمع و قلب الرّحى فيه. ونجد في أعمال ياسين الحافظ ما يدعم هذا الرّأي، ذلك أنّ أول ما يجب إصلاحه هو وعي النخبة المثقّفة حتى تكون قادرة معرفيّا و عمليّا على إفادة مشروع التّغيير الحضاري المنشود، إذ يقول ياسين الحافظ” نقطة البداية، هي أولا، قلب الاستراتيجيّة العربية قلبا كلّيا، و بالتّالي اعتبار تحديث و عقلنة و كوننة الإنتلجنسيا العربيّة مقدّمة لا بدّ منها لتعديل ميزان القوى لصالح الأمّة العربيّة. ثانيا أن نعمّق و نجذّر نقدنا، فندفعه من نقد الأنظمة أي السّطح السّياسي ( و الحقيقة أنّ الثورات قد قصّرت هذا الطّريق) إلى نقد المجتمع “العمارة”و بالتّالي المطلوب قلب مجتمع و ليس قلب حكم فقط”
    إنّ هذا المشروع الحضاري التّاريخي، المنشود و الذي يهدف إلى تثوير المجتمع و قلبه، قلبا كلّيا، يفترض أن يتسلّح فيه المثقّف بوعي جديد، هو وعي الواقع و حاجياته، كما هو دون الاستقرار في قاع الإيديولوجيا، التي أثبتت أنها عديمة الجدوى و عديمة الفائدة. و يقول ياسين الحافظ في هذا السّياق” إنّ الشّرط الأوّل لكسر هذا الواقع و قلبه، هو الارتفاع من الإيديولوجيا إلى وعي الواقع كما هو، بلا رغبة، بلا شعور أو شطح، ينبغي أن نخرج رؤوسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا.”
    إنّ إصلاح علاقة المثقّف بنفسه و بمحيطه، هي الخطوة الأولى من أجل تقديم، مشروع التّغيير الحضاري الكبير، وهناك أكثر من عمل مساعد، يجعل الدّور الطلائعي للمثقّف أسهل بكثير ممّا كان عليه الأمر قبل عقود من الزّمان، أوّلا لتوفّر قاعدة شبابيّة مثقّفة يمكن التّواصل معها، و يمكن بناء علاقة تشاركيّة معها، و توظيفها كطاقة محرّكة و محفّزة للإنتاج، و ثانيا، لتحسّن ملموس في الأوضاع الاجتماعيّة و الاقتصاديّة لأغلب الفئات الاجتماعية، فلا مجال هنا للمقارنة بين الإنسان العربي في هذا العصر الرّاهن وبين الإنسان العربي في مرحلة الاستعمار أو في بداية نشأة الدّولة الوطنية في منتصف القرن العشرين. وهذه الممهّدات تجعل عمليّة الإصلاح أيسر، لكن هذا لا يعني أيضا أنّ طريق الإصلاح ستكون دون عوائق، فبناء مشروع حضاري جديد، يكنس مخلّفات الحقبة الدّيكتاتوريّة في الوطن العربي، و يصفّي تصفية جذريّة المقولات الرّجعية التي تسعى إلى إعادة هذه المجتمعات إلى نقطة الصّفر، يجب أن يرتكز على مفهوم واضح من السيرورة التّاريخية للمجتمعات. فهذه الثّورات منحتنا فرصة غير مسبوقة للتأسيس لمستقبل مختلف عن الحاضر و عن الماضي. فوعينا بالمستقبل يجب أن يبنى على هذه القاعدة التي تنبّأ بها ياسين الحافظ قبل عقود من الزّمن حينما وضع مفهوما للمستقبل، يقول فيه “إنّ المستقبل ليس تكرارا للماضي، مصبوبا في قوالب و أشكالا جديدة، و إنّما هو وليد حركة التطور التاريخي الدّائمة، الدّائبة إلى الأمام. إنّ التّاريخ ليس تهويمات دورانيّة لأرواح الأجداد على صفحات الزّمن، بل هو حركة تخطّ وتجاوز دائم إلى الأمام.”
    هذا هو الشّرط الأوّل الذي يجب أن يؤمن به مثقّف عالم اليوم، شرط الوعي بالزّمن و تحوّلاته، وشرط الوعي بالعمل من أجل المستقبل، لا من أجل استمرار الماضي و الحاضر و تجميلهما. و هذا الوعي الجديد، يتطلّب عمليّة إصلاح شاملة لمفاهيم المجتمع و الدّولة. و أولى هذه الخطوات، هي أن يكون المثقّف قائدا لعمليّة التّنمية الشّاملة. لقد شبعت الحضارة العربيّة هزائم، و شبع المواطن العربي إذلالا في كلّ مكان، و استعادة النّصر يمرّ عبر تلك الحقول و المجالات التي كان المثقّف في قطيعة معها، فنحن لا نريد ثقافة تقصر جهدها على دراسة التّراث و التّاريخ. مجتمعاتنا تحتاج علماء و مفكّرين يقدّمون حلولا لزيادة الإنتاج الاقتصادي و التّكنولوجي، تحتاج حلولا لمشاكل التّعليم، و بطالة خرّيجي الجامعات، تحتاج مشرّعين و رجال قانون، يسنّون شرائع الدّولة الجديدة و المجتمع الجديد. إنّ المرحلة العربيّة الرّاهنة تتطلّب مثقّفا واعيا بدوره، غير منكفئ على نفسه، لأنّ معركة التّغيير الشّاملة تحتاج مثقّفا “مقاتلا”من أجل الإصلاح و التقدّم.
    2- المثقّف و التّنمية الشّاملة
    من المتّفق عليه أنّ مفهوم التّنميّة كان مفهوما مبتسرا، محتقرا، في دراسات الفكر العربي المعاصر. و تهميش المفهوم نشأ عنه أخطاء قاتلة في أداء الدّولة الوطنيّة التي نشأت عقب حركات التّحرّر الوطني. حيث لم تعالج مشكلة المواطنة معالجة عادلة، و لم يتمّ تعصير التّعليم ليكون مواكبا للسّياقات التي بلغتها الأمم المتقدّمة. كما لم يتمّ تحقيق النّمو الاقتصادي الذي يضمن التحكّم في نسب البطالة و في خفض نسب الفقر. وهذه الحقائق كانت تتراكم و كانت التّعبيرات عنها تتّخذ أشكالا متعدّدة منها الحركات الشّبابيّة في نهاية ستّينات القرن الماضي، و حركات المعارضة السّياسية التي فجّرت في فترات متلاحقة حركات احتجاجيّة ذات طابع اجتماعي، دون أن ننسى الحركات الفنّية التي رافقت تلك الحركات السّياسية و عبّرت عنها في منتجات فنّية، كان مصير مبدعيها النّفي و التّهميش و غياهب السّجون. وهذا يعني أنّ منجزات الدّولة الوطنيّة ظلّت قاصرة عن الاستجابة لحاجيّات المجتمع المتطوّر. ولعلّ الانفجار العظيم في 2011، كان تعبيرا صادقا عن فشل الدّولة الوطنيّة، في أداء أدوارها و وظائفها. وربّما يعود أحد أهمّ أسباب ذلك الفشل هو القطيعة شبه التّامة مع المثقّفين الذين حملوا مشاريع وطنيّة للتقدّم و النهوض، و اكتفوا – أي السّياسيين- بتقريب فئة من المثقّفين، كان دورها تلميع صورة النّظام وتبرير سياساته. وعليه فإنّ التّنميّة الشّاملة تقتضي اليوم الالتفات إلى أولئك الباحثين المغمورة دراساتهم في رفوف الجامعة، و تتطلّب نفض الغبار عن أفكارهم و عن الحلول التي قدّموها منذ سنوات دون أن يلتفت إليهم أحد. نحتاج اليوم دعوة تلك النّخب التي عملت في صمت، وبعضها غادرنا دون أن نكتشف حجم إضافاته العلمية و المعرفيّة. كما تتطلّب المرحلة ضرورة الاستنجاد بتلك “الطّيور المهاجرة” التي أغرتها مراكز البحث الدّولية، من أجل العودة إلى أوطانهم، و المساعدة عبر مشاريعهم البحثية في تطوير الواقع العربي و في قلبه قلبا كلّيا إن لزم الأمر. وهذا يفترض أن يقع تحويل الامتيازات التي يتمتّع بها رجال السّياسة، الذين لا يقدمون حلولا في واقع الأمر، إلى العلماء و المفكّرين الذين يبدعون حلول التّنميّة الشّاملة، تبني الذّات بناء متينا، وتؤسّس لعلاقات متساوية مع الخارج، يقول الدكتور إبراهيم العيسوي:” أمّا التّنمية فهي ظاهرة مركّبة تتضمّن النّموّ الاقتصادي كأحد عناصرها الهامّة. ولكنّها تتضمّنه مقرونا بحدوث تغيير في الهياكل الاقتصاديّة و الاجتماعيّة والسيّاسيّة و الثّقافيّة و العلاقات الخارجيّة. بل يمكن القول إنّ التّنميّة إنّما تتمثّل في تلك التغيّرات العميقة في الهياكل الاقتصاديّة و السّياسيّة و الاجتماعيّة للدوّلة.”
    إنّ المثقّف الوظيفي، هو الذي أن يعيد الاعتبار لمفهوم التّنميّة، وهو الذي يجب عليه أن يساهم في إعادة “الإعمار”، حيث من الضروري أن تكتسب العلاقات أنماطا جديدة، وحيث يجب أن يجري تحيين للمفاهيم، قبل الشّروع في التّخطيط و في تنفيذ مشاريع التّجديد الحضاري. هنا لابدّ من التعلّم من تجارب المجتمعات الأخرى التي استطاعت أن تنهض من وسط الرّكام لتبني دولا قويّة و مجتمعات ناهضة. ونجد في كتاب التّجربة اليابانيّة ما يدعم هذا الرّأي: حيث يتحدّث الكاتب عن أسس النّهضة اليابانيّة وهي أساسا التّشاركيّة في اتخاذ القرار و المساواة و تعصير التعليم، ” و المتأمّل في هذه المبادئ الإصلاحيّة الكلّية (التّنميّة الشّاملة) يلاحظ اعتماد المقاربة التّشاوريّة المبنيّة على الحوار العلني في اتخاذ القرار، و التّركيز على مبدأ المساواة داخل المجتمع و التّخلّص من مرض الآبائيّة و آفة التّقليد بوصفها كابحا للتّجديد و الإبداع، غير أنّ محور كلّ ذلك هو السّعي لإقامة مجتمع المعرفة و تقديس قيم العلم و التّعلّم.”
    ما نستخلصه من هذا القول، إنّ المشروع الحضاري الذي نحن بصدد الحديث عنه، إنّما يقوم على أدوات الابتكار و الخلق و التّجديد، و على اتّخاذ العلم “دينا” يقودنا إلى التقدّم، و الأهمّ في كلّ هذا أن يكون مسار التّنميّة مسارا أفقيّا، حيث تكون الحرب على التخلّف حربا شاملة و متزامنة على كلّ أشكاله ومظاهره ، ذلك أنه من الخطأ التّفكير مجدّدا في أولويّة هذا المجال على الآخر. وهنا علينا أن تجاوز مقولات عبد الله العروي الذي عبّر عن حيرته في أولوية المجال الذي سيمثّل أولويّة الصّراع عندما قال” يبقى مشكل تحديد الأسبقيّة بين واجهات الصّراع الثّلاث: الاقتصاديّة، السّياسيّة، و الثّقافيّة، و لابدّ من البتّ فيه سواء أسمينا الوضعيّة التي نعيشها تأخّرا أو تبعيّة.”
    و في رأينا لا يكون المشروع الذي سيهدف إلى دفن كلّ أخطاء الماضي، إلاّ مشروعا للتّنمية الشّاملة، فالثّورات العربيّة، كانت تعبيرا “صارما” عن وجود أزمة عميقة في كلّ بنى المجتمع، و الثّورة على نظام سياسي، تعني الرغّبة في تغيير تلك البنى، و إلاّ فإنّ الثّورة لن تكون محقّقة لمعانيها الحقيقيّة، فهي ليست مجرّد تجميل للسّطح الخارجي للمجتمع بل هي عملية قلب كلّي للمجتمع ظاهريّا و جوهريّا. وهذه الأهداف الكبرى تحتاج مراجعات كبرى للمفاهيم ومن أهمّها مفهوم التّنميّة الشّاملة، باعتبار أنّ الأزمة هي عنوان للتخلّف و لغياب التّنمية و التّحديث. و لا خروج من المأزق الحالي، المتمثّل في تخلّف اقتصادي و اضطراب سياسي، و الذي تمّ تغذيته بصراع طائفي و مذهبي، حقّق مفهوم “التّكسير الاجتماعي”، إلاّ بتحديث سياسي، و بتنمية اقتصاديّة و بنهضة علميّة و بإصلاح الفكر الدّيني، بعدما شابه من “لوثة “التطرّف و الإرهاب. وهو واقع لا يمكن الهروب منه، بل تجب مواجهته، بجيش من المثقّفين الحاملين لمشروعات تغيير حقيقيّة، تهدف إلى حفظ كرامة الإنسان، و إلى الرّقي بالمجتمع.
    3- المثقّف و السّلطة، ضرورات التّحديث السّياسي
    لعلّ من فضائل ثورات الرّبيع العربي على المثقّف، تكمن في أنّها أزاحت من أمامه إحدى العقبات التي كانت تحول أمام مشاركته الواسعة بالرّأي و المشورة و بالدّراسات و الأبحاث، في صياغة قرارات الحكم و إدارة شؤون العامّة. ومع انهيار “السّلطة القهريّة” التي كانت تمثّلها الأنظمة العربيّة، فإنّ المثقّف بات بإمكانه أن يرسم مسارات التّحديث السّياسي، بحيث يمكنه أن يأخذ مكانة “الحكيم” الذي يوجّه و يصوّب المسار الخاطئ في عمليّة البناء السّياسي الجديد. و مهمّة المثقّف “الوظيفي”، هي المساهمة في إبداع فكر سياسي يستجيب لمنطق المرحلة و لمقتضياتها، و يستجيب أيضا لاستحقاقات المستقبل. إنّ عمليّة التّغيير السّياسي كما عمليّة التّغيير الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثّقافي، إنّما هي حركة، طريقها طويل جدّا، وحتى نستطيع بلوغ نهاية تلك الطريق بجهد أقلّ و دون مخاطر الارتداد إلى الوراء، فإنّ دور المثقّف يكمن في عقلنة الفعل السّياسي ممارسة وخطابا.
    لقد شهدنا في بعض الدول العربيّة بعد سنة 2011، عودة التّناحر الإيديولوجي بين العائلات السّياسية (إسلاميون و يسار و قوميون، وبقايا الأنظمة التي أسقطتها الثّورات) و هذا التّناحر، أوشك أن يقود التّجربة التّونسيّة النّاشئة مثلا إلى حالة من الاحتراب الأهلي بين اليساريين و الإسلاميين، خاصة بعد اغتيال الزّعيمين شكري بلعيد و محمد البراهمي. و لولا تحكيم العقل و تقديم تنازلات من كلّ الأطراف- وهي عقلانيّة سياسيّة فريدة في الوضع العربي الرّاهن- لما أمكن إنقاذ تونس من حالة الاحتراب الأهلي. وهنا يبرز الدّور الوظيفي الذي لا غنى عنه للمثقّف، فكما يقول فوّاز طرابلسي” فإنّ الدّيمقراطيّة تحتاج إلى مدى زمني أطول للتّمكّن من توطين دعائمها و آلياتها ومؤسّساتها في المجتمع، كما تبقى في حاجة إلى إسناد ثقافي يتيح للمجتمع القطع مع كلّ اشكال التّقليد المختلفة المترسّبة و الصّلبة في داخل المجتمع.”
    لقد تغيّر مفهوم السّلطة السّياسيّة في الدّول العربيّة التي نجحت في تجاوز الثّورة إلى الحكم الانتقالي إلى محاولات بناء الدّولة الجديدة، وتغيّر مفهوم الحكم، كما تغيّرت العلاقة بين المثقّف و السّلطة السّياسيّة، حيث تعدّدت المنتديات و مراكز الدّراسات و البحوث التي بدأت تعتمد على الدّراسات المتخصّصة وعلى المقالات العلميّة و الأكاديميّة، التي ينتجها المفكّرون و العلماء. ومن مظاهر التغيّر أيضا أنّ الأحزاب السّياسيّة باتت تلجأ إلى مراكز البحوث من أجل تكوين حزام ثقافي يسندها في تجربتها السّياسيّة النّاشئة.
    إنّ التّجربة السّياسيّة العربيّة بعد 2011، وهي في الحقيقة تجارب سياسيّة متنوّعة و متناقضة في كثير من الأحيان، تسعى إلى تكوين “عقل سياسي” جديد، يستفيد من تجارب الماضي، و لكنّه يؤسّس للمستقبل و هذا هو الأهمّ في نظرنا. وهذا المطلب، تعبّر عنه الحركة الديمقراطيّة التي تخطو خطواتها الأولى من خلال تنويع آليات الحكم، ومن خلال تنظيم الانتخابات الديمقراطيّة، ومن خلال الانتقال السّلمي للسّلطة الذي يرسّخ قيما جديدة، أهمّها أنّ عهد عبادة الفرد و النّظام الواحد و الحزب الواحد و الرّأي الواحد هي مفاهيم سياسيّة قد انتهت إلى غير رجعة. ذلك أنّ الجماهير التي قادت هذه الثورات لم يعد ممكنة حكمها بآليات ما قبل 2011، وهذا يمثل انعطافة تاريخيّة في العقل السّياسي العربي. فقبول الحاكم بالوضع الجديد وارتقاء المحكوم لدرجة الشّريك في الحكم، يمثّل درسا ديمقراطيا في الحالة العربيّة الرّاهنة، مع إدراكنا التّام أن الوضع يختلف من دولة إلى أخرى ومن تجربة عربيّة إلى أخرى. و ضمن هذا الزّخم التّغييري، يجب على المثقّف أن يكون فاعلا ضمن جملة الفاعلين في المشهد السّياسي و الثّقافي و الفكري. ومن هذه الزّاوية، فإن المثقّف يجب عليه أن ينخرط في العمليّة السّياسية حتى لا يمارس سياسة “الكرسي الشّاغر” التي يمكن أن يستفيد منها، من لا يملك أدوات التّفكير العقلاني، وهذا قد يؤثّر مستقبلا على عمليّة التّغيير برمّتها.
    إنّ كسب رهان التّحديث السّياسي، و كسب معركة التّحوّل الدّيموقراطي، هي مسؤوليّة تلقى على عاتق المثقّفين أوّلا، لأنّهم يمثّلون النّخبة النيّرة، العقلانيّة التي يمكن أن تقدّم خطابا هادئا، يحقّق أهداف التّغيير الكبرى. صحيح أنّ الثّورات العربيّة، انطلقت بصفة عفويّة، بمعنى أنّها لم تكن نتاجا لنضالات ثقافيّة و فكريّة قادتها النّخبة – وإن كنّا نعتبر أنّ هذه الثّورات هي نتيجة طبيعيّة لتراكمات فكريّة و تعليميّة بثّتها النّخبة المثقّفة في المجتمع العربي طيلة عقود من الزّمان- ولكنّ الفرصة متاحة الآن أمام هذه النّخبة لتكون في قيادة الفاعلين في حركة التّغيير العربيّة. وحتّى لا تضيع هذه الفرصة التّاريخيّة، فإنّ جيش المثقّفين، عليه أن يعمل في مواقع مختلفة و أن يساهم بكامل إمكاناته لترسيخ قيم هذا الحراك وهي الدّيمقراطية و المشاركة و المواطنة و العدالة الاجتماعيّة و المساواة. وهي كلّها مفردات زخرت بها أدبيّات الفكر العربي المعاصر، وحان نقلها من المجال الثّقافي النّظري إلى الحيّز العملي التّطبيقي و هو المجال السّياسي.
    3- المثقّف و المجتمع، نهاية البرج العاجي
    إنّ مظاهر التّغيير التي تسم الحالة العربيّة الرّاهنة، لا بدّ أن تسحب على علاقة المثقّف بالمجتمع الذي ينتمي عليه. وكما تحدّثنا في ما سبق عن ضرورة تحيين علاقة المثقّف بالسّلطة وتغييرها في اتّجاه يخدم الفرد/ المواطن، و المجتمع/ الدّولة، فإنّ علاقة المثقّف بالمجتمع يجب أن تراجع هي أيضا، حتّى يتمكّن من المثقّف من خدمة مجتمعه.
    ولعلّ من السّمات البارزة التي ظلّ المثقّفون يوسمون بها خلال العقود الماضيّة، هي أنّهم كانوا خادمين للسّلطة، منظّرين لها، مبرّرين أخطاء الحاكم، يسيرون في ركابه، لغايات “أنانيّة” يحقّقون بها مصالحهم الذّاتيّة، ويتنكّرون فيها للمجتمع الذي دفع ضريبة تكوينهم و الإنفاق عليهم. لا يمكن أن ننكر نشأة طبقة “المثقّف المزيّف” و التي عملت السّلطة السّياسيّة على توسيع قاعدتها، اعتمادا على مبدأي التّرهيب و التّرغيب. و يعتبر جون بول سارتر أن هذه الفئة من المثقّفين قد باعت نفسها، بحثا عن السّلطة المعنوية و الرّفاهية حيث يقول “إنّ العدوّ المباشر الألدّ للمثقّف هو المثقّف المزيّف، لأنّ المثقّف المزيّف هو قبل كلّ شيء مثقّف مبيع” . وهذه الفئة من المثقّفين كانت تمثّل عائقا أمام التّحديث و أمام الإصلاح و التقدّم بما أنها كانت تعمل على تأبيد الوضع السّياسي القائم، وكانت تعرقل كلّ محاولة للإصلاح. إنّ تلك السّمة يجب أن تتغيّر و يجب أن يكون “المثقّف الوظيفي”، خادما لحركة التّغيير معبّرا عن طموحات المجتمع و تطلّعاته إلى المستقبل الأفضل.
    و إذا كانت حركة التّغيير العربيّة، التي انفجرت في العام 2011، هي مقدّمة أولى لمسار طويل من التّغيير و التحديث، فإنّنا لا نجد أفضل من أنموذج مثقّف “غرامشي” لتحديد مهمّات المثقّف العربي و أدواره. و حتّى لا نغوص أكثر في هذا الجانب فإنّ علاقة المثقّف الجديدة بالمجتمع و وظيفته الرئيسيّة، تتمثّل في ضرورة الإجابة عن أسئلة الحاضر، و تقديم الحلول التي ترضي الجماهير الثّائرة. لقد كانت حركة التّغيير نابعة من أزمات اقتصاديّة و اجتماعيةّ و سياسيّة، و قيميّة. و واجب المثقّف في هذه المرحلة الرّاهنة، يتمثّل في ضرورة أن تنهض النّخبة بما هو مطروح عليها من استحقاقات. وهذه الاستحقاقات يلخّصها زياد حافظ في القول التّالي” هناك مسلّمة أنّ مفتاح التقدّم و الحضارة هو في الغرب، في ما أنجزه من تقدّم في العلوم و المفاهيم، في العلوم السّلوكية لتحليل الواقع السّياسي الاقتصادي الاجتماعي الثّقافي لمجتمعات الأمّة” .
    وهذا القول يثبت أن الاستحقاقات العاجلة، تستوجب انفصال المثقّف عن برجه العاجي، و تستوجب أيضا توجيه البحوث و الدّراسات نحو القضايا الرّاهنة التي تمثلّ شواغل الإنسان العربي في هذه اللّحظة التّاريخيّة. و دون ذاك لا يمكن للمثقّف أن يكون ذا دور وظيفي. لكنّ الرّهان لا يقتصر على تلك القضايا التي ذكرنا، فمن واجب النخّب المثقّفة في هذه المرحلة أن تكون في صدارة المدافعين عن وحدة المجتمع، عندما تنهال سهام التّقسيم و التّجزئة. و لعلّ من تبعات الحراك العربي المنفلت في أحيان كثيرة عن كلّ الضّوابط، هو العزف على أوتار ” الجماعة” من أجل تحقيق غاية “تكسير المجتمع”. ذلك أنّه لا يخفى على أحد أنّه يجري إذكاء روح الجهويّة و القبليّة في أكثر من بلد عربي، و يجري إذكاء الصراع الطائفي، باستعادة رمزيّة مأساة الحسين بن علي، و شيطنة معاوية في المقابل. و لعلّه لا يخفي أيضا العمل على إذكاء روح العداء الإثني و العرقي بين العرب و الأكراد و بين العرب و الأمازيغ، كما يتمّ من حين لآخر العمل على إشعال حروب دينية بين المسلمين و مسيحيي الشّرق لإظهار المسيحيين و كأنهم أقليّة مضطهدة في محيط إسلامي متطرّف. وهذه الحرائق الاجتماعيّة كفيلة بهدم المكتسبات القليلة التي جناها المواطن العربي من هذا التحوّل السّياسي غير المكتمل إلى حدّ الآن. إنّ إذكاء نيران الفتنة الاجتماعية و الطائفية و الدّينيّة، ليس لها من غاية سوى استدامة الاحتراب الأهلي، لتخريب ما تبقّى من أوطان. و إذا لم تقم النّخبة المثقّفة بدورها على الوجه الأكمل، أي بعقلنة الخطاب الثّقافي و السّياسي، و بترسيخ قيم التّسامح و التّفاهم و التّعايش السّلمي، بين أفراد المجتمع الواحد، فإنّ التّغيير سيفشل، و الأهداف الكبرى لهذه الانتفاضات لن تتحقّق.
    إنّ أهمّ الأسس التي قامت عليها هذه الدّراسة، تتمثّل في الوعي المطابق لحاجيات الواقع. و لذلك اهتممنا بربط دور المثقّف و وظائفه، في هذا الزّمن العربي الرّاهن، بما يحتاجه الواقع. فالتّغيير الفعلي لا يكون مجرّد صور ذهنيّة أو أحلام طوباويّة، بل هو تغيير في الواقع، أي تغيير في المجتمع و الدّولة القائميْن، لا الدّولة و المجتمع المتخيَّليْن. و حتّى تكون الوظائف و الأدوار على قدر من الوضوح، فإنّ المثقّف مطالب بأن يكون منتجا للأفكار و الحلول التي تغيّر الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و السّياسي و الثّقافي. و بأن يكون مساهما في رسم السّياسات العمليّة التي تنجز التحوّل الكبير. و ليست السّياسات، تعني ضرورة المشاركة الفعليّة في الحكم، بل من خلال إبداء الرّأي، و الالتزام المطلق بالرّأي النقدي، و بالدّفاع عن مصالح المجتمع، لا الفئة الضيّقة أو الجماعة.
    إنّ المطلوب في هذه المرحلة، هو بناء دولة وطنيّة عصريّة، يكون فيها الفرد مواطنا مكتمل المواطنة، و تكون فيها الدّولة خادمة للفرد، ملبيّة لمطالبه، ساعية به نحو السّعادة. لأن المواطن العربي، ليس أقل شأنا من بقيّة الشّعوب التي سبقته إلى التمدّن و إلى الحرّية و الدّيمقراطيّة و إلى الرّفاه الاجتماعي و الاقتصادي. و جملة هذه المفاهيم و المطالب، هي في صلب اهتمامات الفكر العربي طوال قرن من الزّمان. وقد حان اليوم، زمن تحويل تلك الأفكار و الشّعارات إلى سياسات عمليّة في حدود الإمكانات المتاحة، و في حدود قدرة هذا المجتمع أو ذاك على هضم تلك الإصلاحات أو تقبلّه حركة التّغيير. ونحن على وعي تامّ بأنّ ممكنات التّغيير في الظّرف العربي الرّاهن أصبحت أكثر يسرا، لكنّ هذا لا ينفي وجود عوائق كثيرة مازالت قائمة، قد تجعل المثقّف غير قادر على القيام بوظائفه، حتى و إن رغب في لعب أدوار جديدة. و بما أنّ حركة التّغيير هي حركة طويلة و شاقّة، فإنّه من الطّبيعي أن تكون هناك عوائق تسدّ طريق الممكنات، ومن الطّبيعي أيضا أن يسعى الفاعلون في هذه الحركة إلى منافسة المثقّف، و افتكاك صلاحياته، خاصّة أن الوسائط الجماهيريّة فتحت الأبواب، أمام المشاركة الجماعيّة الواسعة، في صياغة القرار و في ورشات التّفكير. ممكنات الفعل و حدوده و تأثير وسائط الاتصال الجماهير في تداخل الدوار و الوظائف، هي مدار الاهتمام في العنصر التّالي.

VΙ المثقّف و الرّهانات
إنّ رهانات المرحلة كبرى، و مثلما سبق و أن أشرنا في العناصر السّالفة من هذه الدّراسة، فإنّ المثقّف يقف أمام مسؤوليّة تاريخيّة. و لعلّ المسؤوليّة تصبح أكثر جسامة عندما نعمّق النّظر في انتظارات الإنسان العربي من حركة التّغيير التي انطلقت في سنة 2011.
و إذا ما اعتبرنا أنّ مفهوم المثقّف هو مفهوم واسع يشمل النّخب العالمة المختصّة في مجالاتها، و الأدباء و المفكّرين و المتعلّمين و رجال السّياسة وغيرهم ممّن لهم دراية بواقع المجتمع و بتعقيداته، فإنّ الرّهان الأوّل المطروح على هذه النّخبة التي تتّسع قاعدتها باستمرار بفضل انتشار التّعليم، هو الإبداع و الخروج من جبّة التّقليد.
فالمثقّف العربي في فترات سابقة كان مثقّفا مقلّدا لا مثقّفا مبدعا، فهو ينقل القيم و الأفكار التي نبتت و أينعت في بيئات ثقافيّة مغايرة وحاول إخضاع تلك القيم لخصوصيات مجتمعنا العربي، ففشل في اكتساب الحداثة كما فشل في تعصير الأصالة، يقول علي شريعتي في وصف هذا المثقّف:” نحن المثقّفين الذين نفكّر مثل مثقّفي أوروبا تماما، ونتّسم بنفس خصائصهم نختلف عنهم، فهم قد دقّقوا في أخذ حقائق عصرهم وتاريخهم و مجتمعهم و احتياجاته، و اتّسموا على هذا الأساس، و تحرّكوا و عملوا على هذا الأساس، أما نحن فدون سند من العصر ودون سند من مجتمعاتنا وثقافتنا و دون معرفة بالظّروف الاجتماعيّة و العصر التّاريخي و أوضاع شعوبنا و أحوالهم. أخذنا خصيصة واحدة من خصائصهم، واحدة فحسب، وعملنا بها، فأدّت إلى نتيجة عكسيّة في كلّ مكان.”
و عليه فإنّ المنتظر اليوم هو صعود طبقة المثقّف المبدع، الذي يؤمن بمقولة لا شرقيّة و لا غربيّة، بل يؤمن بأنّ النهّضة و التقدّم و التطوّر، هي قيم يجب أن تنبع من الحلول الذاتيّة و من النّقد الذاتي و من العقل العربي النّاقد لذاته أولا و لواقعه ثانيا.
1- ممكنات التّغيير
لعلّه من نافل القول، إنّ هناك مجالات واسعة للتّغيير، و إنّ ممكنات التّغيير باتت حقلا إبداعيّا منفتحا بالنّسبة للمثقّف. و ما على المثقّف إلاّ الانخراط للمساهمة الفعّالة، في استنباط الحلول، و في رسم معالم الطّريق السّريعة التي ستنقل مجتمعاتنا إلى الوضع الذي نحلم به منذ عقود طويلة. إنّ التّغيير يظلّ هو المطلب الثّوري الرّاهن، و هو الرّهان و المطمح، لأنّ مجتمعاتنا ضاقت ذرعا بكلّ أنواع التّخلّف، و لم تعد لها القابليّة للعيش و الاستكانة للواقع المرير الذي سجنت فيه طوال العقود الماضية. يقول عبد المالك التّميمي، معبّرا عن ممكنات التّغيير في المجتمع العربي” في ظلّ ظروف مجتمعنا العربي كأقطار متخلّفة ونامية و مجزّأة جغرافيّا و ثقافيّا تكون المهمّة الأساسيّة للمثقّف العربي هي نقد الواقع بهدف تغييره للأفضل، وهذه المهمّة تتطلّب الإبداع و التّوعية المستمرّة و النّضال الدّؤوب لتكريس القيم و الأهداف النّبيلة للمجتمع ..لذا فهو مطالب بالنّضال من أجل إشاعة حرّية الفكر و تطبيق الدّيمقراطيّة، و إحداث التّنمية الحقيقيّة، هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها إلاّ بأن يكون المثقّف في طليعة المناضلين من أجلها و في الميدان” .
إنّ المستفاد ممّا سبق أنّ ممكن التّغيير الأوّل هو التّنميّة، و هي أحد أهم مطالب ثورات الرّبيع العربي. فالتّنمية هي وسيلة التّغيير الاقتصادي و الاجتماعي، إذ يقول عبد العزيز الدّوري” فالتّنمية تعني تغييرا نوعيّا في بنية الاقتصاد التي تجرّ حتما إلى التّنمية الاجتماعيّة و التّقدّم العلمي و الثّقافي. التّنميّة تشير إلى التّغيير الإرادي في مقوّمات المجتمع” .
ممكن التّغيير الثّاني، و الذي يندرج ضمن اهتمامات المثقّف هو توجيه البحث العلمي نحو العلوم الاجتماعيّة و الاقتصاديّة، التي تصنع التحوّلات في الواقع. و توجيه البحث العلمي نحو هذه المجالات يعني، تجاوز تلك المجالات التي أشبعت بحثا، و التي لا تمكّن من تحقيق التّغيير المنشود، و المستفاد من هذا القول، هو ضرورة انفتاح الجامعة و مراكز البحوث على المحيط الاقتصادي و الاجتماعي من اجل أن يكون البحث العلمي مطابقا لحاجيات الواقع، ودون ذلك سنظلّ ندور في حلقة مفرغة من التّبعيّة و من التّقليد.
ممكن التّغيير الثالث هو المجال التّعليمي، فلا ثورة و لا تغيير، دون تعليم عصري، يستجيب لحاحجيات تطوّر المجتمع، و يحقّق التّنمية المعرفيّة و الثّقافيّة. و ضمن هذا الإطار فإن المثقّف يقف في اللحظة العربيّة الرّاهنة أمام مسؤولية المساهمة في صياغة منوال تعليمي جديد، يختلف عن ذلك الذي يضخّ اصحاب الشهائد العليا في سوق العمل دون أي إمكانات حقيقية لإدماجهم في دورات الإنتاج.
ممكن التّغيير الرّابع، يكمن في تعصير التّفكير الديني، وجعله خادما للتّقدّم، لا مجالا للجذب إلى الوراء. ولعلّ هذه المسألة نالت من حظّ البحث العلمي، ما لم تنله أيّ مسألة أخرى ولكنّ بالرغم من ذلك فإنّ الارتداد الذي شهده هذا التّفكير، و التّمظهرات التي اتّخذها بعد 2011، تعيد إلى الأذهان ضرورة طرح المسألة الدّينية من جديد، بعد أن أصبحت أداة لتفتيت المجتمع. فالتّمظهرات الدّينية التي طفت على السّطح الاجتماعي( حركات إرهابية، جماعات طائفيّة ومذهبيّة تمارس القتل و العنف على الهويّة المذهبيّة، اصطفافات طائفيّة…) برزت و كأنّها ردّة فعل على الواقع، ولكن بدل أن تكون ردّة فعل تطمح إلى المستقبل، وتجعل من الدّين جسر توحيد وصهر و ارتقاء إلى الأفضل، كانت حركات ” انسحاب إلى الماضي” وحركات انغلاق و تشدّد، وهذا يعيق التّقدّم و النّظر إلى المستقبل. يقول المفكّر ياسين الحافظ” إنّ إدانة الواقع الرّاهن، عندما تتحوّل إلى انسحاب صوب الماضي تحجب الرّؤية الكاملة للواقع الرّاهن من جهة و تثقل التحرّك نحو المستقبل من جهة أخرى” . و الحقيقة أنّ المسألة الدّينيّة، في الحالة الرّاهنة لم تعد تثقل التّحرّك نحو المستقبل فقط، بل إنّها تعيقه إعاقة تامّة عن الحركة. و قد لا نجانب الصّواب إذا ما قلنا إنّنا في حاجة إلى حركة تنويريّة جديدة، تجعل الإنسان العربي يكتسب صفة الشّخصية ” البروميثيوسية الفاعلة في التّاريخ المستعيدة نفسها من الألوهة، كالشّخصية التي ولدت في الغرب مع عصر النّهضة” . إنّ الإنسان العربي يحتاج في هذه المرحلة روح الإسلام الأوّل، الإسلام النّقي، الذي قال عنه الحافظ” لقد جاء الإسلام كعامل متمّم و لكنّه حاسم لإنجاز عملية الصّهر و التّعريب، هو الرّحم الذي احتوى أمّتنا العربيّة و حماها من التّفتّت النّهائي.. و لولا لغة القرآن لتشرذمت الأمّة العربيّة كما تشرذمت من قبل الشّعوب اللاّتينيّة” . إنّ هذه الروّح الدّينيّة هي التي نحتاجها في زمننا الرّاهن، لتجاوز حالة الانقسام المميتة.
2- المثقّف و وسائط التّغيير
ما من شكّ في أنّ منتجات الثّورة التّكنولوجيّة، قد غيّرت عالمنا المعاصر، وفتحت الأبواب أمام المجتمعات كي تتواصل، وكي تعمّق الانفتاح، على تجارب “الآخر”، و زادت احتمالات التّأثر و التّأثير، بطريقة جعلت وسائط التّواصل الجديدة تشكّل مجتمعات افتراضيّة غير محددة الهوّية، و عددا من هذه “المجتمعات الافتراضيّة” كان لها الدّور في صناعة التّغيير السيبرني، قبل أن ينقل التّغيير إلى الفضاء الواقعي، عبر الحركات الاحتجاجيّة في عدد من الدّول العربيّة. يقول جوهر الجموسي” وهي فضاءات ناشئة، تحوّلت في كثير من الحالات، من مجرّد فضاءات الكترونيّة للتّعبير إلى حركات اجتماعيّة سياسية موجودة افتراضيّا، وقائمة فعليّا و مؤثّرة ميدانيّا” .
إنّ مثل هذا القول يثبت أنّ هناك فاعلين اجتماعيين “جدد”، يستغلون وسائط التّواصل الجماهيري، ويوظّفونها للتأثير و الإقناع، و لقيادة حركة التّغيير على أرض الواقع، ما يجعل هؤلاء الفاعلين، يستحوذون على مواقع المثقّف و على أدواره أيضا، إذ يقول جوهر الجموسي” إنّ ما أنجزه الفاعل الاجتماعي الافتراضي العربي، الماسك بزمام وسائط الاتّصال، في بلدان الثّورات العربيّة، ينبئ بمعادلة جديدة لتشكّل القوى المدنيّة المؤثّرة في المشهد الاجتماعي و السّياسي و الاقتصادي لبلدانها”
إنّ المثقّف في هذا العالم الافتراضي المفتوح على كلّ التّيّارات، وجب عليه أن يؤسّس لنفسه مكانة ضمن هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين، لأنّ له أسبقيّة الإبداع، و له أسبقيّة الفهم و التّحليل للظّواهر الاجتماعيّة. فالمثقّف يمتلك العنصر الأهمّ وهو المحتوى المعرفي الذي يؤثّث به الفضاء السّيبرني. و إذا كانت تلك الجماعات الافتراضيّة، توظف الإمكانات التّكنولوجيّة من أجل “صناعة العقول” و التّحكّم فيها، وهي جماعات ذوات “هوويات” متعدّدة و مختلفة، فإنّ وظيفة النّخبة المثقّفة هي نقل ساحة الصّراع من الواقع إلى الافتراضي، من أجل عقلنة الفكر و من أجل تعزيز قيمة التّواصل مع الجماهير المتعطّشة للفكر النّير و للرّأي المعتدل. إنّ الصّراع الأكبر الآن هو في الفضاء الافتراضي، و الرّهانات الكبرى لأيّ تحوّل، لن تتحقّق خارج هذا الفضاء، يقول جوهر الجموسي” يقود الافتراضي، ضمن المجتمع المعاصر، تحولات عميقة في المجتمع السّياسي عبر آلياته و برمجياته و تطبيقاته المنوّعة، وعبر الحواسيب و الانترنيت ” و شبكات التواصل الاجتماعي الالكترونيّة، وتعتبر الوسائط المتعدّدة ذات القدرات الهائلة و غير المحدودة، إحدى أقوى الأشكال في نقل الأفكار و البحث عن معلومات وتجربة الأفكار الجديدة.
و لاشكّ أنّ هذه الوسائط تتيح إمكانات أفضل للإبداع و للنّشر الأفكار، أفضل مما كان متاحا، حيث أسقط العالم الافتراضي، كلّ القيود التي كانت تمنع النّخبة من التّعبير عن رأيها، كما أنّ مناخ الحرّية الذي فرضته الثّورات العربيّة و الذي تدعمه وسائط التواصل التكنولوجي، يساهم في تهيئة الظّروف أمام المبدعين كي ينتجوا و يتواصلوا مع الجميع بطرق أيسر و أكثر نجاعة.
3- الحلم العربي إلى أين؟
لقد أثبتت التّجربة العربيّة الرّاهنة أنّ التّحول السّياسي، إذا لم يكن قائما على مرجعيّات معرفيّة و ثقافيّة واضحة، و إذا لم يكن مبنيّا على مشروع ثقافي له أهداف كبرى، فإن التحوّل السّياسي يمكن أن يتحوّل إلى “انسحاب نحو ماض مجهول “و يمكن أن يتحوّل إلى جملة “انفجارات اجتماعيّة”. و التّجربة أوضحت أنّ التّغيير السّياسي دون مرجعيّة فكريّة، يمكن أن يتحوّل إلى عمليّة هدم للدّولة و إلى عمليّة تخريب اجتماعي و اقتصادي و ثقافي، و في كثير من الحالات، إلى تدمير المكتسبات القليلة التي حقّقتها الدّولة الوطنيّة.
وعليه فإنّ الوطن العربي، سيسير إلى المجهول إن لم يقع تدارك الوضع الرّاهن بصياغة مشروع اجتماعي و ثقافي تجاوزيّ. و هذا المشروع لا يمكن تحقيقه إلاّ بإحياء العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة وصياغة منوال تعليمي جديد، يعيد القيمة الرّمزية لجملة المفاهيم تكون تكوّن كينونة الإنسان و ترقى به. و الحقيقة أنّ الحالة الرّاهنة تشهد نقصا واضحا في الاهتمام بهذه المجالات المعرفيّة، التي هي مجال تخصّص الباحثين و المفكّرين و المثقّفين، و هي المجالات التي من خلالها يمكن للمثقّف أن ينهض و أن يساهم مساهمة عمليّة في بناء مسارات التّغيير الشّاملة. يقول فالح عبد الجبّار ” الفجوة المعرفيّة كبيرة. من ينتج المعرفة؟ إنّهم المفكّرون، العلماء المتخصّصون، المثقّفون أو باختصار منتجو المعرفة. لكنّ إنتاج المعرفة، حتّى لو كان في إطار التّذوّق الجمالي للعالم، أو إطار وعي الذّات بحاجة إلى مؤسّسات تنتج هؤلاء المنتجين وتجسّد ثمار فكرهم…و في بلدي العراق، أجرينا بمعيّة نخبة باحثين، مسحا للعلوم الاجتماعيّة في الجامعات العراقيّة، كنّا نتوقّع فجوة بحدود 20- 30سنة، فجعنا بأنّها تزيد على عتبة الخمسين سنة.”
إنّ هذه الفجوة المعرفيّة العميقة، في زمن العولمة و وسائط الاتصال الحديثة، هي التحدّي الأكبر، بالنّسبة للعرب في عالم اليوم. ذلك أنّ عدم تجاوز هذه الفجوة سيعني مزيدا من التّأخر، ومزيدا من التّخلّف، لأنّ نسق التّغيير سريع جدّا، و لن يمكن مستقبلا مجاراته إن لم يتدارك العرب أمرهم، بالاشتغال في هذه المجالات المنتجة للمعرفة. ومن هنا يتأتّى الدّور المحوري للمثقّف، باعتباره منتجا للمعرفة و للثّقافة، ومؤسّسا للدّولة و المجتمع الجديدين.
إنّ الواضح من خلال الحراك العربي الرّاهن، أن العقل العربي، المثقل بتراكمات الماضي، و بالصراعات الإيدييولوجيّة التي تعود إلى عقود خلت، لم يمارس نشاطا سجاليّا بسبب الضغوطات التي كانت تمارسها الأنظمة الاستبداديّة، وقد سمحت الثّورات المندلعة منذ العام 2011، بتفجير كلّ تلك السّجالات و الصراعات الإيديولوجية فيعاد طرح الأسئلة العميقة حول “الإنّية و الغيريّة”، و يعاد طرح قضايا الهوّية، و موقع الإسلام من هذا الحراك الجديد. ومن الطّبيعي أيضا أن تنشأ “معارك” فكريّة بين النّخب المشبعة بحقوق الإنسان، والمؤمنة بالمدنيّة و بقيم الدّولة الحديثة، و بين تلك الأطراف التي تعتقد أنّ المستقبل المنشود يوجد في الماضي المفقود. ولكنّ هذه المعارك لا يمكن لها أنّ تتواصل إلى ما لا نهاية، لأنّ حقيقة الثّورات تكمن في المسائل الاجتماعيّة الاقتصاديّة، لا في المعارك الفكريّة، التي ربّما تحتلّ مرتبة متأخّرة في تفكير الشّباب الثّائر، الباحث عن العدالة و عن الحرّية و عن الكرامة.
إنّ المستقبل، هو نتيجة طبيعيّة لعناصر الحاضر، و العرب لن يسيروا في الطّريق الصّحيح، إلاّ إذا عدّلوا خطط الحاضر، وراهنوا على الدّعائم التي تصنع مستقبلهم المنشود. وهذه الدّعائم قائمة في الواقع، وما على العقل العربي إلاّ وعي الواقع، و وعي متطلّباته، دون “شطح أو ردح أيديولوجي كما يقول ياسين الحافظ. إنّ وعي الواقع هو مهمّة المثقّف الوظيفي بدرجة أولى، ويعني وعي الواقع، فهم المشكلات القائمة، و إخضاعها للتفسير العلمي الدّقيق، حتى تكون الحلول ملائمة للمشكلات، و ليست رتقا لثغرات. و وعي الواقع يقتضي أيضا فهما عميقا للعلاقات مع الآخر الذي تتبدّل صوره و تتغيّر مواقفه من القضايا العربيّة في كلّ حين و آن.
إنّ الواقع العربي، لا يتغيّر في جزيرة معزولة عن تدخّلات القوى الإقليمية، وعن المصالح التي تدفع بتلك القوى للتّدخّل وفق ما تضمنه مصالحها. و الحقيقة أن الحالة الرّاهنة متشابكة ومعقّدة بسبب تداخل خيوط اللّعبة فـ”الأنا” يبدو متشظّيا، و “الآخر”، يستغلّ حالة الضّعف و التفكّك، ليشبّك علاقات جديدة مع تلك الجزيئات المتشظّية عن “الأنا” و التي باتت كلّ واحدة منها ترى نفسها الأحقّ بالسّيادة. و المستقبل لن يكون كما نرتجيه، إلاّ إذا تمّت معالجة هذه الإشكاليات معالجة جذريّة. فالحلم العربي ليس مجرّد أمنيات نطلبها، مع كلّ إطلالة جديدة لذكرى هذه الثّورات، بل هو عمل و تأسيس من أجل الغد.

خلاصة البحث
لقد سعينا في هذه الدّراسة، إلى التّركيز على أدوار المثقّف ووظائفه في العالم العربي الرّاهن، وسعينا إلى التقيّد بالعنصر الأساسي في البحث وهو “الوعي المطابق للواقع”. و نحن على يقين أنّ مساهمتنا، تندرج ضمن إطار توضيح الرّؤى و تحديد المهمّات في مسار التّغيير العربي المنشود. و أوكد هذه المهمّات في نظرنا هي مهمّة المثقّف، باعتبار أنّ الثّورات النّاجحة و النّاجعة في تاريخ البشريّة هي التي كانت لها مرجعيّات فكريّة، وهي التي كان المثقّفون يشكّلون حزاما حولها يمنعها من الانهيار أو من الارتداد. ونحن في أمسّ الحاجة في هذا الظّرف الذي انطلقت فيه حركات التّغيير في إطار عفوي، ثم اتّخذت مسارات معقّدة، إلى العقل الهادئ المفكّر و الرّصين، غير المأخوذ بتشنّجات “الهويّات”، وغير الخاضع لسلطات فرعيّة تسعى لأخذ مكانة السّلطة العليا، التي هي سلطة العلم و المعرفة.
و قد حاولنا في هذه الدّراسة معرفة المجالات التي يمكن للمثقّف أن ينهض فيها بوظائفه و بأدواره، ويستطيع من خلالها تحقيق التّنمية الشّاملة و التّقدّم المنشود. مثلما سعينا في الآن نفسه إلى ربط أدوار المثقّف بالمقولات التي يمكن تحقيقها في أرض الواقع، إذا لا خير في علم لا ينتفع به و لا خير في فكر لا ينهض بالإنسان.
ونحن على يقين أن التّغيير العظيم، هو نتيجة طبيعيّة لأفكار عظيمة و لأفعال عظيمة أيضا، وهنا لا بد من إعادة “ربط الجسور” بين المثقّف الوظيفي الذي يفكّر و يخطّط، بين السّلطة الجديدة، التي لا ترى في المثقّف عدوّا لها بل مكمّلا لها. ودون ربط هذه الجسور، ودون تجاوز علاقات الماضي التي أعاقت التقدّم، فإنّ التّغيير سيكون تغييرا مفتوحا على المجهول.
و لقد راهنّا في هذا البحث، على أهميّة خطاب التّبسيط، باعتبار أنّ إحدى معوقات التواصل بين المثقّف و بين الجماهير، كان ذلك الخطاب المتعالي، الذي يوظّف “لغة تواصليّة” غير جماهيريّة. فمن وظائف اللّغة أيضا أن تكون أداة مساهمة في التّغيير.
إنّ المثقّف في الوضع العربي الرّاهن، تعلّق عليه أمال كبرى من أجل البناء و إعادة الإعمار الرّوحي و الذّهني و الاجتماعي و المادّي أيضا. وهي مهمّات ليست يسيرة أو هيّنة، ولكنّ الواقع يطلبها، و المواطن العربي المكلوم و المقهور ، ينتظرها.
إنّ العالم العربي الرّاهن هو “ورشة” مفتوحة على ممكنات الإصلاح، و الثّورة مسار طويل، ولكن هناك الكثير من العوائق تمّت إزاحتها، و أهمّها تلك الأنظمة الديكتاتوريّة التي تقمع حرّية الرأي و توصد أبواب الإبداع أمام النخبة المثقّفة. وما على هذه النّخبة في الوضع العربي الرّاهن إلاّ إثبات جدارتها، بتحويل الثّورة السّياسيّة إلى ثورة معرفيّة.
تونس في 24 أبريل 2020

قائمة في مراجع البحث

  • إبراهيم العيسوي التّنمية في عالم متغيّر،دراسة في مفهوم التّنميّة و مؤشّراتها، طبعة أولى ، درا الشروق القاهرة، سنة 2000
  • إسعاف أحمد، مقال” إشكاليّة الدّور الفاعل، مجلّة جامعة دمشق- المجلّد 30، العدد 3+4 ، سنة 2014.
  • أنطونيو غرامشي، رسائل السّجن الجزء الثالث ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي.
  • دلال محسن استيتيّة، التغيّر الاجتماعي و الثّقافي، الطبعة الثانية، دار وائل للنشر ،عمّان 2008 .
  • سلمان بونعمان، التّجربة اليابانيّة، دراسة في أسس النّموذج النّهضوي. طبعة أولى مركز نماء للبحوث و الدراسات، بيروت.
  • عبادة كحيلة ، الثّورة و التّغيير في الوطن العربي، مركز البحوث و الدّراسات الاجتماعيّة، جامعة القاهرة، طبعة أولى القاهرة ، 2005.
  • فالح عبد الجبّار، إلى أين يذهب العرب؟
  • محمّد عابد الجابري، المثقّفون في الحضارة العربيّة، محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة الثانية .
  • جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، طبعة أولى، دار صادر بيروت 2000، الجزء 11.
  • جون بول سارتر، دفاع عن المثقّفين، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت 1973.
  • جوهر الجموسي، الافتراضي و الثّورة، مكانة الانترنيت في نشأة مجتمع مدني عربي، المركز العربي للأبحاث و دراسة السّياسات،الطبعة الأولى، بيروت 2016.
  • حسين مؤنس، الحضارة، دراسة في أصول و عوامل قيامها و تطوّرها،الطبعة الثّانية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1998.
  • د. سيّار الجميل، مقال “مفهوم المثقّف العضوي و دوره في التّغيير”، بتاريخ 29 ديسمبر 2007 http://www.sayyaraljamil.com
  • رياض قاسم، الثّقافة و المثقّف في الوطن العربي، طبعة ثانية ،مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت 2002.
  • زياد حافظ، العقل العربي و التّجدّد الحضاري، منتدى المعارف طبعة أولى بيروت 2017.
  • طوني بينيت و لورانس غروسبيرغ، وميغان موريس، مفاتيح اصطلاحية جديدة،، ترجمة سعيد الغانمي المنظمة العربيّة للتّرجمة ، بيروت، طبعة أولى، 2010 .
  • عبد الحسين شعبان، إلى أين يذهب العرب؟ رؤية ثلاثين مفكّرا في مستقبل الثورات العربيّة، طبعة أولى مؤسسة الفكر العربي، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت 2012.
  • عبد العزيز الدوري، مقال تعرف المشروع الحضاري وتجاربه و تطوّره، من كتاب نحو مشروع حضاري نهضوي عربي، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005.
  • عبد الله العروي، العرب والفكر التّاريخي، الطّبعة الثّالثة، المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء 1992.
  • عبد المالك التميمي، مقال “بعض إشكاليات الثقافة و النخبة المثقّفة في مجتمع الخليج العربي المعاصر” من كتاب الثقافة و المثقف في الوطن العربي، مرجع سبق ذكره.
  • علي أسعد وطفة، مقال “المثقّف النّقدي مفهوما ودلالة” مجلّة الطريق ، بيروت ، العدد 11
  • علي شريعتي، مسؤولية المثقّف،ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا ، دار الأمير للثّقافة و العلوم، بيروت 2007 .
  • فريديريك معتوق، مقال “علومنا الاجتماعيّة و المسأليّة المفقودة”، مجلة الفكر العربي السنة6 العددان 37-38 ، كانون الثاني 1985.
  • فواز طرابلسي، الديمقراطيّة ثورة، دار رياض الرّيس للنشر ، بيروت 2012.
  • كمال بالهادي، منوال التنمية في فكر ياسين الحافظ، دراسة نقديّة لمشروع مستقبلي، طبعة أولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2015.
  • محمّد الإخصاصي، مقال ” الإصلاحات في المغرب: الحصيلة و المستقبل، من كتاب مستقبل التّغيير في الوطن العربي(مجموعة مؤلّفين)، الطبعة الأولى مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت 2016..
  • محمّد عبد الباقي الهرماسي، مقال “المثقّف و البحث عن نموذج” من كتاب الثّقافة و المثقّفين في الوطن العربي مرجع سبق ذكره.
  • ياسين الحافظ، الأعمال الكاملة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت 2005.
  • يوسف عناد زامل، مقال سوسيولوجيا التّغير قراءة مفاهيمية(في ماهية التّغير واتجاهاته الفكرية)،كلية الآداب، جامعة واسط، موقع المجلات العلمية العراقية http://www.iasj.ne
    الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post تقاطع القمع السياسي مع الجندر
Next post إشكاليات حماية المستهلك في بلجيكا